أرأيت الذي يكذّب بالدين؟

عبد الودود يوسف

عبد الودود يوسف

حكايات من القرآن الكريم

للفتيان والفتيات

- 9 -

"حكايات عن القرآن الكريم للفتيان والفتيات.

* هي سلسلة من القصص الشائق تعمل على توضيح معاني القرآن الكريم بلغة مبسطة وصور معبّرة تجتذب إليها القارئ.

* وهي باب طريف في الأدب الإسلامي ولون جديد من التفسير العريق.

* وهي ثمرة خيرة طويلة وتجارب سابقة في مخاطبة الجيل الناشئ والتجاوب مع ذوقه، جزى الله مؤلفها أعظم الأجر.

* يحتاج إليها الجدّ الكبير والطفل الصغير، فالكل يستطيعون قراءتها وفهمها.

* تتناول تفسير سور القرآن بالترتيب ابتداء من نهاية الجزء الثلاثين".

يتيم

لم يعرف سلوان لماذا كانت أمه تبكي؟

صباح ذلك اليوم رأى عمه مشغول البال حزيناً، يدخل إلى غرفة أبيه ويخرج منها. اقترب سلوان من أمه وقال لها:

- لماذا تبكين يا أمي؟ أما زال أبي مريضاً؟

همست: لقد استراح أبوك يا بني..

لم يفهم سلوان كلام أمه، فلماذا تبكي أمه إذا كان أبوه قد استراح؟!! لكن الناس كثروا في بيتهم، كانوا جميعاً يهتمون به، وآخر النهار رآهم يحملون تابوتاً، ويهللون ويكبرون، أخذوه معهم، رآهم يدفنون أباه الملفوف بالأقمشة الملونة في قبر، فعرف أن أباه قد مات، فلما عاد إلى بيته مع أمه كان يبكي طوال الليل والنهار.. لقد مات أبوه.. وهل لدى سلوان أحد أغلى عنده من أبيه؟!..

كان يحبه.. ويلاعبه، ويأتيه بالهدايا كل يوم، والآن أصبح يتيماً لا أب له، بعد أن مات أبوه، لكن أمه بقيت معه، كانت تحمله وتلاطفه وتداعبه لعله ينسى مصيبته، كانت تأتيه بالهدايا، وتحكي له الحكايات، كان يحبها جداً لم يبق هناك من هو أغلى عنده من أمه.

مضت ثلاثة أشهر، وكاد سلوان ينسى حزنه على أبيه، لكنه ما كان يعرف لماذا كانت أمه تفيق صباح كل يوم وعيناها حمراوان مثل الدم، ووسادتها مبتلة بالماء؟!!.

كان يراها تبكي في صلاتها، فيظن أنها تبكي خوفاً من الله.. نام تلك الليلة معها، ولم تكن تستطيع أن تخفي عنه بكاءها كعادتها، بكت، وبكت، وبكت، وجلس هو يبكي معها، فلما رأته يبكي زاد بكاؤها، ثم صارت تشهق شهقات عالية.

صرخ: أمي.. أمي..

ثم رآها تسكت فجأة. اقترب منها فرآها صامتة لا تتحرك، وضع يديه حول عنقها ونام، أفاق عند طلوع الفجر فأمسك بيدها ليقبلها كعادته كل صباح لكنها لم تلتفت إليه، أخذ برأسها وهمس لها: ماما.. ماما.. لكنها لم تجبه، صرخ: ماما.. ماما.. أنا جائع أريد الطعام، لكنّ أحداً لم يرد عليه، جلس يصرخ ويبكي دون فائدة.. طرق باب بيته فصرخ:

- ماما.. الباب يطرق.

أسرع إلى الباب وفتحه، رأى عمه الذي سأله:

- لماذا تبكي يا سلوان؟!

صرخ به: أنا جوعان، وماما لا تطعمني.. إنها لا تسمع كلامي.

أسرع عمه إلى داخل البيت مع زوجه، وقف أمام أم سلوان وهمس:

"إنا لله وإنا إليه راجعون".

بينما كانت زوجه تصرخ وتبكي.. ضمه عمه إلى صدره وبكى..

زاد عدد النساء في بيت سلوان، كان الجيران يدخلون وهم يبكون وفي آخر النهار رأى تابوتاً فعرف أن أمه قد ماتت.

كان يتيماً بسبب موت أبيه، والآن أصبح يتيماً مرة ثانية حين ماتت أمه، لم يبق له في الدنيا أحد إلا عمه..

في دار عمه

كان عمه يحبه جداً، ويعطف عليه، كان يأتيه بالهدايا كل يوم، فكان سلوان يوزع الهدايا على أولاد عمه، وكان أولاد عمه يحبونه، لكن زوجة عمه كانت تكرهه، لم يعرف لذلك سبباً. كان يختفي حين يدخل عمه البيت حتى لا يعطيه شيئاً كي لا تغضب زوجة عمه، لكن عمه كان يسأل عنه: أين سلوان؟ تفضل يا بني، خذ، هذه الهدية لك.

كان يأخذ الهدية من عمه ويضعها في حضن زوجة عمه ويهمس:

- أنا لا أحب هذه الهدية.

 كان عمه يشعر بكرامته وذكائه حين كان يفعل ذلك فيزيد حبه له، بينما يزداد كره زوجة عمه له.

صارت زوجة عمه تعامله بقسوة، كانت تحاول إيذاءه، ثم أخذت تضربه وتشتمه، كانت تؤذيه إيذاءً شديداً، كانت تدعُّه. نعم تدعُّه، أي "تؤذيه" لكنه كان لا يظهر لها إلا المحبة.

لم يعرف لماذا بقي المصباح مشعلاً تلك الليلة في غرفة عمه، اقترب فسمع زوجة عمه تصرخ:

- أنا لا أحب ابن أخيك سلوان، لا أريده في بيتنا.

أجابها عمه: إن سلوان يتيم، لا أب له ولا أم ولا بيت، وهو ذكي وشهم، إنه ابن أخي.

صرخت: إنك تحبه أكثر من أولادك، وأنا لا أستطيع الصبر على هذا.

رجع سلوان إلى فراشه وراح يبكي، كم يحبه عمه، وكم يحب أن لا يزعجه، ذكر ما كان يعلمه أبوه، كان يقول له: يا بني إذا ضاقت بك الأحوال، فتوجه إلى الله، وادعه أن يفرّج عنك، فإن الله سيحفظك.

فكر طويلاً، ثم عزم على أن ينفذ أمراً..

سلوان ماذا سيفعل؟؟؟

أذّن المؤذن لصلاة الفجر، فتوضأ وصلّى الفجر، ثم رفع يديه إلى السماء وقال:

"يا ربِّ فرّج همّي، يا ربِّ فرّج همّي، واحفظ سعادة عمي وأولاده وزوجه".

زاد تصميمه على تنفيذ ما نواه.

كاد الحزن يقتله، لكنه كان يعتقد أن الله سيحفظه..

فوجئ صباح ذلك اليوم بعمه يقترب منه، وينظر إلى شعره بدهشة عظيمة، عجب له، ثم رآه يبكي، زاد عجبه، ولم يعرف لماذا يضع عمه يده على رأسه ويمسح له شعره، اجتمع حوله أولاد عمه وصاروا ينظرون إليه، اقتربت منه زوجة عمه والدهشة تملأ وجهها، حار لماذا يفعلون ذلك معه.. ضمه عمه إلى صدره، وأخرج من جيبه كل ما فيها من نقود ووضعها بين يدي سلوان، كانت كثيرة، وفوجئ الجميع عندما أخذها سلوان ووضعها في جيبه..

غادر عمه البيت فاقترب سلوان من المرآة ليمشط شعره، فرأى شعره قد أصبح أبيض، فعرف لماذا بكى عمه، لم يعرف لماذا حدث له ذلك، لكنه لم يهتم، بل زاد تصميمه على تنفيذ ما نوى أن يفعله.

وداعاً..

صاحت زوجة عمه: سلوان، تعال يا حبيبي، هل تأتينا بالخبز يا بني؟!..

ابتسم وهمس: نعم.. نعم..

قالت له: خذ هذا الدينار، إياك أن تضيعه إن عمرك عشر سنين.

أجابها: ما رأيك أن أدفع ثمن الخبز من النقود التي أعطاني إياها عمي؟؟..

همست له: كما تريد يا سلوان، هيا اذهب..

أسرع سلوان وعاد بعد دقائق وقد اشترى الخبز، ففرحت به زوجة عمه، همس لها:

- لقد نسيت يا ماما أن أدفع للفران ثمن الخبز، سأذهب لأدفع له حقه.

صاحت به: هيا اذهب..

نظر سلوان إلى زوجة عمه وإلى أولادها، ثم دار في أنحاء الدار ينظر إليها قطعة قطعة كأنه يودعها، رأى صورة عمه على الطاولة، فوضعها في جيبه، وأسرع خارجاً وهو يقول: يا رب اكتب لي من عندك فرجاً..

أسرع إلى "الكاراج" فسمع السمسار ينادي: راكب لجفنة.

ركب معه، وطارت السيارة بعد لحظات إلى مدينة (جفنة) التي كانت أبعد مدينة في بلدهم، كان يريد أن لا يراه عمه ولا يسمع به، كان يحب أن لا يزعج زوجة عمه ولا أولاد عمه، لقد وضع صورة عمه في جيبه لينظر إليها حين يشتاق إليه.

مسكين؟..

نزل سلوان من السيارة في مدينة جفنة، وراح يتجول في أسواقها، كان يقول في نفسه: لن تؤذيني زوجة عمي بعد اليوم، لن تدعَّني.. سأريح عمي مني ومن همي.

دخل سوق الحدادين والنحاسين فرأى أنواع المواعين المختلفة.. رأى الفؤوس والطناجر والملاعق والأطباق والزجاجات والسكاكين والخناجر والسيوف. عجب سلوان لهذه الأنواع من المواعين، قال لنفسه": لماذا لا أشتري ماعوناً من هذه المواعين، ثم أذهب وأبيعه في أنحاء المدينة، فأربح به بعض الدراهم، ثم أشتري ماعوناً آخر وهكذا حتى يصبح معي بعض المال فلا أحتاج إلى  أحد؟!!".

اقترب من حانوت رجل رآه يصنع الطناجر والصحون، سلّم عليه وسأله:

- بكم تبيعني يا عم صحناً من هذه الصحون؟

أجابه العم أبو أحمد صاحب الحانوت: ثمنه عشرة دراهم يا بني.

أحصى سلوان نقوده كلها فلم تزد على ثلاثة دراهم. نظر إليه أبو أحمد وقال له:

- هل تعمل عندي يا بني؟

فرح سلوان بهذه الفكرة، وأجابه: نعم.. نعم.. أعمل عندك..

قال له: تعمل عندي بثمن طعامك.

أكمل سلوان: وأنام عندك في هذا الحانوت.

قبل المعلم أبو أحمد شرط سلوان، ودخل سلوان إلى الحانوت ليتعلم من أبي أحمد أساليب صناعة الصحون والطناجر. كان العم أبو أحمد عجوزاً يزيد عمره عن ستين عاماً، لكن صحونه كانت في غاية الروعة والمتانة، فرح بنشاط سلوان وذكائه وفطنته، فزاد في إكرامه، كما فرح سلوان بكرم أبي أحمد وأخلاقه ونبله وعفته وقوة دينه.

كان يرعاه كابنه ويعلمه أسرار صناعة المواعين بصبر وحلم، لم يكن يغضب منه إذا أخطأ، ولا يوبخه، وكانت أم أحمد عجوزاً مثل زوجها، ليس لها ولد، أحبت سلوان وصارت ترعاه كأنه ابنها، وعزمت على أبي أحمد أن يأتي به إلى بيتهم لينام معهم. وهيأت له فراشاً نظيفاً، وصنعت له بيديها ثياباً جديدة رائعة الألوان.

كان سلوان يحمد الله كل يوم ألف مرة أن فرّج همه، وهيأ له هذا الرجل الكريم، وهذه المرأة الطيبة ليعيش معهما بسلام، لكن هل تدوم هذه الحياة الطيبة؟

ماذا جرى؟؟

صلى أبو أحمد صلاة الصبح في المسجد، وعجب لسلوان حين رآه قد سبقه إليه، فلما انتهت الصلاة أخذ بيده وعادا إلى البيت معاً. قال له:

- سنذهب الآن إلى الحانوت يا سلوان.. لدينا عمل كثير، فقد أوصانا شيخ قرية شمبين أن نصنع له خمسين صحناً.

همس سلوان: سأسبقك إلى المحل لأوقد النار في الكير..

أسرع سلوان وهيأ الفحم والحطب وأشعل النار، بينما كان أبو أحمد يقص النحاس، توهجت النيران في الكير، وبدأ العمل. كان سلوان يعاون أبا أحمد في تبريد قطع النحاس بعد تطريقها، وفجأة صرخ العم أبو أحمد ثم وقع على الأرض دون وعي. أسرع سلوان إليه فرأى قطعة كبيرة من النحاس الحامي قد وقعت على رجله فأحرقتها، فأسرع ليرفعها عن رجله فوجدها قد لصقت بها، صب عليها الماء ليبردها أسرع الجيران إلى أبي أحمد وحملوه إلى الطبيب، فضمد له رجله، فلما أفاق حملوه إلى بيته.

كان سلوان يبكي بصمت حين كان يرى العجوز أم أحمد تسهر طويلاً لترعى زوجها الذي كان يئن من شدة آلام رجله، وبعد شهر مرضت أم أحمد من شدة تعبها وسهرها على زوجها ولم تتحسن رجل أبي أحمد إلا قليلاً.. كان سلوان يسهر عليهما ويخدمهما لكنه لم يكن يتصور أن يستمر مرض أبي أحمد وزوجه شهوراً كاملة.

خرج سلوان من بيت أبي أحمد صباح ذلك اليوم والحزن يكاد يقتله، لم يبق في بيت أبي أحمد ولا حانوته أي شيء يبيعه، لقد باع كل ما لديه من أدوات ومواعين ليشتري بثمنها الدواء والطعام، كان سلوان يبكي بصمت، فهو لم يذق طعاماً منذ يومين، وأبو أحمد وزوجه يكادان يموتان من الجوع، فماذا يفعل؟..

خرج من بيتهم ملهوفاً يسير في شوارع جفنة يفكر ماذا يفعل؟.. يجب أن ينقذ أبا أحمد وزوجه من الموت جوعاً.

دخل سوق الخضار فرأى رجلاً ينتظر من يحمل له سلتين من الفاكهة، اقترب منه وقال له:

- أتريد من يحمل لك هاتين السلتين يا عم؟..

نظر إليه الرجل باستعلاء وقال له: نعم.. نعم.. هيا احملهما وامش خلفي.

حمل سلوان السلتين.. شعر أنهما ثقيلتان، وكان هو مريضاً، فهو لم يأكل منذ يومين وكان المكان بعيداً، كاد ثقل السلتين يقتله، عجب حين رأى صاحبه يسير نحو بيت أبي أحمد فلما وصل إلى بيت أبي أحمد دخل الرجل البيت الملاصق له، فرح سلوان وقال في نفسه:

- إن جارنا غني، ولو أخبرته بخبر أبي أحمد فسوف يساعده.. لاشك أنه جاره.

دخل مع صاحبه إلى بيته فوجده قصراً رائعاً، وضع السلتين بهدوء، وراح يفكر بوسيلة ليبدأ الحديث مع جارهم الغني، وليخبره بحال أبي أحمد وزوجه عساه يساعدهما، وفرح جداً حين قال له صاحبه:

- ألست أجير أبي أحمد؟

فأجابه: نعم. نعم..

لكنه صعق حين قال له ذلك الرجل: حسناً.. اذهب وقل لأبي أحمد إن جارك كرواع سيعطيك أجرك.

همس له بأدب: أرجوك أعطني الأجر الآن فأبو أحمد مريض يحتاج إلى الطعام، إنه لم يأكل منذ يومين.

صرخ به الرجل: قلت لك اذهب الآن.

ارتجف سلوان من الغضب وصرخ به: جارك أبو أحمد مسكين فقير لا يجد الطعام، والله أمرك أن تساعده، وتحض الناس على أن يعطوه ما يكفيه، وأنت لا تعطيني حقي لأنقذه؟!.. أعطني أجري حتى أنقذه من الموت وأنقذ زوجه..

فوجئ سلوان بجارهم الغليظ يقفز إليه ويضربه ضرباً شديداً ويصرخ به:

- يالك من يتيم قذر!!

سقط سلوان على الأرض من شدة الضعف والألم، فجره الرجل وألقاه في الزقاق وأغلق باب داره.

كان يصرخ: يتيم، لئيم، يريد مني أن أعطي مالي لجاري، كما يريدني أن أحض الناس على معاونته وهل عندي وقت لهذه السخافات؟!!.

نهض سلوان بصعوبة وهو يبكي، ويكاد يموت من الجوع والألم، رأى من بعيد رجلاً مسرعاً، فابتعد عن طريقه، لكنه رآه يقترب منه، ثم يقف أمامه، همس له:

- هذه عشرة دنانير لك ولأبي وأحمد يا بني.

أفاق سلوان على هذه المفاجأة فابتسم، وقال للرجل الكريم:

- هي قرض سأوفيه لك يا عم إن شاء الله.

لكن ذلك الرجل لم يسمعه، لقد أسرع بعيداً.

هل جاء الفرج؟

طار تعب سلوان ونسي مرضه وآلامه، وقفز إلى أول بائع رآه، واشترى جبناً وخبزاًَ وفاكهة ولحماً وأسرع إلى البيت. كاد يجن حين دخل البيت فرأى أبا أحمد وزوجه لا يحسان بأحد. بكى بحرقة هائلة، وهمس:

"يا رب لا تحرمني من أبي أحمد وزوجه".

فوجئ حين رأى أبا أحمد يفتح عينيه ويهمس: ماء.. ماء..

أسرع فصنع له عصيراً وراح يسقيه منه، ويسقي زوجه، حتى شبعا، وتناول هو قليلاً من الطعام حتى شبع أيضاً، ولم يشعر أنه قد نام في مكانه، أفاق فرأى أم أحمد تقف عند رأسه، فرح بها لأنها شفيت، لكنه كان يشعر بألم هائل في رأسه، وضعف شديد في جسمه كله، همس أبو أحمد من فراشه:

- الحمد لله، لقد شفاك الله يا بني.

عجب سلوان لقوله هذا، وهمس:

- وهل أنا مريض يا عم؟!..

ضحكت أم أحمد وهمست:

- منذ أسبوعين وأنت نائم يا بني..وها أنت قد شفاك الله كما شفاني، وبقي أن يشفي الله أبا أحمد تماماً بعد أن شفي جرحه.

وبعد بضعة أيام أصبح سلوان قوياً، وعافاه الله من مرضه. سأله أبو أحمد:

- من أين أتيت بالدنانير العشرة يا بني؟!!

فحكى له ما جرى معه ومع جاره "كرواع".

تمتم أبو أحمد والغضب يملأ وجهه:

- ويل كرواع، إنه لئيم، ألم يعلم أن الله أخبرنا أن من يدعُّ اليتيم، ولا يحضُّ على طعام المسكين هو مكذِّب بالدين؟!.. يا ويله يدَّعي أنه من المسلمين ويضربك ويؤذيك، ويشتمني؟!.

همست أم أحمد: أرأيت الذي يكذب بالدين، فذلك الذي يدعُّ اليتيم، ولا يحضُّ على طعام المسكين.

فرح سلوان بهذه الآيات جداً، رفع رأسه وقال:

- إذاً قد جعل الله الذي يؤذيني أنا اليتيم مكذباً بدينه، ما أعظم الإسلام، وما أروعه، الحمد لله.. الحمد لله..

طرق باب بيتهم فجأةً، فأسرعت أم أحمد لترى من القادم إليهم، ولم تكد تصل إلى الباب حتى سمعت صوتاً يصرخ:

- أنا جاركم كرواع يا أبا أحمد، إني أدعوك مع سلوان اليتيم إلى حفلة افتتاح المسجد الذي بنيته في حارتنا.

عجب أبو أحمد، وهمست أم أحمد:

- وهل يعمر مساجد الله من يكذِّب بالدين؟!!!..

لكن أبا أحمد قال لها:

- وما يدريك أن يتوب جارنا كرواع؟..

كرواع لماذا بنى المسجد؟

خرج سلوان مع أبي أحمد الذي كان يستند على عكازة ليريا مسجد كرواع. كان كرواع يتبختر كالطاووس أمام المسجد الذي بناه. ويستقبل أهل الحي بكل تكبر، فلما اجتمعوا كلهم وقف كرواع وصاح:

- تفضلوا وانظروا إلى هذا المسجد العظيم الذي بنيته. ألست عظيماً أيها الجيران؟.. لقد كلفني هذا المسجد مئات الألوف، ألست كريماً..؟.. أنا أكرم رجل في العالم، فماذا تقولون؟..

لم يجبه أحد منهم. نظر إليهم بغضب وصرخ:

- أظنكم توافقون على أني أعظم وأكرم رجل في العالم.

همس سلوان: إن عملك هذا يرضي الله...

صرخ كرواع: أعرف أن الله راضٍ عني لكنني أريدكم أن تعرفوا أنتم أنني كريم وعظيم.

همس أبو أحمد: إنه لا يريد أن يرضى الله عن عمله: إنه يريد أن يرضى الناس عنه، إنه يرائينا، وهمس الجيران:

- إنه يعبد نفسه يريدنا أن نمدحه ونحمده، ما أتعسه، إنه ينسى أن الله سيبطل عمله لأنه يرائي الناس.

حان وقت صلاة العصر، فأذن المؤذن، تقدم كرواع وصلى بالناس إماماً، وما كاد ينتهي حتى التفت إلى المصلين وهمس لهم:

- إن صلاتكم هذه هي أحسن صلاة صليتموها في حياتكم.. لأني إمامكم.. إن صلاتي خاشعة رائعة، فما رأيكم؟..

غضب الناس وهمسوا: لا شك أن كرواع قد فقد عقله، إنه من المرائين..

ترك أهل الحي المسجد، وعادوا إلى بيوتهم، وهم يهمسون:

- ما أتعسك يا كرواع!..

وجلس أبو أحمد يحكي لأم أحمد ما فعله كرواع، لكن أم أحمد كانت حزينة. عجب أبو أحمد لها. اقترب منها سلوان وهمس لها:

- كم بقي لدينا من الدنانير؟..

دمعت عيناها وتمتمت: ثلاثة دنانير فقط. ولا أدري إن كنا سنجوع بعدها.

ابتسم سلوان وهمس: لا.. لا.. هاتي الدنانير لأرى ماذا سأفعل بها.

كان سلوان يتظاهر بالسرور، لكن قلبه كان يتمزق من الحزن والألم، ماذا سيفعل؟! همس لأبي أحمد الذي عاد من حفلة افتتاح جامع كرواع متعباً جداً:

- سأذهب إلى السوق، وأعود بعد ساعةٍ.

خرج سلوان وهو لا يرى طريقه من الهم والحزن, أحس فجأةً بطفل يصرخ بين قدميه، لقد صدمه دون أن يدري، حمله من فوق الأرض، وراح يداعبه، رأى في يده لعبة على شكل جمل من خشبٍ أخذها من يده لينظر إليها، بكى الطفل فأعادها إليه، وسار وهو يفكر:

- لماذا لا أصنع لعباً للأطفال من نحاسٍ؟!

عاد إلى البيت مسرعاً، فوجئ به أبو أحمد، قال له:

- ياعم فكرت أن أصنع لعباً من نحاس، فما رأيك؟

همس العجوز: إنها فكرة عظيمة، لكنها تحتاج إلى مهارة عظيمة..

صاح سلوان: أنت تعلمني، وأنا أصنع اللعب.

وافق أبو أحمد، وأسرع سلوان إلى السوق ليشتري الأدوات اللازمة، فلما عاد رأى أبا أحمد يرسم على ورقة صورة حصان. فرح به، أخذ أبو أحمد خشبة وسكيناً، وراح يصنع تمثالاً للحصان الذي رسمه. فلما فرغ منه صاح لسلوان:

- خذ يا سلوان، اصنع تمثالاً من نحاس مثل هذا الحصان.

أمسك سلوان رقائق النحاس وبدأ يحاول أن يصنع منها حصاناً مثل حصان أبي أحمد. كان أبو أحمد يراقبه وهو يطرق النحاس ويكبسه ويلفه، كان يعمل بمهارةٍ وحرصٍ شديد.

انتهى النهار ولم ينته حصان سلوان، فسهر عليه حتى أنهاه. أخذه منه أبو أحمد ونظر إليه، فرأى عنقه طويلاً، وأرجله قصيرة، ولا ذنب له. قال لسلوان:

- حسناً فعلت يا بني، قم الآن إلى فراشك، وستصلح غداًَ ما أخطأت في هذا الحصان.

نام سلوان مهموماً حزيناً لأنه لم يصنع حصاناً جميلاً. رأى في منامه رجلاً كبير السن قوي العضلات يصنع حصاناً، وهو يتفرج عليه، فقال له:

- علمني حتى أصبح مثلك ماهراً.

فعلمه حتى صنع سلوان حصاناً رائعاً، فرح به جداً. قال الرجل في منامه:

- لماذا لا تصنع فارساً يركب على هذا الحصان يا سلوان؟

وعلمه كيف يصنع الفارس. فصنعه، فكان فارساً رائع الجسم، يحمل سيفاً ورمحاً وسهماً. صرخ بأعلى صوته:

- فارسٌ مجاهدٌ.. فارس مجاهد.

أحسَّ بيد باردةٍ تمسح رأسه فاستيقظ فوجد أم أحمد تقف قربه سألته:

- ومن هو الفارس المجاهد يا سلوان؟

عجب. ونظر حوله، فعرف أنه كان في حلم. كان الوقت عند منتصف الليل. أخذ صفائح النحاس والأدوات، وراح يصنع فرساً وفارساً، أذن الفجر فلم ينتبه سلوان إلى صوته لانهماكه في صناعة اللعبة النحاسية التي رآها في حلمه. اقتربت منه أم أحمد وهمست له:

- أراك قد تعبت يا سلوان والفجر قد أذن، هيا إلى الجامع لتؤدي الصلاة.

نظر إليها وقال:

- سأذهب.. سأذهب.. بعد أن أكمل صناعة الفارس المجاهد.

تركته قليلاً ثم عادت إليه وهمست به:

- هيا إلى الصلاة يا سلوان حتى لا تفوتك الصلاة في المسجد، إن الله يهدد الساهين عن الصلاة تهديداً مفزعاً، ألا تعرف أن الله يقول: فويلٌ للمصلين الذين هم عن صلاتهم ساهون.

انتبه سلوان وهمس متعجباً:

- ويل للمصلين الذين هم عن صلاتهم ساهون؟!..

ترك أدواته وأسرع ليتوضأ. نسي فرسه وفارسه، وارتجف خوفاً من تهديد الله للذين يسهون عن صلاتهم، فلما وصل إلى المسجد رأى الإمام قد بدأ الصلاة فوقف في آخر صف، لكنه ما كاد يدخل في الصلاة حتى عاد يفكر في حصانه وفارسه، سمع الإمام يقرأ:

"فويلٌ للمصلين الذين هم عن صلاتهم ساهون".

فعاد يفكر في الصلاة، وقال: يجب أن أصلي صلاةً لا سهو فيها حتى لا يعذبني الله.

أكمل صلاته بهدوءٍ بعد أن تابع كل كلمة قالها الإمام في الصلاة فلما انتهت الصلاة أسرع إلى أدواته ولعبته ليكمل صنعها لكنه لم يجد مطرقته. همس:

- أين مطرقتي يا أم أحمد؟

أجابته: أتانا جارنا يطلب أن نعيره مطرقةً، فأعرتها له.

غضب سلوان وهمس:

- لكنني بحاجة إليها، كان يجب أن لا تعيريها لأحد.

همست له: لا يا سلوان.. إن الله يجعل الذي لا يعير مواعينه للناس مكذِّباً بالدين. ألم تقرأ في سورة الماعون:

"فويلٌ للمصلين الذين هم عن صلاتهم ساهون الذين هم يراؤون، ويمنعون الماعون؟!".

هدأ غضب سلوان، وبعد دقائق أعاد الجيران المطرقة التي استعاروها، وعاد هو إلى إكمال صناعة فرسه وفارسه.

كانت أم أحمد تراقبه حتى انتهى من صنع لعبته. أخذتها فرأتها رائعة جداً، فأسرعت إلى أبي أحمد المريض، فلما رأى اللعبة طار عقله من الفرح، فهمس لسلوان:

- بكم ستبيعها يا بني؟

أجابه: لا أدري يا عم.. فما رأيك، بكم نبيعها؟!

همس أبو أحمد: بعها بدينارين. اذهب إلى الحاج خالد في سوق النحاسين وقل له: يقول لك أبو أحمد خذ هذه اللعبة وأعطني دينارين.

عجب الحاج خالد للعبة سلوان وروعتها، فقال له:

- من صنعها يا بني؟!

فلما أجابه أنه هو الذي صنعها، قال له: إذن نسميها: فارس سلوان المجاهد، هيا اصنع لي مئة لعبة مثلها، وخذ ثمنها، سأوزعها في جميع البلاد، إنها لعبة رائعة.

اشترى سلوان بدينارٍ دواءً لأبي أحمد، وطعاماً، واشترى بالدينار الثاني صفائح نحاسية وعاد إلى البيت سريعاً.

كان سلوان يعمل في النهار وفي الليل ليصنع لعبه المئة، كان كلما انتهى من صناعة لعبةٍ، ذهب إلى الحاج خالدٍ، وأعطاه إياها فيعطيه دينارين. كان يصنع في النهار واحدةً ثم صار يصنع اثنتين، ثم أربعاً حتى أصبح يصنع عشر لعبٍ كل يوم بمهارة هائلةٍ.

ومضت شهور وسنوات، ودخل فارس سلوان المجاهد إلى كل  بيتٍ، وكبر سلوان حتى أصبح عمره عشرين سنةً. زاد ماله، وشفى الله أبا أحمد، وراح يعمل مع سلوان في صناعة لعبٍ مختلفة الحجوم والأشكال، حتى أصبحت لعب سلوان تملأ البلاد.

المفاجأة

كان سلوان يصلي في المسجد حين سمع رجلاً يقول لآخر:

- ذاك هو سلوان، إنه يصلي.

همس الرجل الثاني: الحمد لله.. الحمد لله..

فلما انتهى من صلاته فوجئ برجل يهجم عليه، ويضمه إلى صدره، ويقبل رأسه.

نظر فإذا هو عمه. هجم على يده يقبلها، بينما كان عمه يقول له:

- بحثت عنك في كل البلاد يا بني، فلم أجدك، كادت زوجي تموت حزناً عندما تركت بيتنا لأنها علمت أن من يؤذي اليتيم هو من المكذِّبين بالدين، خافت أن تموت ويعذِّبها الله بالنار، لأنها آذتك. ثم عندما وصلت إلينا لعبك التي اسمها فارس سلوان المجاهد قلت: قد يكون سلوان هو أنت، فما زلت أسأل عنك حتى وصلت إليك، سامح زوجي وسامحني يا بني.

همس سلوان: لقد سامحتها منذ خرجت من بيتك يا عم، وسأسافر معك لأزورها، وأزور أولاد عمي، لقد اشتقت إليهم جداً. لكن إن سمح لي العم أبو أحمد، وامرأته أم أحمد.

وبعد ساعاتٍ كان سلوان وعمه وأبو أحمد وزوجه يركبون سيارة ويسرعون إلى بلد عمه، فلما دخلوا البيت بكى الجميع للقاء سلوان، وبكى سلوان معهم أيضاً، وبكى أبو أحمد وأم أحمد لما عرفوا قصته، عجب الجميع حين وقف سلوان، وغادر البيت فتبعه عمه، حتى رآه يدخل المقبرة ويسرع إلى قبر أمه وأبيه، ويجلس إليهما ويبكي. اقترب منه وجلس يبكي معه.

أقبل الناس يرحبون بسلوان، ويسألونه عن لعبه الرائعة، كان يقول لهم:

- خمسة أصنافٍ من الناس يعتبرهم الله من المكذِّبين بالدين:

الذين يؤذون اليتيم، والذين لا يحضُّون على طعام المسكين، والذين يسهون عن صلاتهم دائماً ولا يصلونها في وقتها، والذين يراؤون الناس  في صلاتهم ولا يفقهون ما فيها، والذين لا يعيرون جيرانهم مواعينهم. إن الله يقول:

"أرأيتّ الذي يكذِّب بالدين؟ فذلك الذي يَدُعُّ اليتيم، ولا يحضُّ على طعام المسكين، فويلٌ للمصلين الذين هم عن صلاتهم ساهون، الذين هم يراؤون ويمنعون الماعون".

صار الناس يبحثون عن اليتامى ليضعوهم في بيوتهم ويكرموهم، ويبحثون عن المساكين ليغنوهم، ويعيرون مواعينهم لكل من يطلبها. ويصلون صلواتهم في الجامع وفي وقتها، ويحرصون أن تكون صلاتهم كاملةً خاشعةً، وكانوا يتواصون أن يعملوا أعمالهم كلها ليرضى الله عنهم دون أن يراؤوا بها أحداً من الناس.

سعد اليتامى، وغني المساكين، وأصبحت أدوات الناس ومواعينهم لكل الناس يستفيدون منها جميعاً، وكانوا حين يصلون خاشعين ويقرؤون سورة الماعون يذكرون ذلك كله فينفذونه. فعاشوا إخوةً متحابين، فما أعظم هذه السورة الصغيرة التي دلت المسلمين على كل هذا الخير العظيم.

* أديب سوري وكاتب باحث ومفسر معتقل في دمشق منذ عام 1980.

تفسير الألفاظ

يدع: يقهر، ويؤذي، ويضرب، ويغلظ، ويدفع بعنفٍ

يحض: يدعو الناس بقوةٍ،

ساهون: ناسون، ومهملون.

يراؤون: يقصدون غير الله في عملهم.

الماعون: أدوات الإنسان وما ينتفع به.

مجمل تفسير السورة

يجعل الله من يقهر اليتيم ويؤذيه، ولا يحض الناس على إغناء المسكين وإطعامه ويسهو في صلاته فلا يتقنها، ويؤخرها دائماً ولا يقصد بها وجه الله وإنما يقصد أن يمدحه الناس لأنه من المصلين، ويمنع أدواته عن الناس إن احتاجوا إليها فلا يعيرهم إياها، لينتفعوا بها، يجعل الله هؤلاء جميعاً من المكذبين بالدين.