آذربيجان

د. عثمان قدري مكانسي

آذربيجان

بقلم: د. عثمان قدري مكانسي

[email protected]

نحن الآن في دبي – الإمارات العربية المتحدة – وفي ثانويتها الأولى ، التي حملت اسمها . أواخر عام أربعة وتسعين وتسع مئة وألف . يدخل زميلي وأخي الأستاذ طلال الدرويش – من لبنان – وهو أخ كريم لطيف المعشر ، حلو الكلام ، ذو ثقافة عالية وأخلاق كريمة قائلاً :

   لقد عرض عليّ الأستاذ يوسف شُرّاب –أبو سامي – أن أستفيد من شهادة الماجستير في دراسة الدكتوراه في " باكو " عاصمة أذربيجان وهو الآن يحضّر لها في معهد الاستشراق وقد عاد منذ أيام ، بعد أن أدّى امتحانات في بعض المواد قبل البدء بكتابة الرسالة .-وكان الأستاذ شُرّاب يعمل مشرفاً تربويّاً في الثانوية نفسها سنوات عدة أثبت فيها جدارة أهّلَتْه لأن يكون موجهاً تربويّاً ناجحا في المنطقة التعليمية في دبي ، وهو من غزّة هاشم المعروف أهلها بالخشونة والرجولة والأخلاق البدوية التي تخفي في طياتها لطفاً محبباً إن عرف الآخرون التعامل معهم والدخول إلى نفوسهم ، إلا أن لطف الأستاذ يوسف كان ظاهراً . فالابتسامة لا تفارق محيّاه ، بالإضافة إلى لباقته وتحببه إلى من حوله .

  كنت أنظر إلى أبي حسين – الأستاذ طلال – أستشرف الغاية من حديثه . فأردف قائلاً :

فما رأيك أن نبدأ معاً يا أبا حسّان ، فلن أقدم على أمر لا تكون فيه معي ...

كان الإيجابَ السريعَ جوابي ، فقد كنت أقرأ كثيراً – وما أزال – فلمَ لا أتوّج القراءة بدرجة علمية مناسبة ! ومما أسرع بي إلى الإيجاب أنني كنت ألتقي جاري الدكتور .... المدرس للنحو  في كلية الدراسات العربية والإسلامية نتدارس النحو ، فأرى معلوماته فيه متواضعة ، وكثيرا ما أصوّب أخطاءه ... ومع ذلك تراه في المنتديات واللقاءات يقدَّم على الآخرين بلقبه العلميّ ... والدنيا- مع الأسف -  مظاهر ، وغالب الناس يُؤخذون بالألقاب ... مع أن منهم – حاشا  العلماء الأفاضل –  من ينطبق عليه قول الشاعر الأندلسيّ :

         مما يزهّدني في أرض أندلسٍ          ألقـاب معتـمد فيها ومعتضـدِ

         ألقابُ مملكة في غير موضعها         كالهرّ يحكي انتفاخاً صولةَ الأسدِ

التقينا الأستاذ يوسف شراب ، وهو مندوب عميد معهد الاستشراق _ أرشاد _  والقائم على عملية التسجيل ، قدمنا الأوراق المطلوبة للتسجيل  ودفعنا رسم الانتساب (200) مئتي دولار ، ولم يمض شهر حتى جاءنا القبول على أن نحدد موضوع الرسالة للموافقة عليها .. سألت : إن كان من الممكن أن تكون الرسالة في النحو ، فكان الجواب : إن المعهد مختص بالأمور الإسلامية كافة ،  والأدب الإسلامي جزء منها، أما النحو فلا يدخل في ذلك .

استخرت الله تعالى ، وبدأت أفكر في موضوع غير مطروق يقبله المعهد ، فهداني الله سبحانه إلى عنوان جديد قد يقبل سريعا ، فأستفيد من الوقت " الشعر العربي في الفتوحات العثمانية" ووضعت خطته وأرسلتها إلى باكو عن طريق الفاكس إلى مكتب الأستاذ الدكتور " رفيق عليوف " نائب العميد والمشرف مباشرة على الدراسات ، فمضى شهر حين جاءتني الموافقة مع بعض التعديلات . وكان رسم السنة الدراسية الأولى ( 1000) ألف دولار ، ولعل المعهد حين ترامى للدارسين خبره وكثر المنتسبون إليه زاد في رسمه السنوي ، فكان في السنة الثانية ألفاً ومئتين ، وفي السنة الثالثة ألفاً وخمس مئة دولار ، وكان من بين المقررات الدرسية : التاريخ الآذريّ ، والثقافة الإسلامية ، ومقتطفات من الأدب في العصور الأدبية كلها على أن يصاحبها دراسة مستفيضة لفن من الفنون الأدبية ، فاخترت الشاعر العملاق أحمد شوقي في إسلامياته.

ولغة إسلامية أو عالمية فاخترت الإنجليزية لإلمامي المتواضع بها ، والإنسان بعد الخامسة والأربعين من عمره يصعب عليه أن يدرس لغة جديدة ، فكانت اللغة الإنجليزية منقذا لي من الدخول في متاهات اللغات الأخرى ، مع العلم أنني درست في جامعة حلب اللغة الفارسية ، وأحببتها ، إلا أن الزمن والدراسة السطحية لها وعدم متابعتها أكثر من ثلاثين عاما جعلها في طيّ النسيان .

كنت والأستاذ طلال الدرويش على مدى سنة ونصف السنة ندرس المقررات هذه استعداداً للامتحان فيها الذي اعتمد في أواخر حزيران من عام ستة وتسعين وتسع مئة وألف .ونجمع  المصادر لبحثينا – رسالتي الدكتوراه – وكانت رسالته في " القص الفنّي في المثل العربي ، عصور القوة "  وقد استفدت منها في كتابي " صور من التربية في القرآن الكريم " الذي نشرته دار ابن حزم عام ألفين . كانت الدكتورة " آرتـلي " مشرفة على الرسالة عن بعد ، فهي لم تزر الإمارات ، والفضل في ذلك لجهاز الفاكس الذي انتشر في التسعينات من القرن الماضي ، فسهّل أموراً كثيرة .  أما الأخ الأستاذ طلال فقد أشرفت على رسالته الدكتورة  "لورا " عن بعد كذلك .

في الأسبوع الأخير من حزيران كانت الطائرة الآذرية تمخر عباب الفضاء متجهة إلى إيران شرقاً بعيد العصر ، فتقّر المسافة بينه وبين المغرب ، ولم أكن أدري أن الصحارى تكثر في إيران حتى طرنا فوقها ، فإذا هي – الصحراء – شاسعة واسعة لا تكاد تجد في جنوبها سوى اللون الأصفر يتخلله نقاط خضراء ، هي الواحات المتناثرة دون انتظام في البحر الرمليّ الممتد ، يقاطعه جبال جرداء شامخة تطاول عنان السماء .فإذا ما اتجهت الطائرة نحو الشمال زادت الرقعة الخضراء حتى تكون هي الغالبة ، ورأيت بعض البحيرات والأنهار . وتكاثفـت الغيوم حتى تكاد تحجب عنك الرؤية .إلى أن ترى نفسك فوق بحر قزوين ، فتعلم أنك وصلت باكو .... ولعلك تقول : إن المسافة بين الشارقة وباكو قاربت ثلاث الساعات ، وحلقت بك الطائرة بعيد العصر ، وعلى هذا فلن ترى من إيران سوى ساعةٍ ونصفِ الساعة الأولى ، فكيف وصفتَ أعاليها فذكرت الأنهار والبحيرات والأرض الخضراء ؟! أقول صدقتَ ولكن إذا دمجت رحلتي الذهاب والعودة – وكلتاهما كانت في النهار – وضح لك الأمر ورأيتَ معي ما رأيتُ وعاينتَ ماعاينتُ .

مطار باكو والليلة الأولى

كان بناء المطار صغيرا يكاد يتسع لركاب الطائرة ،الواقفين ينتظرون دورهم البطيء في الطابور أمام موظف الجوازات الوحيد . وجاءت حقيبتانا الصغيرتان ، فتلقفناهما . وسُئلنا عن تأشيرة الدخول فأبرزنا بطاقتي التسجيل في الكلية ، وسُمح لنا بالدخول بعد ساعة دون جوازي سفرنا ، وأخذنا إشعارين بأنهما في ذمّة وزارة الخارجية ..... وعلى الباب شاب يقول بصوت واضح كلما خرج أحد المسافرين  وبكلمات عربية ذات لكنة أعجمية : سيد " اوسمان مكنزي " سيد " طالل درفيش " . نظر إلينا ونظرنا إليه وتبادلنا الابتسام ، وسلمنا عليه  فإذا هو أحد العاملين في معهد الاستشراق  مكلف باستقبالنا ...... الوقت يقترب من منتصف الليل . والمسافة بين المطار والمدينة يجاوز الثلاثين كيلومترا ، والإضاءة في الشوارع قليلة  إلا أنها مؤنسة بأبنيتها المتباعدة التي ينبعث النور منها ، والسيارات المنطلقة هنا وهناك ، ورأينا أنفسنا حين اقتربنا من المدينة نتجه إلى حيٍّ يبدو عليه أنه جديد الإنشاء يضم الأسر المتوسطة القريبة من اليسار ، فالشوارع متوسطة العرض ، والبيوت منسقة ، وبينها أراض خالية تنتظر أن تُبنى . ... دخلنا بيتا مفروشا فرشا بسيطاً مرتبا علمنا بعدُ أنه للدكتور " رفيق عليوف " يستقبل فيه الدارسين مقابل أجرة يومية ، قدرها سبعون دولاراً ، وراتب الموظف المحترم في إذربيجان تلك الأيام لا يجاوز الأربعين دولاراً شهريا !!. حاول صاحب الدار أن يكرمنا فترك في البيت رغيفين وعلبة من السمك المحفوظ  وبعض الفاكهة ، لكنه خال من الماء ! ولا حياة بغير ماء ، خاصة المسافر الذي يريد الاغتسال وتبديل ثيابه ليستريح من وعثاء السفر ، ولكن : 

    ما كل ما يتمنى المرء يدركه     تجري الرياح بما لا تشتهي السفن

لم يكن بمخيلتنا أن هذا الثعلب يمسك بمفاصل الأمور المالية في المعهد ، ويحاول الاستفادة وحده بكل الطرق من الدارسين .... كان معنا بعض الطعام الذي طبخته أم حسين زوجة طلال ، فنحن نهتم بنوع المأكل وطريقة صنعه  لترتاح النفس والمعدة  ، وخاصة أبا حسين  صاحب الذوق الرفيع  والقدرة على أداء فنون الطبخ وممارسة هذه الهواية بإتقان . وتناولنا بعض الفاكهة بعد أن غسلناها بالصابون  وبعض الماء الموجود الذي قنّنـا استعماله  ونمنا سريعا ،دون اغتسال – طبعا -  فقد أخذ التعب منا كل مأخذ .

   وفي صباح اليوم التالي جاء الدكتور عليوف مسلما ومرحباً بوجهه البشوش ولسانه المعسول ، وحين طلبنا إليه أن يأخذنا إلى أحد الفنادق فوجىء ، وحسّن لنا البيت  كأنه سمسار   وكأننا مستأجران لفترة طويلة يريد أن لا يطيرا من يده ، إلا أنه سرعان ما انتبه لنفسه وحملنا إلى فندق فخم المظهر قديم البناء ، يبدو عليه العز القديم فترة الخمسينات والستينات ، فرشه الفخم قديم لكنه ما يزال يحتفظ بقدر من الرواء والبهاء ، يقدم لزبائنه الفطور والعشاء أما الغداء فقد كنا نقصد له  المطاعم التركية التي تقدم وجبات فاخرة تبدو لنا مقبولة السعر والمذاق .

باكو العاصمة

المدينة متوسطة الحجم ، شوارعها تميل إلى النظافة والسعة ، فهي عاصمة البترول في العهد السوفياتي ، وكلية البترول الجامعية فيها عريقة خرّجت الآلاف من الطلبة والباحثين ، والبناء فيها يغلب عليه الحجر ، أما المجمعات السكنية الحديثة والكبيرة فقد أنشئت بالإسمنت المسلح والواجهات الزجاجية على الغرار الجديد ، لكنك تراها شأن المدن الروسية باهتة فقيرة ، يغلب عليها البؤس والفاقة . وعلى الرغم من ذلك فأجرة غرفتنا ذات السريرين في الليلة الواحدة مئة واثنان وعشرون دولاراً ، عشرون بالمئة منها لسمسارنا الذي لم نكن ندري عن صفقاته وصفاقته  شيئا إلا عندما فاحت رائحته التي زكمت الأنوف عام ألفين واثنين حين كان وزيرا للأديان  .

   جاءنا في اليوم التالي لاستقرارنا في الفندق الدكتور اللطيف رامز مرسالوف يصطحبنا إلى معهد الدراسات الشرقية " أرشاد " .. كان البناء ضخماًعاليا ذا طابقين ، قائما على أعمدة مزركشة مستديرة رومانية الشكل . ذكرنا بجامعة دمشق ، والسراي والقصر العدلي بحلب ، وجامعة القاهرة القديمة . وكانت غرف الدرس على جانبي البناء من الداخل . وفي مكتب العميد وجدنا الدكتور عليوف  وبعض الأساتذة الدكاترة ومعهم مؤلف " مختصر تاريخ آذربيجان " الدكتور محمود إسماعيل ..... كنت قد قرأت هذا الكتاب بإمعان فوجدت فيه مآخذ عدّة صوّبتها مع الدليل ، ولأنه على ما يبدو مايزال مأخوذا بالاشتراكية والنظام الشيوعي ،  وينتظر أن يعود النظام السوفياتي يوما فقد تناول تاريخ آذربيجان من منطلق ما اعتقده ، فأخطأ في استنتاجاته  فكان لنا معه جولة إيجابية صرّح بعدها أنه لم يلتق طلابا نابهين يطرحون مواضيع وأفكارا تصوب أخطاء الكتب التي يدرسونها .

   وفي امتحان الثقافة الإسلامية كنا عند بروفيسور ما عدت أذكر اسمه ، مكتبه كبير يعمل فيه ثلاث من النساء حملة الدكتوراه  ، كان الدكتور مرسالوف المترجم بيننا إذا استشكل عليه فهمنا في تناول بعض الأفكار .. كان اللقاء ممتعاً دام أكثر من ساعتين تناولنا الموضوعات فيها بشفافية ونقاش هادئ .. وحين قلنا له : لم نبدأ مناقشة المقرر وقد مضى وقت طويل قال : كنتما اليوم أستاذيّ أتعلم منكما ، على العكس ممن يأتون والقلق باد عليهم والخوف من الامتحان ظاهر في حركاتهم وسكناتهم ، فيتلعثمون ويرتبكون . وعلى الرغم أنهم من العرب وأصحاب التاريخ الذي أمتحنهم فيه – أنا الآذري الغريب – فلم يملأ الكثير منهم عينيّ ، فلما دخلتما مبتسمين واثقين من نفسيكما قلت قي نفسي أجربكما في قضايا أخرى ، فإن صدق حدسي استفدت منكما ، وإلا عاملتكما كغيركما ، فوجدت طرازا آخر أعتز بالتعرف إليه ، والحديث معه ... شكرا لكما حللتما أهلا ونزلتما سهلا .

مستواي في اللغة الإنجليزية فوق الوسط ،  وقد تركتها بعيد تخرجي من الجامعة عام سبعين وتسع مئة وألف ، وأنا الآن في السنة السادسة والتسعين   بعد ست وثلاثين سنة أراني  أمام امتحان فيها وقد نسيت منها الكثير ، ولا بدّ من استعادته ..... انتسبت إلى معهد الثقافة البريطاني في الشارقة في دورة نشّطتْ ذاكرتي في استرجاع ما نسِيَتْه من هذه اللغة . وكان الأخ طلال متمكنا فيها ذا مستوى راقٍ ، فكان أستاذا لي فيها . فلما حضرنا معاً امتحانها أمام عميدة كلية اللغة الانجليزية في المعهد بدأت به تناقشه وتحاوره فكان أستاذاً فيها بحق ، والحقيقة أنه عمل مدرسا لهذه اللغة سنوات عدّة في لبنان.... وجاء دوري فكان أول أسئلتها : أمتزوج أنت ؟ قلت : نعم . وكم لك من الأولاد؟ قلت : لم أُرزق . أتزوجت أخرى؟ فلت : لا  قالت ولمَ؟ فأخبرتها أنني خرجت من بلادي شريداً طريداً فكانت زوجتي معي على حلو العيش ومُـرِّه فلم أشأْ أن أسيء إليها فيما تكره . فابتسمت " الحيزبون " وقالت هذا الوفاء بعينه ، وهكذا يفعل الحب والودّ ، من أين أنت؟ قلت : من سورية . فبدأت تذمُّ الخليجيين الذين يكثرون من الزيجات وتفرغ مافي نفسها من سخط على الرجال المزواجين الذين تجاوزوها إلى غيرها ،فبقيت عانسة!!  – وهي فوق الستين – تندب حظها ، وأطرتني شاكرة شهامتي وحسن صبري ووفائي !!، وانتهى بذلك الامتحان قبل أن يبدأ بدرجة جيدة جدا أفرغت فيها جزيل امتنانها وعظيم تقديرها.

المعهد وبعض الصروح العلمية والفكرية والأدبية أقيمت على رابية مطلة على المدينةالتي كان عدد سكانها قبل الحرب الآذرية الأرمنية  في إقليم " كاراباخ " أقل من مليون نسمة ، فنزح إليها- بعد المعركة الخاسرة التي دعم فيها الروس الأرمن بالأسلحة والمعدات ، وجيش كبير منهم -  مليون ونصف المليون تاركين أرضهم وديارهم ، ناجين بأنفسهم وأهليهم  فازداد بؤس المدينة بؤساً ، وفقرها فقراً على الرغم من البترول المتدفق من أرضها وبحرها – فهي على شاطئ قزوين المغلق الذي تحيط به عدّة دول منها إيران جنوباً ، والعجيب أن إيران كانت عامل حسم هاما في خسارة آذربيجان الحرب أمام الأرمن ! فقد طالبت آذربيجان بعد استقلالها عن الاتحاد السوفياتي بالمنطقة الجنوبية التي ضمتها إيران إليها حين اقتسمتها الأخيرة  وروسيا القيصرية في بداية القرن الماضي . وردّتْ إيران بدعم الأرمن ضد جارتها وأختها في الدين والمذهب الشيعيّ حتى تنشغل بمصائبها عن المطالبة بشعبها وأرضه. ولا عجب –إذاً- أن نرى إيران تنشئ حربا مع العراق في الثمانينات ، ثم تعادي أفغانستان فتشترك بجيش يقاتل مع الأمريكان ضدّهم عام ألفين واثنين!! .

خضعت آذربيجان للروس أكثر من مئة وعشرين سنة ، فضيّع أهلها ما بقي من دينهم ،فتراهم يعتبرون الإسلام قومية ، ففي العاصمة مسجدان فقط تقام فيهما الصلاة . الأول للسنّة والآخر للشيعة ، ولا يقصدهما إلا الزوّار ، وحين تقول للمرافق خذني إلى المسجد يرافقك حتى الباب ، وينتظرك خارج المسجد حتى تنتهي من صلاتك!. وقريباً من الفندق على شاطئ البحر حديقة تنقلب بعد المغرب إلى ملتقى العشاق والزناة ، وليس من ضابط أخلاقيّ وديني ولا تشعر أنك في بلدٍ مسلم ، كما تشعر حين تزور باكستان أو تركيا .

الزيارة الثانية

اكملْت الرسالة أواخر عام ستة وتسعين ، وأرسلتها إلى باكو لتطّلع عليها لجنة من الأساتذة المختصين ولتترجم إلى الآذرية – وهذا ما درج المعهد عليه- وعلى مبدأ البقرة الحلوب استوفى المترجم عن كل ورقة ثلاثة دولارات ونصف الدولار ، ولما كانت الرسالة كبيرة تكاد تصل إلى ثلاث مئة ورقة فقد دفعت ألف دولار،  ومثله رسم مناقشتها .... تطلب العمادة أن أتصل بالمترجم ، فاتصلت به لأجده يعترض على وصفي  " أتاتورك " باليهوديّ الذي دمّر الخلافة العثمانية ، وقضى على الحرف العربي ، وسلخ تركية عن الشعوب الإسلامية ، وحارب الإسلام فيها وقتل الدعاة  . قلت له : ما شأنك أنت بذلك ؟ أأنت المشرف على الرسالة ؟ وأنت من يناقشني فيها ؟! قال : لا . فعلامَ تعترض؟ قال : هو مثَلي الأعلى في الحياة ، وقد حطّمتَ في نفسي هذا المثل . قلت: ألا تراني عزَوْت هذا إلى مصادره ؟ قال بلى . قلت : فهذا رأيي لا أحيد عنه ، ودعْ غيرك يناقشني ... وانتهت المكالمة .

اخترتُ وطلالٌ أواخر الشهر السادس من العام ألفٍ وتسع مئة وثمانية وتسعين لمناقشة رسالتينا . سافرنا في اليوم الرابع والعشرين منه لنعود في الثامن والعشرين –خمسة أيام فقط-وكان جواز سفري – وما يزال -  كلما انتهى أجدده عن غير طريق السفارة في الإمارات . فأنا من الإخوان المسلمين الذين حُكم عليهم بالإعدام حسب قانون العار الذي اتخذه مجلس الشعب السوري بأمر من الدكتاتور الهالك حافظ الاسد عام ألف وتسع مئة وثمانين

     وكم ذا بمصرَ من المضحكاتِ         ولكنّـه ضَحِـكٌ كالبُـكا

فماذا يقول الشاعر لو أنه عاش إلى أن يرى الظلم والإرهاب في سورية الحبيبة ؟! سيرى العجبْ من شعبان حتى رجبْ!  ولأنني من هؤلاء الرجعيين الذين يريدون للأمة العودة إلى دينها وربها وكتابه فقد شملني هذا القانون العار ، ولأنني نجوت من كيدهم وعذابهم فلن يعطوني حقي من الوثائق وسيتابعونني في رزقي ونزع الأمن والأمان من حياتي ، وخاب ظنهم . فمن كان مع الله كان الله معه ، حين عدت من رحلتي إلى آذربيجان وجدت أنهم أنهوا عملي بحجة أنني غير مُرَحّبٍ بي في الإمارات ، فقد اكتشفت أجهزة الأمن فيها أنني أخرّب عقول الطلاب ، وأدعوهم إلى الله تعالى ، وأحاول أن أكون القدوة والمثال .وهذا لا يرضي " الرويبضات " واسيادها  .

قلت لطلال : إن رأيتَهم في المطار عرفوا جواز سفري فألغَوا الإقامة فأخبر زوجتي بذلك حين تعود إلى الإمارات ،، وضحكنا .. فلما وقفت أمام الموظف ختم على الجواز دون أن يلحظ شيئا .. وهذا ما كان في العودة . أما طلال فقد استوقفوه في الخروج والعودة مدّة ليست باليسيرة ، ولعلهم لم يثبتوا تأشيرة الإقامة في محفوظات الحاسوب فكانوا يعودون في المرتين إلى الوثائق في المركز الرئيسيّ . قال : لعل جواز سفري  يا أبا حسان هو المزوّر لاجوازك!! وضحكنا وحمدنا الله تعالى على حفظه لعباده وسترهم . وفي الطائرة كان القلم والورقة بين يدي أكتب هذه القصيدة :

                                           ياربنـا                                                         

              اغفـر لنـا ذنوبَنـا                      واستر علينـا عيبنـا

              واختـم إلهي دائمـاً                      بالصـالحات يومنـا

              وكن لنـا عونـاًعلى                     ما كـان قـد أهمّنـا

                                            يا ربنـا

              هيّء لنـا من أمرنا                      سعـادةً ، وخُصّـنـا

              بالفضل منك إن بدا                       في الأفق من تقصيرنا

              زَلٌّ، فنحن الضُعَفـا                      وأنـت يا سـيّـدَنـا

 

               ربٌّ رحيـمٌ ، غافرٌ                     رضاك مفتـاحُ الهنـا

               وبِـرُّك الفائض في                     هـذي الحيـاة عَمَّنـا

                                            يا ربنـا

              أذهبْ عن الناس العنا                     وامنـعْ ببـأسٍ ذُلّنـا

              على القتال تحت را                       يـة الجهـاد دُلّـنـا

              فبـالجهـاد إخـوتي                     نُـذِلُّ أعـداءً لـنـا

              وبالجهـاد نستعـيـ                     دُ ما مضى من عزّنـا

              وإن دهى أمرٌ فبـالـ                    مولى القديـرِ نصرُنـا

              وبُعدُنـا عن شـرعِهِ                    يورث أسبـاب الفنـا

                                         يا إخوتي

              فلنرفعِ الأيدي إلى الله      ـ م ـ             العـلِيِّ عـلَّنـا

              نحظى بخيـرٍ وافـرٍ                    فخيـرُهُ فيضُ السنـا

استقبلنا في المطار أحد العاملين في المعهد ، وحملنا بسيارته إلى فتدق أضخم من السابق وأعلى ، إلى الدور الرابع عشر – على ما أظن – وقد جاوز الليل الواحدة بعد منتصفه، وتركنا في غرفة أكل الدهر عليها وشرب ، وأجرتها مئة وعشرون دولاراً في الليلة الواحدة .

      الغرفة مطلة على ساحة كبيرة كانت فيما مضى ساحة العرض العسكرية التي يُقام فيها سنويا أو في المناسبات القومية  استعراض القطع العسكرية ويحتشد على جنباتها عشرات الآلاف يستمتعون بالاحتفالات المهيبة ، وقد يحضرها قادة " الكريملن " فتتجه إليها أنظار الملايين ووسائل الإعلام . وسبحان من يرفع أقواما ويخفض آخرين . وهي – الغرفة – أصغر حجما من التي نزلناها في المرة السابقة .. كنا مرهقَيْن تعبين  ، فلم أستطع أن أعُدَ من الصراصير في زاوية الغرفة فوقي أكثر من سبعة عشر ! وكان أبو حسين أنشط إذ عدّ واحداً وعشرين صرصوراً ، وفي الليلة التالية كنا أحذنا قسطا من الراحة واستعددنا للحرب فاشترينا " بيف باف " صوبناه على جموعها المحتشدة في الزوايا والأركان وفوق المنضدة وعلى حوافّ خزانة الملابس التي لا يعرف لها لون ، وفوق ما يسمّى" الموكيت " الذي داسه عشرات الآلاف من الزائرين على مدى خمسين سنة ، أو ربما أكثر فلم يعد له لون ، ولا تستطيع أن تدوسه حافيا وإلا حملت رجلاك مآسي أجيال سلفتْ. كانت إدارة الفندق تجري ترميمات له  كاملة وصلت فيها إلى الدور الحادي عشر. والحقيقة أننا حين تجولنا في الأدوار السفلية كنا في عالم آخر،  فكل شيء جديد ومرتب ونظيف وفخيم .. نظرت إلى الأخ طلال أقول " بينهما برزخ لا يبغيان " . قال : ما رأيك أن نبدّل المكان ؟ قلت : أسرعْ . فلما علمنا أن أجرة الليلة في الأدوار الجديدة مئتان وخمسون دولاراً عدنا إلى غرفتنا مرتاحين ،  فقد قضينا على الصراصير بنجاح منقطع النظير وكانت بالعشرات يتراوح طولها بين عقلة الأصبع والعقلتين ، والمكان أعلى، يطل على أماكن أبعد ، وحالنا حال الثعلب الذي فشل في أكل العنب :

                      وقال : هذا حصرمٌ            رأيتـه في حلـبِ

     في اليوم الثالث كنا على موعد في الكلية ليناقش كل منا رسالته . مشينا في المناطق القريبة من الفندق نستروح الأنسام ونتناول الشاي في إحدى الحدائق القريبة ، نفطر زيتاً وزعتراً من مطبخ أم حسين - فقد حمّلتْ زوجها أنواع الأطعمة التي كفتنا مؤونة شراء غير الخبز والماء- مع الشاي الساخن الطازج وقد أعده قبل أن ننزل معاً على أرجلنا هو للمرة الأولى ، وأنا  نزلت مرة قبله لأجلب الخبز فلما وصل المصعد - وكان متسعا -إلى الدور الأول فتح ربع  فتحة وانقطعت الكهرباء وكنا نملؤه فاستنجدنا بمن يسمعنا ، ففتحوه يدويا ، وظلت الكهرباء منقطعة أكثر من خمس ساعات ، وحمدت الله تعالى على النجاة من الموت اختناقاً .

      جاء الدكتور عليوف بنفسه يحملنا إلى الكلية ، وهناك تناولنا القهوة التركية ، فلما اجتمع الأساتذة الدكاترة المناقشون انتقلنا إلى قاعة كبيرة ، واتخذوا أماكنهم على السدة ، وجلس أبو حسين إلى طاولة أمامهم ..... واستغرقت مناقشة الرسالة ساعة من الزمن ، كان فيها الفارس المصاول الذي أثبت بفصاحته وحسن عرضه أهليّته أن يكون " الدكتور طلالاً الدرويش " ثم جاء دوري ، فعرضت رسالتي وكان نقاش طويل دام أكثر من ساعة ، أوضحت فيه القصد من الرسالة ورأيي فيما وصلت إليه من البحث ، ونلت الشهادة بدرجة " امتياز "  والحمد لله الذي بنعمته تتم الصالحات .

       كان يوما بهيجاً تمنينا أن يشاركنا فيه فرحتنا الأهل والأحباب ، ولا أكتمك أيها القارئ الكريم أن المناقشين كانوا مهذبين إذ نادونا : دكتور طلال ، دكتور عثمان ، ونحن ذاهبون إلى أحد المطاعم الفخمة للغداء فوجدنا للقب الجديد طعما حلواً ، إلا أن الزمن جعلنا نراه عاديا إذ فقد بريقه  بعد أن سمعته كثيرا ، فأيقنت أن " أبا حسان " أقرب إلى نفسي وقلبي ، فقد صاحبني في حلّي وترحالي . وأشعر حين أنادى به بكل ما مرّ عليّ في حياتي من حلو ومر وشباب وكهولة ، وسعادة . إنه يعني العمر الذي أسأل الله تعالى أن يتقبل مني ما أحسنته فيه ، وأن يعفو عني فيما أسأته . إنه يجمعني مع رفيقة دربي وشقيقة عمري أم حسان .