الأحداث في إيران: احتجاجات شعبية أم ثورة ؟

إلهام الحدابي

مقدمة

لم يكن من المتوقع أن يطرق الربيع العربي أبواب الشرق الأوسط مجدداً، لكن هاهي إيران تشهد اضطرابات شعبية تشبه إلى حد كبير تلك الحراكات الشعبية التي ظهرت في تونس ومصر وليبيا واليمن وسوريا، قبل أن تتحول تلك الحراكات في تلك الدول إلى صراعات مسلحة تكثر فيها الأطراف الخارجية.

شهدت مشهد الإيرانية احتجاجات شعبية غير متوقعة قبل أن يأفل عام 2017 الذي حمل في جعبته الكثير من الأحداث الصاخبة كإعلان القدس عاصمة لإسرائيل، غير أن احتجاجات إيران كان لها وقعها الخاص في المنطقة على مستوى الأطراف العربية والأطراف الدولية، فبالنسبة للأطراف العربية مثلت احتجاجات إيران مكسباً ثميناً في ظل التدخلات العميقة في أمن كثير من الدول العربية، أما بالنسبة للأطراف الدولية فاحتجاجات إيران مثلت تهديداً جديداً لا يحتمله الوضع الأمني للمنطقة في الظروف الراهنة.

ورغم كثرة التكهنات التي صبغت تلك الاحتجاجات بنكهة الربيع العربي بذريعة أن ملامح الاحتجاجات الشعبية في إيران تشبه إلى حد كبير ثورات الربيع العربي، خصوصاً وأن المطالب الشعبية سرعان ما تركت شعاراتها الاقتصادية ورفعت شعارات سياسية مثلت تحدياً واضحاً للحكومة الإيرانية،لكن هل يمكن أن تصدق تلك التكهنات؟

 وعلى غرار ما حدث في الثورة الإسلامية التي أسقطت نظام الشاه هل يمكن لهذا الحراك الشعبي أن يخلق ثورة جديدة تغير ملامح الحكم في إيران؟

بين الحركة الخضراء وأحداث مشهد

ما حدث في مدينة مشهد الإيرانية اعتبر سابقة خطيرة على المستوى الأمني والسياسي في إيران، غير أن هذه الاحتجاجات الشعبية لم تكن هي الوحيدة منذ إعلان الجمهورية الإسلامية، فقد سبقها احتجاجات أكبر شهدتها إيران في الثاني عشر من حزيران 2009 عقب الانتخابات الرئاسية التي توج فيها محمود أحمدي نجاد بولاية ثانية ضد مرشح المعارضة مير حسين موسوي، فعقب إعلان تلك النتائج حشدت المعارضة خمسة ملايين مواطن حملوا الشعارات الخضراء في إشارة صريحة وواضحة للاعتراض على فوز نجاد بولاية ثانية.

وحتى يتضح المشهد أكثر لنفهم ما إن كانت الاحتجاجات الحالية مقدمات لثورة إصلاح أم مجرد احتجاجات شعبية نجري مقارنة بينها وبين الحركة الخضراء التي تعتبر أحد أكبر الأزمات الداخلية التي شهدتها إيران منذ الثورة الإيرانية في 1979.

كما أشرنا كان المحرك الأساسي للحركة الخضرا هو الاعتراض على نتائج الانتخابات الرئاسية لعام 2009، وانحصرت في طهران بقيادة مجموعة من قيادات التيار الإصلاحي يرأسهم مير حسن موسوي إضافة إلى مهدي كروبي المنتمي لحركة اليسار الإسلامي، والذي يمثل خط الإصلاح الذي انتهجه محمد خاتمي في فترة حكمه، شارك في تلك الاحتجاجات خمسة ملايين واستمرت لعدة شهور، وقعت فيها مواجهات بين المحتجين وقوات حماية الثورة المعروفة بـ(الباسيج) وسقط فيها 70 قتيلاً.

وأمام تنامي ظاهرة العنف تم اعتقال مئات القيادات من التيار الإصلاحي وفرضت الإقامة الجبرية على موسوي، وبذلك خفتت موجة تلك الاحتجاجات، وعلى الرغم من أن مطالب الحركة الخضراء انحصرت بـ: إعادة النظر في نتائج الانتخابات الرئاسية لعام 2009، وضرورة البقاء في الشارع لحين تحقيق هذه المطالب، تغيرت هذه المطالب بعد أن أدرك قيادات الحركة الإصلاحية أن فوز نجاد أصبح أمراً واقعاً، وتمحورت مطالب الحركة في ثلاثة أمور:

1-  مبدأ إيران أولاً: ركزت الحركة الخضراء في مطالبها على ضرورة الاهتمام بالشأن الداخلي أولاً قبل الاهتمام بشؤن دول الجوار، ورفعت شعار (لا غزة ولا لبنان روحي فداء إيران)، جذب هذا المبدأ آلاف طلبة الجامعات والمفكرين والمثقفين، الأمر الذي مثل تهديدا لأحد أبرز مبادئ الثورة الإسلامية وهي تصدير الثورة.

2-  مبدأ إعادة النظر في صلاحيات ولاية الفقيه المطلقة: يعتبر هذا المبدأ أخطر ما جاءت به الحركة كونه استهدف النظام بشكل مباشر، ومثل هذا المطلب أثر بشكل كبير على الحركة وتأثيرها في المجتمع، بل وسهل للسلطات الإيرانية استهدافها بشكل مباشر باعتبارها (تيار فتنة)، ولم تقتصر مطالبات الحركة بتقليص صلاحيات ولاية الفقيه، بل طالبت بمراجعة نظرية "ولاية الفقيه" كنظرية سياسية صالحة للحكم ، وضرورة زيادة الصلاحيات الممنوحة لرئيس الجمهورية المنتخب، وقد أدت هذه المطالب إلى فرز الجمهور الإيراني بين مؤيد بالكامل لموسوي ومطالبه ومعارض له، فتم رفع الغطاء السياسي عنه بشكل أثر سلبياً على الحركة ككل.

3-  مبدأ العلاقات مع الخارج: مثلت الإصلاحات التي انتهجها رئيس التيار الإصلاحي محمد خاتمي انفتاحاً بين إيران ومحيطها العربي والإسلامي، وطالبت الحركة بمواصلة هذا الانفتاح بعيداً عن الأيدلوجيا والتدخلات في شؤون الدول المجاورة، كما طالبت بضرورة سحب صلاحيات العلاقات الخارجية من يد المرشد الأعلى، واعتبر ذلك تدخلاً مباشراً في صلاحياته.

بالمقابل نرى أن احتجاجات مشهد لم تخرج لسبب سياسي بل كانت أقرب لتّتنفيس عن السخط المجتمعي تجاه الأوضاع الاقتصادية المتردية، ولم تكن منظمة، كما لم تظهر فيها أي قيادات سياسية قديمة أو حديثة، وبخصوص مطالبها لم تحمل أي مطالب محددة، بل حملت خليط من الشعارات الاقتصادية والسياسية والاجتماعية، كما أنها لم تتركز في مدينة محددة، بل ابتدأت في مشهد أحد أكبر المدن الإيرانية وواصلت زحفها حتى بلغت 30 مدينة أخرى، وهي بهذا تختلف بشكل جذري عن الحركة الخضراء، لكن هل يعني ذلك أنها تمثل مقدمات ثورة؟

قراءة في أسباب الاحتجاجات

بعد أن فاجأت الجماهير الإيرانية حكامها والعالم على حد سواء جاء سيناريو تبادل التهم بين التيار المحافظ والتيار الإصلاحي في إيران كرد فعل لا يخفي حقيقة عفوية تلك الحراكات الشعبية، وبدا في بداية الأحداث أن الأسباب الاقتصادية هي التي حركتها، لكن بعد أن رفعت سقف مطالبها ورفعت  في شعاراتها عناوين متباينة تمثل مختلف التيارات المحافظة والإصلاحية بل والملكية أصبح من الصعب –على مختلف الأطراف السياسية الإيرانية- ربط الاحتجاجات بطرف دون آخر.

وفي أول تصريح للتيار المحافظ تم ربط أحداث الشغب والاحتجاجات الشعبية بالسياسية الاقتصادية الفاشلة التي يتبعها رئيس الحكومة حسن روحاني، إذ صرح رئيس مجلس صيانة الدستور أحمد جنتي بأن أعمال العنف التي صحبت الاحتجاجات الشعبية هي منكر أوجدها عدم معالجة المنكرات الاقتصادية القائمة كالغلاء والبطالة.

بينما اقتصر اتهام التيار الإصلاحي للتيار المحافظ جراء الاحتجاجات الشعبية بأنه سعي لتصفية حسابات انتخابية سابقة مع التيار الإصلاحي، ومحاولة لفتح حسابات مستقبلية بإشعال التظاهرات في مشهد، وفي تصريح للنائب الأول للرئيس إسحاق جهانغيري (أن من يحاول بدء هذه المظاهرات لن يملك إيقافها) في إشارة منه للتيار المحافظ.

ويظهر من خلال تبادل التهم بين الأطراف السياسية الإيرانية أنه لا يوجد طرف محدد يحرك الاحتجاجات الشعبية، وهذه النقطة بالذات تحسب لتصنيف الاحتجاجات الشعبية في إيران كبذرة لثورة عارمة، غير أن ردود الأفعال المتمثلة بتصريحات عشوائية تبنتها أطراف دولية واقليمية أثر بشكل كبير في مسيرة هذه الاحتجاجات، وبشكل عام يجدر الإشارة إلى أن هناك جملة من المحركات التي تسببت في انتفاظة مدينة مشهد أحد كبرى المدن الإيرانية، يتنتقل تلك الهبة إلى ثلاثين محافظة أخرى دون تخطيط مسبق.

فأحداث 28 ديسمبر/ كانون الأول 2017، لم تظهر فجأة بل سبقها مجموعة من الأحداث المهمة التي لا يمكن إغفالها من أجل فهم الحراك الشعبي الإيراني ككل، وأبرز تلك الأحداث الأداء الحكومي الضعيف إزاء الزلزال الذي ضرب غربي البلاد في نوفمبر 2017، أضف إلى ذلك المطالب الشعبية التي قادها أصحاب الودائع المفقود في مؤسسات اقتصادية حكومية، إضافة إلى ارتفاع مستوى المعيشة بسبب العقوبات الاقتصادية التي تعيشها إيران، بدأت الاحتجاجات سلمية، لكن سرعان ما تحولت إلى أعمال عنف وتخريب صاحبت رفع سقف المطالب ليشمل الجانب السياسي.

وأمام التصريحات الخارجية التي صاحبت أعمال العنف في الداخل تحول مسار تلك الاحتجاجات وفقدت مصداقيتها وفاعليتها الشعبية، ووجدت الأطراف السياسية الداخلية بشقيها الإصلاحي والمحافظ مخرجاً من تبادل التهم بينها البين، لتعلق أسباب الاحتجاجات بتدخلات خارجية.

وبشكل عام لا يمكن حصر أسباب الاحتجاجات الشعبية في إيران بالجانب الاقتصادي أو السياسي وحسب، بل يمكن ربطها بمجموعة من الجوانب التي توضح حقيقة ذلك الحراك، وما إن كان بالفعل بداية ثورة أم أنه مجرد احتجاج سيتوقف بتلبية مطالبه؟

أسباب اقتصادية

يبدو في ظاهر الأمر أن العامل الاقتصادي هو المحرك الأساسي للاحتجاجات الشعبية في إيران، لكن التحول السريع إلى المطالب السياسية ورفع شعارات خارج نطاق الاقتصاد يؤكد على أن الجانب الاقتصادي لم يكن سوى الفتيل الذي أشعل حركة الاحتجاجات، ومن أبرز المشاكل المتعلقة بهذا لجانب هو غلاء المعيشة وارتفاع الأسعار بشكل أثر على الطبقة العاملة التي تعتبر المكون الأكبر للشعب الإيراني، كما أن بطالة الخريجين من الشباب والتي بلغت 20% دفعت الكثير منهم للمشاركة في هذه الاحتجاجات، ناهيك عن عدم الالتزام بوعود الإصلاحات الاقتصادية التي تبناها روحاني في دعايته الانتخابية، من خلال الاستفادة من الاتفاق النووي في 2015، وبدلاً من الإلتزام بذلك قدم روحاني-نفسه- الموازنة الجديدة لهذا العام، والتي تضمنت رفع السلع الأساسية كالبنزين والغاء الدعم المقدم لشرائح المجتمع.

عوامل التحول الفكري

لم يعد المجتمع الإيراني مجتمعاً مغلقاً قابلاً للتصنيف وفق ما يشتهيه الشاه أو الإمام، بل ونظراً لجملة من التغيرات السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية والقومية تغيرت بنية المجتمع الإيراني إلى حد ما، ومن خلال التحديات الداخلية التي يعيشها على مستوى حياته اليومية، إضافة إلى اطلاعه على السياسية الخارجية لبلاده اصبح السخط والانتقاد وسيلة للتعبير وان لم تكن ظاهرة بشكل جلي قبل أحداث الاحتجاجات في مدينة مشهد الإيرانية.

مواقع التواصل الاجتماعي

كما أسهمت مواقع التواصل الاجتماعي في تحريك المجتمعات العربية في ثوراتها، أثرت أيضاً في الحراك الشعبي في إيران، ولم يكن الفيس بوك هو وسيلة التواصل الرئيسية بين المتظاهرين هذه المرة بل التلجرام، إذ يشترك فيه أكثر من مليوني إيراني، ويتم تبادل ملايين الرسائل الصوتية والنصية حيال مختلف القضايا الاقتصادية والاجتماعية والسياسية، ونظراً للاستخدام المتعدد لهذه الوسيلة ومنذ فترة طويلة أسهمت في خلق وعي مجتمعي عام حيال القضايا الملحة في الواقع، وعلى الرغم من وجود مطالبات سابقة في وقف هذه الخدمة رفض الرئيس روحاني، واستجاب لتلك المطالبات في اليوم الرابع من الاحتجاجات وتم حجب الموقع، لكن لم يوقف ذلك الاحتجاجات بسبب استخدام الإيرانيين لبرامج فك التشفير.

التدخل الخارجي

على الرغم من اتفاق الأطراف المتصارعة في إيران في توحيد أصابع الاتهام الموجهة للخارج بشكل يقلل من مصداقية تلك التهمة، يجدر الإشارة إلى أن أعمال الشغب التي صاحبت الاحتجاجات في الايام التالية تدلل على وجود أطراف خارجية أرادت الاستفادة من موجة الاحتجاجات، ويمكن اعتبار التهديد الذي أطلقه محمد بن سلمان من نقل المعركة إلى طهران إضافة إلى تغريدات الرئيس الأمريكي حول تشجيعه للمتظاهرين، مثل هذه المؤشرات عمقت فكرة وجود أطراف خارجية تدير الاحتجاجات الداخلية.

الاحتجاجات أمام أكثر من مشهد

أمام التدخلات الخارجية وجدت السلطات الإيرانية مبرراً مقنعاً للرد بقسوة على تلك الاحتجاجات الشعبية، ناهيك عن تخوف الإيرانيين أنفسهم من مواجهة نفس النتائج المؤلمة التي تعيشها بعض الدول العربية بعد أن تحولت احتجاجاتها إلى صراع ملسح بين الأطراف الداخلية وبتمويل خارجي، كما أن المسيرات الشعبية المؤيدة للنظام والتي جائت على غرار ما حدث من انقلاب في تركيا، كل هذه العوامل أسهمت في تخفيف وتيرة الاحتجاجات الشعبية وأخفتت من جذوتها، لذا أصبح المشهد الإيراني على المستوى الداخلي يواجه مصيرين.

-         توقف الاحتجاجات الشعبية: معظم المؤشرات الحالية ترجح كفة هذه النتيجة، وذلك لعدة أسباب أبرزها غياب التنظيم وعدم وجود مطالب محددة أو قيادات واضحة تضمن استمرار وديمومة هذه الاحتجاجات، كما أن أعمال الشغب والعنف التي صاحبت تلك الاحتجاجات قد خلقت مخاوفها لدى قطاع كبير من شرائح المجتمع، وما المسيرات المؤيدة التي خرجت عقب تلك الاحتجاجات إلا دليل على ذلك.

من جهة أخرى عملت التصريحات الخارجية المتمثلة بتغريدات ترامب أو مناقشة الشأن الإيراني في مجلس الأمم المتحدة، كل هذه الأمور أدت إلى تناقص عدد المحتجين في المدن الرئيسية، ورغم استمرار بعض الاضطرابات في المدن الصغيرة لكنها لا تمثل خطراً حقيقياً كتلك التي ظهرت في المدن الكبرى كمشهد وطهران.

-         بزوغ الثورة:

على الرغم من استبعاد هذه النتيجة إلا أنها واردة، لأن سقف المطالب الذي تحول فجأة من الجانب الاقتصادي إلى الجانب السياسي والاجتماعي يحمل بذور السخط الشعبي الذي يعتبر المحرك الأساسي لأي ثورة، ومن هنا حتى إذا توقفت هذه الاحتجاجات فهذا لا يعني أنها انتهت، وذلك لأن الأسباب التي حركتها وأخرجتها لا زالت قائمة، ولا يمكن وقف تهديدها إلا بإصلاح الأسباب التي حركتها.

خاتمة

لا يبدوا أننا نقف أمام ثورة جديدة في إيران، لكن هذا لا يعني أن احتجاجات مشهد لن تلقي بظلالها على السياسية الإيرانية، وأمام تداعيات الشأن الداخلي لإيران ظهرت أزمتها الحقيقية، والتي حتماً ستؤثر على دورها في مناطق الصراع في الدول العربي، فعلى الرغم من سيطرتها على الشأن العراقي واللبناني، وتفوقها في الشأن السوري وأخيراً في الشأن اليمني بشكل يؤكد على نجاحها في طموحاتها الخارجية، لكن يبدو أنه قد آن الأوان لإيران  حتى تتوقف قليلاً عن الاهتمام بعمقها الخارجي وتنظر إلى طهران لا إلى غزة ولا إلى لبنان.

الهام الحدابي

مركز أمية للبحوث و الدراسات الإستراتيجية