بيت لحم إبداع وترنيمة عشق 4

زياد جيوسي

بيت لحم إبداع وترنيمة عشق

(الحلقة الرابعة)

زياد جيوسي

[email protected]

عضو لجنة العلاقات الدولية في
اتحاد كتاب الانترنت العرب

صباحكم أجمل؛ صباح آخر للوطن، صباح النسمات المنعشة تهب على نافذتي فتمنحني متعة الصباح وأمل بنهار أجمل.

لم أخرج إلى الشارع صباحاً، فقد نمت متعباً مرهقاً بعد يوم عمل متعب، تلاه لحظات حلم خدر جميل. أصحو وعيناي قد غطاها النعاس وبقايا السهر من التفكير وبعض من ثورة نفس وشعور بظلم احتلالي يسيطر على وطني، واحتلال الكنيسة اليونانية لتاريخنا وإرثنا، حين استذكرت معانقتي لبيت لحم ما أقلق نومي، فتغير موعد نومي فأثر فيّ صباحاً.

 

دار الندوة الدولية وعدسة زياد جيوسي

أستعيد ذاكرة بيت لحم والتجوال في عبق التاريخ، ففي قلب هذه الأزقة التاريخية والدروب التي تروي الحكايات وقصة الأجداد وملحمة كنعان، وصلنا إلى دار الندوة الدولية، وهو من المؤسسات القائمة على اللوثرية، ومن أهدافه المعلنة خدمة المجتمع الفلسطيني بأكمله مع تركيز خاص على الأطفال والشيوخ والنساء وجيل الشباب، ودار الندوة جزء من اتحاد الديار وهي مجموعة مؤسسات ترفع شعار خدمة أفراد المجتمع (من الرحم إلى القبر)، وهذا الدير الذي حوله السيد (متري الراهب) إلى مركز ثقافي متميز ونقطة جذب على مستوى عالمي، توجد به قاعة مسرح للعروض المسرحية والموسيقية وعرض أفلام السينما وعقد المؤتمرات، وقاعات لعرض الفن التشكيلي وعقد الاجتماعات، وما زلت أتذكر دور الدار في مؤتمر تم عقده، وأخرجت المخرجة الفلسطينية وفاء جميل فيلم من خلال هذه المؤتمر بعنوان (الجذور)، حضرته وكتبت عنه مقالة نقدية طويلة، حيث قال وعقب الدكتور متري الراهب مدير مؤسسة دار الندوة الدولية: "أولئك الإسرائيليون يظنون أن الله منحهم الأرض، إن إسرائيل أصبحت كقطعة جبنة سويسرية، وتدفع الفلسطينيين إلى داخل ثقوب الجبنة". 

فرن قديم متوارث أباً عن جد ومتخصص بوجبة (القدرة) وعدسة زياد جيوسي

   غادرنا المبنى وأكملنا التجوال في أرجاء عبق التاريخ في بيت لحم، وتجولت في السوق التراثي القديم، وتمتعت بزيارة فرن قديم متوارث أباً عن جد ومتخصص بوجبة (القدرة) والتي اشتهرت بها المنطقة عامة ومدينة الخليل خاصة، فتمتعت بالتقاط الصور للفرن والعاملين والقدور النحاسية الخاصة بصناعة هذه الوجبة، وبعدها جلنا بعض من شوارع المدينة لنتجه إلى المبنى الثاني لمؤسسة إبداع في بدايات المخيم.

كؤوس ودروع وهدايا رياضيين من أنحاء العالم نالها فريق ابداع الرياضي وعدسة زياد جيوسي

   وجدت مفاجآت أخرى بانتظاري، فهناك مركز رياضي وفريق كرة سلة تميز وأبدع وحلق، فامتلأت القاعة في الطابق الأرضي بالكؤوس والدروع وهدايا رياضيين من أنحاء العالم، كما كانت قاعة عرض لمنتوجات التطريز والتراث، وجدران بيت الدرج من المدخل حتى السطح كانت عبارة عن لوحة واحدة تروي حكاية الشعب الفلسطيني منذ ما قبل النكبة حتى اللحظة، والطابق الثاني بالكامل عبارة عن غرف استضافة لمبيت ومنامة ضيوف المركز والمخيم، وفي طابق آخر قاعة واسعة يتصدرها مسرح مجهز، وتنيرها وجوه صور ثلاثة شباب كأنهم أقمار في السماء، هم شهداء المركز الذين استشهدوا أثناء مقاومة الاحتلال، فترحمت عليهم وقرأت لأرواحهم الفاتحة، وشعرت بهم يبسمون ويهمسون لي: ما زلنا أحياء ونرى أنفسنا من خلال مَن يواصلون العمل لتحقيق حلمنا بوطن حر وصباح أجمل، ومن خلال أحبة وأجيال جديدة تواصل بناء الحلم الذي حلمناه من خلال إبداع.

شهداء المركز الذين استشهدوا أثناء مقاومة الاحتلال وعدسة زياد جيوسي

  وفي الطابق الأعلى مطعم ومكان لتقديم القهوة بأسعار متواضعة جداً تحت إدارة جيدة، فقد لمست الأناقة والجمال والنظافة، وتوفر الخدمة الجيدة إضافة إلى الإطلالة على أطراف المخيم والشارع الرئيس، فهمست لنفسي: نعم إن الحلم هو البداية لخلق الواقع، ومن حلم بدأ بمبلغ 176 شاقلاً ترافق بجهود خالد الصيفي وأصدقائه، وبدون توفر مكان نشأت فرقة الفنون للأطفال وأثبتت وجودها، ومن حلم تخيله كل طفل في لحظة ما وعبر عنه، تواصلت مسيرة المركز حتى وصل إلى ما وصل إليه، فقد لفت نظري أن المركز يهتم إضافة إلى كل ما أشرت به بتأمين قوافل لأداء العمرة للمحتاجين من أبناء المخيم خصوصاً كبار السن، وتأمين منح دراسية للطلبة وتأمين العلاج واستضافة أطباء لإجراء عمليات جراحية مجانية للمرضى من أبناء المخيم والمحتاجين، فقدرت ذلك جداً وشعرت بأهمية ودور الرسالة التي يؤديها إبداع، وشعرت كم أني خسرت لأنني لم أتابع منذ البدايات هذه الجهود، وإن عزوت ذلك إلى البعد بين رام الله وبيت لحم من جانب، وأن متطوعي المركز والأعضاء يعملون بصمت كجنود مجهولين في خدمة المجتمع. 

   من قلب هذه الروعة التي عشتها منذ لحظة وصولي بيت لحم حتى شعرت أني أحلق في عالم آخر من الجمال، اتجهنا لتناول وجبة الغداء في بيت مضيفي خالد الصيفي، وتعرفت إلى أسرته الرائعة السيدة أمل التي أعدت لنا وجبة (منسف) تقليدية رائعة ومتقنة تدل على حسن ضيافتها وروعة أنفاسها بإعداد الطعام، وتعرفت إلى ابنتهم كيان والأبناء أيسر ومحمد، الذين استقبلوني بكل محبة وترحاب، لنحتسي القهوة بعد قليل من الراحة ونخرج لنواصل التجوال في عبق التاريخ وبيت لحم.

مركز التراث الفلسطيني وعدسة زياد جيوسي

  كانت وجهتنا مركز التراث الفلسطيني واللقاء مع حارسة التراث وحافظته السيدة مها السقا والتجوال في أرجاء مركزها المتميز، وحين وصولنا المركز لم أحظ بلقاء السيدة مها السقا فقد نسيت رقم هاتفها في رام الله، وإن سعدت بالتعرف إلى ابنها الشاب رائد والشابة العاملة في المركز، وقد عرفت رائد فوراً من خلال صور شاهدتها لحفل زفافه، فقلت له: أأنت العريس؟ وباركت له فحفل زفافه كان عرساً تراثياً حقيقياً بكل ما تعنيه هذه العبارة، فتميز باللباس والدبكة والموسيقى والأغنيات والزفة، فرحبوا بنا أجمل ترحيب وما أن دخلت وتجولت بالقاعة والمكتب حتى أصبت بحالة من الذهول من حجم ونوعية ورقي المطرزات التراثية التي تمثل كل أجزاء ومناطق فلسطين، وشعرت بأرواح الجدات الحوريات الكنعانيات تجول معي في كل زاوية من زوايا المركز، تهمس لي وتبتسم وتحنوا على حفيدها الكنعاني الذي لا يكف عن التجوال ومعانقة المكان والتراث والتاريخ.

الخيمة البدوية التي تتصدر القاعة وعدسة زياد جيوسي

   شعرت بأرواح الصبايا الكنعانيات تجلس معي في الخيمة البدوية التي تتصدر القاعة، تسقيني القهوة العربية من بين يديها وتتبختر كل حورية بلباس مطرز كل لباس يعبر عن تراث منطقة من بلدات الوطن، وحين دخلت المكتب الداخلي كنت أشعر بأنفاس حوريات كنعان ترافقني وتنثر الدفء والفرح في فضائي، حين تجولت عيناي بهذا الكم الكبير من الصور المعبرة والمطرزات الرائعة، حتى أني شعرت من حجم المفاجأة بجفاف حلقي، فطلبت من الشاب رائد كأساً من الماء شربته دفعة واحدة، وحين أكملت التجوال ورأيت الأدوات والقطع التراثية التي استخدمها الأجداد شعرت بسواعدهم القوية السمراء تصافحني بقوة وتشد على يديّ، فهمست: أيا أجدادي الرائعين الذين حفروا الصخر بأظافرهم، أعذروني إن كانت يديّ لم تعرف إلا القلم وعدسة التصوير.

بعض من جهود حارسة التراث وحافظته السيدة مها السقا وعدسة زياد جيوسي

   هي رام الله وصباح جميل آخر رقيق النسمات، أعانقها والياسمينات من نافذتي، أشعر بطيفي يرافقني ويهمس لي: متى ستكمل الحكاية عن بيت لحم وعن مركز التراث الشعبي فيها؟ فأهمس: ما زال هناك حديث كثير وما زلت أحتفظ في ذاكرتي ببوح آخر باحت به حوريات كنعان سأبوح به قريباً إن شاء الله، وهمست لنفسي: سامحك الله أيتها السيدة الأنيقة مها السقا، فقد جمعت في مركزك جدنا كنعان وأحفاده وكل الحوريات الكنعانيات، وجعلتني أترك مزقاً من قلبي في المركز، وأحتاج لحديث كثير وزيارات أخرى حتى أستعيد مزق قلبي، فأحتسي وروح طيفي القهوة ونستمع لشدو فيروز: (راجعين يا هوى راجعين، يا زهرة المساكين، راجعين يا هوى على نار الهوى، بنودع زمان، بنروح لزمان ينسانا على أرضالنسيان، بنقول رايحين، بنكون راجعين، على دار الحب ومش عارفين).

   فأهمس لبيت لحم: هو الهوى تغلغل في قلبي وروحي، فلا بد أن أعود وأعانقك من جديد، ففي دفئك قصة حب وترنيمة عشق، وحتى نلتقي في الحلقة الخامسة من بوحي لبيت لحم أهمس لك ولكم جميعاً: صباحك وصباحكم أجمل.