قمر لوس أنجلوس

فاضل السباعي

قمر لوس أنجلوس

فاضل السباعي (لوس أنجلوس)

العطلة الأسبوعية، عند الشابّين اللذين أقيم وإيّاهما، مختلفة: فهي عند أحدهما يوما السبت والأحد، ويعمل الآخر لحسابه فهو يعطـّل وقت يشاء. وأما ابنتي فهي ــ بعد البيت ــ موزّعة بين أن تـُخطط على الورق ’’اسكتشات‘‘ تـُحضِّر بها لمعرضها الفني القادم، وبين أن تعود من المكتبات متزوِّدة بهذا الكتاب أو ذاك عن الفنّ الذي تمارسه، التشكيلي، تـُقلــِّّب صفحاته وتقرأ ما يهمّها، قبل أن تودعه خزانة الكتب. وأما أنا، فإني أصبحت، منذ حللت في لوس أنجلوس، واحدا من مرتادي مكتبتها العامة، وأعني فرعها في الحيّ الذي أسكن، ’’نورث ـ ريدجNorthridge ‘‘، حيث أكتب ما يعنّ لي على مدى سويعات، دون أن تمتدّ يدي إلى كتبها المتاحة أو أجهزتها الإلكترونية المباحة، وآخر ما فرغت منه نصٌّ صغتـُه في شكل ’’مقامة‘‘ تدور حوادثها حول السلطان طَيْبوب المحبوب، وشرعت في كتابة نصٍّ آخر مختلف.

      ذلك المساء قالت ابنتي بعد أن نهضنا من العشاء:

     - غدًا السبت، نذهب إلى الشاطئ.

      قلت متعلـّلا:

   - ولكني بدأت اليوم بكتابة نصٍّ جديد، وفي الرأس أفكارٌ تغريني بمتابعة الكتابة ضحى غد.

      ردّتْ غيرَ مهادنة:

     - ألا يكفيك، يا أبت، خمسة أيام في الأسبوع كتابة؟ فلتعطل يومين إثنين مثل ما أصبح يتمتـَّع به العاملون في الوطن؟

      كانوا قد اشتروا لي من عدّة البحر، ’’مايوه‘‘ على شكل ’’شورت‘‘ محتشم، وطلبوا مني أن ألبس الـ’’تي ـ شيرت‘‘ على اللحم. قلت محتجّا:

      - قد أبرد على البحر، يا أولاد، وأنا، مع أني منتصب القامة كما ترون، ابن خمسة وسبعين.

      فخدعوني بقولهم: "أنت شباب"!

(2)

      بعد الظهيرة انطلقنا من ضاحية ’’نورث ـ ريدج (ريدج الشمالية!)‘‘ التي تقع في الشمال الغربي من مركز المدينة ’’لوس أنجلوس‘‘. وكان علينا أن ندخل طريق الـ’’فاليValley‘‘ (الوادي) جنوبًا  للوصول إلى الغرب باتجاه الشاطئ المسمّى ’’فينيس Venice‘‘... ويا له من طريق، أكثر ما يسترعي الانتباهَ  فيه التشجيرُ الذي يغطي التلال والجبال على الجانبين. ولمّا اجتزناه، طريقَ الفالي هذا، كان علينا أن ندخل في طرقات فرعية، تحُفـّها البيوت والفيلات والعمائر، والأشجار التي نراها كثيفة الأغصان، تلتمع أوراقها فكأنّ يد الطبيعة تمسحها في كل آن. وكانت سيارتنا، في اجتيازنا الطريق، تزداد سرعة أو تبطئ حتى التوقف حسب الازدحام، في هذا اليوم الذي يتسابق فيه أهل لوس أنجلوس إلى الشواطئ المطلة على المحيط الهادئ (الباسيفيك)!

       وانتهى بنا المسير إلى أحد الشواطئ في ’’فينيس‘‘، عند الساعة الرابعة. وفي مرآب مجاور للشاطئ، أودعنا السيارة، بعد أن دفعنا الرسم، ولكنا لم ندفع في دخولنا إلى الشاطئ رسما، فهو متاح للعموم.

       نصبنا الشمسية، بأن غرس ’’بشّار‘‘ عمودها في الرمل. وفتح ابني ’’فراس‘‘ المظلة وركـّبها. ومُدّ ’’الحرام‘‘ فوق الرمل بعد تسويته بالأقدام. وكانت الريح، القادمة من المحيط الهادئ، مشاكسة، فهي تقلب طرف الحرام ونحن نردّه، حتى ثبّتناه. وفتحنا الكراسي، واتخذ كلٌّ منا جلسة له.  

      ما أرتديه كان خفيفا. قلت:

     - الدنيا بَرّدتْ، يا أولاد!

     ولمتـُهم على أننا تأخـّرنا في المجيء. فدفعت إليّ ابنتي ’’سهير‘‘ بما أجعله على صدري اتـّقاءً للبرد، وهي آمنة على نفسها منه بما تزمّلت..  

      أراد الشابان أن يستحمّا. نزلا البحر تحت أعيننا، والأمواج تتدافع نحو الشاطئ، موجة صغيرة تليها موجة أكبر منها. فلما ارتفع الماء حتى الرُّكب، تركا وعادا. كانت المياه قد ابتردت في هذه الساعة المتأخرة من النهار، ولكنهما لم يعترفا بذلك!

      على الشاطئ، في هذه الولاية (كاليفورنيا)، التي تمّ ضمّها إلى الولايات المتحدة في وقت متأخر نسبيا (في القرن التاسع عشر)، رأيت الناس ينتمون إلى مختلف الأجناس والأعراق. عيون مختلفة الألوان والأشكال، وبََشَرة متفاوتة اللون، من الأبيض الممعن في بياضه إلى الأسود الفاحم. وهم من ذوي الأصول المكسيكية (سكان الولاية الأصليين)، وممن تواردوا إليها بعد الاكتشاف، وكذلك ممّن حُمِلوا  في القرون الماضية من إفريقية السوداء، وأناسٌ غيرهم من الصين وشرق آسيا... وهل أقول أنّ القلـّة ممّن نرى بَدَوا لنا من أصول أوروبية!

      تشمّسنا، وتلقـّينا رطوبة البحر، وأكلنا الفواكه، وشربنا البارد. وشاهدنا في الفضاء مروحية (هليوكوبتر) تروح وتجيء  ناشرة وراءها راية كبيرة نقرأ فيها إعلانا تجاريا، ومروحية أخرى قالوا أنها ’’دورية شرطة‘‘ مهمتها مراقبة الشواطئ... وطيور النورس، التي شبعت ممّا اقتنصته من أسماك البحر، هي ذي تخطر وادعة بيننا نحن البشر، وكأنها تريد أن تستزيد من التعرّف علينا،

 (3) 

وهيهات أن يخطر لها أنّ الإنسان يقتنص، يتصيّد، يقتل، ليس بداعي الحاجة وحدها ولكن هواية  أيضا، على حين أنهنّ، النوارس الطيّبة،  لا يقتنصنَ إلا ما يسدّ  كلٌّ منهنّ به جَوعتـَه!

      وكان صهري بشّار، وهو على كرسيّه، يتسلـّى بأن يحفر الأرض بقدمه العارية،  ينبش بعـَقِب القدم ثم يجرف الرمل بمشطها، حتى أحدث حفرة ذات عمق، وكأنه ينقـِّب عن النفط في بلد يقود حكامه الحروب ضدّنا، لا بحثا عن النفط وحسب، ولكن هيمنة على آباره، واحتلالا لأراضيه، واستبدادا بمن عليها من البشر!   

      ولأنّ العربيّ، أنـّى شرَّق أو غرَّب، لا يفارقه حزنه وشجنه، يحمل منهما اضعاف ما يحمل من الفرح والمرح، فقد أنشأت أقول:

      - إنّ أجدادكم، يا أولادي،  أنجزوا أفضل ممّا أنجزت أمريكا اليوم. إنهم، بعد أن أتمّوا فتح البلاد القريبة من موطن الإسلام، أمعنوا حتى فتحوا معظم ما كان معروفا من الأصقاع في عصرهم، وأقاموا حضارة إنسانية حققوا فيها الجميل والرفيع والخالد. والعرب ما فتحوا مصرا من الأمصار إلا ظلّ الإسلام فيه باقيا، لم تشذ عن هذه القاعدة إلا الأندلس، التي يرحل اليوم إليها السيّاح من أنحاء المعمورة معجبين بآثارها مفتونين. لقد كانت الحضارة التي أبدعها الأجداد، أنموذجا فريدا في التسامح والتعايش وفي تقبُّـل ’’الآخر‘‘، وذلك ما أتاح المجال للجميع لأن يحققوا إبداعاتهم، من المسلمين الناطقين بغير العربية ومن معتنقي الأديان الأخرى الذين يستظلون راية الإسلام.

 *     *     *

      بعد هذا الحديث الهادئ، ومع انحدار الشمس نحو المحيط الهادئ، كان الانتعاش، الذي يبعثه فينا الهواء الآتي من البحر، قد تحوّل إلى برد. فقمنا نفكّ الشمسية، ونطوي الكراسي، ونضع متاعنا في السيارة. ثم أخذنا نمشي في نزهة على كورنيش البُلـَيْدة المستقيم الممتدّ على الشاطئ من الشرق إلى حيث لا تـُرى نهاية له.

      كان هذا الطريق، الممتنعُ على السيارات، يعُجّ بالمصطافين، من كلّ الأجناس والألوان والأعمار، منهم من يتـّجه مثلنا نحو الغرب ومنهم العائدون. وهناك من يركب الدراجات الهوائية مختلفات الأشكال، أو يدرجون على أنواع من الزحّافات والمُتـَزََحْـلقات. وبيوت الاصطياف تنتظم على جانب واحد من الطريق وبما لا يزيد على الطابقين، منفتحة  على الشاطئ والمحيط. وبدا أن بعض هذه البيوت قد مسّتها أنامل فنية تجلـّت بتماثيل في الفِناء، وزخرفاتٍ على الجدران، ونوافذ عالية حتى الأسقف، دون أن تفتقد العينُ بيوتا قد أكل الدهر عليها وشرب. وبين النباتات في أفنية البيوت، استرعى انتباهنا شجرٌ خفيض قد تفتـّحت على سطحه أزهارٌ أ َشبهت الياسمين، بنـُجَيماته الخمس وبياضه الناصع، لولا أن تخلـّت عنه عطرية ياسمين الشرق الساحرة. وفوجئنا أيضا بأزهار ’’العَسَلـَة‘‘ النادرة ذات الرائحة العاطرة، التي يُسمّيها أهل حلب العسلة  للونها الضارب إلى لون العَسَـل (وفي دمشق ’’العرتيلة‘‘)، وقد عايشتها صغيرا في بيتنا الحلبي، ثم استزرعتـُها في بيتي الدمشقي بحيّ ’’الروضة‘‘. ذكرتني بالوطن ، فتقدمت أشمّ رائحتها، فإذا هي ولا رائحة لها. ظننت

 

(4) 

     أنّ برودة الجو عطلت عندي حاسة الشمّ، فالتمست من ابنتي أن تشمّ... وإذا بياسمينهم وعسلتهم دون رائحة!

     ويتـّسع هذا الطريق فجأة، ونحن نسير متفرجين، فتظهر على الجانب الأيمن منه محالُّ تبيع الطـُّرَف وكلّ ما يستهوي المصطافين أو يحتاجون إليه. ولما كان الهواء الآتي من ’’الباسفيك‘‘ يزداد برودة، فقد رأينا بعضهم يدخلون إلى هذه المحالّ بأولادهم، ليخرجوا بأردية لهم خفيفة تقيهم شرّ البرد الذي لم يتوقـّعوه، والذي ما زلت أتلقـّى نصيبي منه بصمت بارد.

     وفي اتساع الطريق كانت تشغل فسحاتٍ فيه فئة من الشُّطّار وأهل الفنّ والبـِـدَع والمشعوذين. عن بُعد رأينا أشباحا ترتفع عن الأرض ارتفاعا ملحوظا، بأن وصلوا بسيقانهم عُصِـيًّا، يقومون بأداء مشهد تمثيلي أمام جمع من الناس. ولكن استلفتتـْـنا على مقربة حلقة أحاط فيها الناس بزنجيٍّ يقوم بأعمال شَطَارة، ما زالوا يتفرجون عليه ويطلقون من الضحكات أكثرها صخبا.

      اقتربنا نحن الأربعة من الحلقة، وفي الصفوف الخلفية وقفنا، يشرئبّ كلٌّ منا بقامته قدر ما يستطيع. كان بجوار الرجل ’’عدّة الشغل‘‘، وقد أضاف إليها فتى بدا أنه اختاره من بين المتفرجين. كان الفتى نحيلا مرهفا  وذا نظارة علىالعينين، قد أوقفه في مركز الحلقة منحنيا إلى الأمام شيئا ما، وفي فمه سيكارة، قد وعده بأنه سيشعلها له... من بُعد!

     إشعال سيكارة عن بُعد... كيف؟

     أشعل المشعوذ نارا، فيما يُشبه كرة صغيرة مثبتة في نهاية عود. وبإمساكه العود من أوله، يُدني الكرة من السيكارة  ويُبعدها، والفتى يخشى على وجهه من النار، ولكنه يتماسك أمام المتفرجين. والرجل يزيد الكرة التهابا، بأن يُغذيها من مادة مُلهبة لعلها الكحول، الذي يأخذ منه ما يملأ فمه، ثم يمجّه في الهواء عبر الكرة،  فتندفع كتلة من اللهب من أمام عيني الفتى، فيجفل ويتمالك. والسيكارة، في ذلك كله، لا تشتعل حسب الوعد!

     ويعمد المشعوذ إلى أن يحُكّ الكرة المشتعلة بفروة رأسه، فيتخلـّف على الرأس الحليق شيء من الكحول المشتعل. ويمررها  كذلك على ساعديه، وعلى صدره العاري وبطنه، فيستأثر بذلك بخوفنا وعطفنا معًا. 

     ليس هذا وحسب، ولكن المشعوذ كان يتحدث بطلاقة عجيبة، عن أيامه الحاضرة بما يعتريها من بؤس وفقر، وعن أيامه الماضية التي كانت أسوأ حالا: فقد ظلّ يتعاطى المخدّرات على مدى سنين، إلى أن أدخلوه مصحًّا في المدينة (فينيس) خاصا بالمشردين والمدمنين، فخرج وقد تخلـّص من تلك الآفة المدمّرة. واليوم قد مضت عليه أعوام ثمانية وهو معافى، ولكنه يراها حياة مملـّة و... قاتلة!

     فيضحك الناس للمفارقة، ويستدرك:

     - لا لا، أنا أمزح! إنّ الاقلاع عن التعاطي أمر جيد، صدّقوني. يوم كنت مدمنا هـَزُل جسمي جدا. في تلك الأيام كنت أنام في الشوارع والحدائق، مثل كثير من المتعاطين...

(5) 

     كان المشعوذ، في أثناء تدفـّقه بالحديث، يمتحن الناس بنظراته الثاقبة، فوقع، في مقدمة الصفوف، على الأنموذج الذي يبتغيه: فتى في العشرين أو دونها، مصبوغ الشعر بالأشقر الفاقع، يرتدي ’’جاكيت‘‘ من الجلد أسود اللون قد كـُتبت عليه كلمات ورُسمت أحرف، وغاصت قدماه في جزمة سوداء طويلة العنق في عزّ هذا الصيف، وعلى إحدى فردتـَي بنطاله الأسود صور ملصقة!

وكانت تقف إلى جواره صديقته، عـَبْلـَة بيضاء البَشَرة، لا تقلّ عنه غرابة منظر، ليس فقط فيما ترتديه من كنزة حمراء تحت جاكيت ’’جينز‘‘ وينطال عسكري مرقـّش قد  قصّ إلى ما تحت الركبتين، ولكن فيما فعلته برأسها: وقد أتت موسى الحلاقة على شعرها ’’على الصفر‘‘، عدا الناصية التي شدّت فيها ما أبقت من شعرها، المصبوغ بالأسود، وأرسلته وراء أذنيها وعقدته من خلف!  

      ما فعله الزنجي الناصح، أنه تقدم من هذا الفتى، وأخذه من كتفيه الإثنتين، فاستسلم هذا له متبسّما، واقتاده إلى مركز الحلقة، وهو في ذلك كله يتابع قوله:

      - انظروا! إنّ تعاطي المخدرات والإدمان على الكحول شيء سيِّئ للغاية، يخرّب العقول، ويجعل المرء في حالة مزرية...

       والناس يضحكون هذه المرة على الفتى، الذي غاضت بسمته وتورّد وجهه الأبيض. وبكل بساطة أعاده، ممسكـًا به من كتفيه، إلى جوار صديقته.

     ثم إنّ سيكارة الفتى الأول، الذي طال انتظاره، قد أ ُشعلت... ولكن بأن تناولها الزنجي من بين الشفتين، وأشعلها كما تـُشعل  السكائر، وردّها إلى موضعها! وضحك الناس للخدعة، التي بدا أنّ المشعوذ أراد بها إمتاعنا بلـُعْـبـِهِ بالنار، وبإستماعنا إلى نصائحه في الإقلاع  عن التعاطي والإدمان.

     لم أنتهِ من الحكاية. فقبل أن ينفضّ الجمهور ويمضي كلٌّ في طريقه، طلب الرجل منهم التبرّع، واعتلى كرسيا يرقب منه الناس، فاتحًا بين يديه حقيبة لاحتواء التبرعات، وهم يلقون فيها الدولارات فـُرادى، فإذا اتفق أن رأى ورقة تزيد قيمتها على الدولار وهي في طريقها إلى الحقيبة، ردّد عاليا:

      - خمسة دولارات، خمسة دولارات!

      ولحظة تقدم واحد منا نحن الأربعة، وألقى في الحقيبة  بـ’’أمّ الخمسة‘‘، لم ينتبه الرجل إليها. كان صوته يلعلع مخاطبًا بعضهم:

       - رأيتـُكم، يا أولاد الـ... (كلمة بذيئة) أنتم هناك الذين تهربون! (1)

 

 (6)

     مع حلول المساء ازداد إحساسي بالبرد وبالتعب معا. فاقترحت، وطريق العودة إلى المرآب غدا  بعيدا، أن نلبث حيث نحن ويأتي أحدنا بالسيارة. ولما دخلناها احسست بالدفء وبالجوع أيضا. وفي انطلاقنا إلى ’’نورث ـ ريدج‘‘، عدنا نستمتع بمنظر الأشجار ذات الأوراق التي تلتمع  تحت أضواء الليل.

      تراْءى لنا أن نتناول عشاءنا في ’’مطعم النـَّـفـَـق Subway‘‘، الذي يقدم الشطائر (الصندويتش)، تـُعدها لك المرأة ــ وهي عجوزٌ صينية ــ تنتظر منك أن تختار من أنواع اللحوم والسلطات والتوابل المسكوبة أمامها في أوعية تناهز الأربعين عددا،  ما تجعله في شطيرتك، وإنها لتصبر عليك، وإن طال بك الاختيار والحَيْرَة. ثم إنها دَرَجَت شطائرنا كلا في لفافة، ووضعتها، هذه الصينية اللطيفة، في صينية ظريفة، وأقبلت على الحاسوب تنقره بأصابعها، فندفع لها المستحقّ.

      ونحن متحلقون حول طاولة على رصيف المطعم، نلتهم شطائرنا بشهية، لاحظ مَن نـَقـَد منـّا المرأة الثمن، أنّ ما طلبتـْه كان أقلّ ممّا ينبغي. فدخل المحلّ ليصحِّح الحساب، ولحقنا به بالصينية مستطلعين، فعزّ على المرأة أن تخطئ في ذلك، وعادت إلى حاسوبها تستنطقه، ثم قالت:

     - ليس هناك خطأ، يا سيدي!

     - ولكنها أربع شطائر، وليست ثلاثا.

     - إنّ في مطعمنا، هذين الأسبوعين، ’’عرضا خاصا‘‘: من يشتري إثنتين نقدم له الثالثة مجانا!

      فخرجنا نضحك، ونقول بأننا لو كنا نعرف ذلك لطلبنا شطيرة خامسة بثمنها فنحصل على سادسة مجانا... ولكن علينا أولا أن نبحث عمّن يأكل الشطيرتين الكبيرتين في آخر هذا الليل!

  *     *     *

      في البيت سهرنا، نتنقـّـل بين الفضائيات الأمريكية، وبين فضائيات الوطن هذا الذي لا يغادرنا، مستعيدين صورا من مشاهد اليوم، قبل أن يأوي كلٌّ إلى سريره.

      منتصفَ الليل، رأيت، عبر النافذة، قمر لوس أنجلوس يرتفع في السماْء بدرًا منيرا (نحن في منتصف جمادى الآخِرة). إنه نفسه القمر الذي غادر سماء وطني قبل سُويعات عشر.

      قلت أحدّث النفس: لو أنهض الآن فأكتب ما مرّ بي اليوم، وأنا تحت إطلالة القمر!

         فتحت الطاولة الصغيرة، وأخذت قلما: "العطلة الأسبوعية، عند الشابين اللذين.....".

      سوف أضع القلم من يدي بعد هذه الكلمات:

(7)

     يغادرني القمر، منحدرًا نحو الغرب، مجتازا المحيط الهادئ،  حتى يصل إلى اليابان والصين قاطعًا آسيا كلها، غامرًا سماء بلادي بضوئه الحنون، فأوروبة والأطلسي، ليعود إليّ مساء غد... يكون، في دورته الأزليّة، قد عاود إطلالته على أمم، ما تزال تتحارب على سطح هذا الكوكب الصغير، الذي لا يعدو أن يكون في حجم رملة صحراء في هذا الكون العظيم!

      القمر يرسل ضوءه على أمم الأرض، وأمم الأرض تتقاتل!

      ومعذرة من الفنانة فيروز.

                       

هامش:

( 1 )  في شأن هذا الرجل وما قدّمه من فنون براعته، كنت قد وصفت، في مسوّدة المقالة، ما قام به من رفع كرسيّ تضطجع فيه فتاة، وإسناد إحدى قوائم الكرسي على فكـّه السفلي بالاستعانة بجسر صغير من مادة صلبة ألبسها فمه.

ولكنّ المفاجئ لنا أننا وقفنا، في الإنترنت ،على موقع يحمل اسم www.tonyvera.com، يتبيّن لنا فيه أنّ الرجل قد عرض فنونه هذه وظهرت في عدد من أفلام هوليوود (الواقعة في محيط مدينة لوس أنجلوس). وقد بدا أنه، بعد أن استنفدت السينما ما عنده من بدع، عاد إلى الساحات العامة ليؤدي فنـّه أمام الجمهور ويستحصل منه بشقّ النفس على تلك الدُّرَيهمات