العزّ الدمشقيّ

م. محمد عادل فارس

من حقنا أن نفخر بعظمائنا، ومن واجبنا أن نقتدي بهم في جوانب العظمة التي امتازوا بها.

وإن أعظم العظماء سيدنا رسول الله محمّد صلّى الله عليه وسلّم الذي حاز جوانب العظمة كلها في أرقى تجلياتها: إيماناً وتقى، وحكمةً وذكاءً، وصبراً وشكراً، وتواضعاً وشجاعة...

وجاء العظماء من هذه الأمة ليظهر في كل منهم جانبٌ من العظمة أو جوانب، فكان منهم أبو بكر وعمر، وأبو عبيدة وخالد، وابن مسعود ومعاذ... والحسن البصري وسعيد بن جبير، وأبو حنيفة والشافعي، والبخاري ومسلم، والعز بن عبد السلام وابن تيمية، وصلاح الدين وقطز، وحسن البنا وسيد قطب، وغيرهم وغيرهم وغيرهم... رضي الله عنهم ورحمهم وجزاهم عن الأمة خيراً.

وحين يعجز أحدنا، أو يضعف، عن الاقتداء بالمثل العليا التي امتاز بها أولئك العظماء، فلا أقل من الاعتراف بعجزه أو ضعفه، والاستعانة باللّه لعلّه سبحانه يلهمه السداد والرشاد، ويمنحه الهمّة والتوفيق ليقدّم من نفسه أنموذجاً للمسلم كما قدّموا.

وحديثنا في هذه السطور عن الإمام أبي محمد عز الدين عبد العزيز بن عبد السلام السلمي الشافعي، أو باختصار: العز بن عبد السلام، الذي وُلد في دمشق سنة 577 للهجرة، والذي جمع بين الزهد والشجاعة والعلم، والذي لُقّب بسلطان العلماء، وببائع الملوك.

ولعلّ مفتاح شخصيته هو ذلك الإيمان الذي ملأ قلبه وجعله واثقاً باللّه وبوعده، وأن الحياة والموت والرزق... بيد الله وحده، فكان زاهداً في الدنيا، شجاعاً لا يهاب إلا الله، وكان مع ذلك مقبلاً على العلم حتى كان إماماً من أئمة المسلمين في الفقه والأصول والتفسير واللغة... وكان مُفتياً وقاضياً.

قال فيه الحافظ الذهبي: بلغ درجة الاجتهاد.

وقال فيه ابن العماد الحنبلي: شيخ الإسلام الإمام العلامة وحيد عصره، سلطان العلماء، برع في الفقه والأصول واللغة العربية، فاق الأقران.

اشتُهر بمناصحة الحكام ومعارضتهم (يتدخل في السياسة)، مع أن حكام زمانه لم يكونوا علمانيين، لكن كانت تصدر منهم مظالم فيقوم الإمام العز بإنكارها عليهم.

من شيوخه: فخر الدين بن عساكر، وسيف الدين الآمدي.

ومن تلامذته: ابن دقيق العيد، وأبو شامة المقدسي.

ومن مؤلفاته: مجاز القرآن، وقواعد الأحكام في مصالح الأنام، وتفسير العز بن عبد السلام.

وكان يعلّم طلابه مواقف البطولة والشجاعة مثلما يعلّمهم الأحكام.

وكان أيام "الملك الأشرف موسى" الأيوبي خطيباً للجامع الأموي بدمشق، ثم آل الأمر إلى "الملك الصالح إسماعيل" الذي تحالف مع الصليبيين، وسلّم إليهم صيدا والشقيف وصفد وغيرها من حصون المسلمين، بمقابل أن يؤمّنوا له الحماية، وأذِنَ لهم بدخول دمشق وشراء السلاح، فغضب العز وصعد منبر المسجد الأموي وذمّ موالاة الأعداء، وقبّح الخيانة، وشنّع على السلطان. ثم إنه غادر إلى بيت المقدس، فأرسل إليه الصالح إسماعيل رسولاً يقول له: بينك وبين أن تعود إلى مناصبك وزيادة: أن تقبّل يد السلطان. فقال العز: (ما أرضاه أن يقبّل يدي، فضلاً عن أن أقبّل يده. يا قوم، أنتم في واد، وأنا في واد، والحمد لله الذي عافاني مما ابتلاكم به).

ثم إنه توجّه إلى مصر فاستقبله هناك الملك الصالح أيوب فأكرمه وعيّنه في خطابة جامع عمرو بن العاص وقضاء القضاة. ولكن هذا الإكرام لم يمنعه من الجهر بالحق، بل إنه وقف موقفاً أقرب إلى الخيال حيث أمر ببيع السلاطين الذين كانوا في الأصل من الأرقّاء وتدربوا تدريباً عسكرياً وتولَّوا مناصب عالية... وحين رأى أنهم تمالؤوا عليه ركب حماره وغادر القاهرة، وشاع الخبر وسار الرجال والنساء والصبيان نحو الشيخ العزّ حتى اضطُر الملك إلى النزول على فتوى الشيخ!!.

وكان للشيخ مواقف أخرى عظيمة، فقد قام ببثّ روح المقاومة في نفوس الناس لقتال التتار حتى كانت موقعة عين جالوت بقيادة المظفّر سيف الدين قطز، وبمشاركة الإمام العزّ الذي نادى في أهل مصر: اثبتوا واستعدوا وجاهدوا، وأنا أضمن لكم على الله النصر... وجمع الأمراء وذكّرهم بنعم الله عليهم، ونبّههم إلى واجباتهم تجاه دينهم، فانقادوا له، وتسابق الناس إلى الجهاد حتى بلغوا بيسان (في الوسط الشرقي من فلسطين) في رمضان 658ه، وحقّق الله لهم النصر المبين.

وهكذا قضى الإمام حياته، بين طلب العلم ونشره، وبين مناصحة الحكام ومعارضتهم، وبين قتال الصليبيين والتتار حتى توفّاه الله سنة 660ه. فكان معْلَماً من معالم الحق والرشاد والجهاد، وعَلَماً من أعلام الأمة المباركة.

رحم الله العزّ بن عبد السلام وهيّأ للأمّة أمثاله.