باكستان(2)

د. عثمان قدري مكانسي

باكستان(2)

بقلم: د. عثمان قدري مكانسي

[email protected]

دنت العطلة الصيفية لعام ثمانية وثمانين وتسع مئة وألف، وكنا في أواخر أيار " مايو " حين جلست إلى أحد الإخوة المدرسين أشكو له صعوبة استقدام أخت زوجتي إلى الإمارات، مع أولادها الثلاثة، وهي مدرسة للغة العربية تحمل شهادة الماجستير ، وتعيش وحدها في حلب بعد أن اعتقل زوجها الدكتور " حسني ناعسة" المدرس في جامعة تشرين في اللاذقية ، عام واحد وثمانين ، وما عاد يعرف عنه خبر ، فانتقلت إلى حلب ، تستأنس ببعض أهلها .

   سمع الحديث الأستاذ الفاضل  الشاعر" عبد المنعم عواد " رئيس رابطة الأدباء في مصر الآن ، وكان مدرسا في ثانوية دبي ، يجلس على منضدته أمامنا، فتبسم قائلا : يأخي أبا حسان : هلاّ أعدتَ عليّ الأمر ، فقد سمعت منه شذرات، ولعلي أستطيع خدمتها وأولادها، إن شاء الله تعالى.

     ذكرت له أن بإمكان الأخت أن تستزير أختها إن كانت متزوجة ، وأن تكفلها إن لم تكن متزوجة، أما أن تكفلها وأولادها فأمر يحتاج إلى واسطة ، ولن يفهم أولو الأمر في الإمارات طبيعة ما يجري في سورية .. قد يتفهم أصحاب العقول الراجحة والقلوب الرحيمة الوضع  فيتجاوزون ، وقد يعرف المفسدون منهم حقيقة الأمر فيتعنتون ويرفضون. وفي الدنيا من كلا النوعين ما يكفي.

     كان رئيس دائرة الهجرة والجوازات في دبي الشاعر المقدم محمد السيد وله مشاركات في الأمسيات الشعرية والأدبية التي يحضرها الشاعر عبد المنعم ، فتأصلت العلاقة الأدبية بينهما ، وولّدت  صداقة طيبة ، شجعته أن يتصل به فيعرض عليه الأمر فيعده بالإيجاب ، ومن ضمن الشفاعة أنني أشترك معهما في قرض الشعر وصنعة الأدب.

     وكان وكيل مدرستنا الأستاذ "حسن " من دولة الإمارات - وهو مثال اللطف والأدب – عرّفني على صديق له،  رئيس قسم التأشيرات في الدائرة نفسها لطيف المعشر ذكي الفؤاد ، ونصحني أن أعطيه طلبات التأشيرة ، ولن يقصر في النصح لنا ومساعدتنا.

     قلت في نفسي : لن أحتاج لزيارة العقيد إن حُل مع الملازم الأول ... سألت عنه فلم يكن موجودا . فاتجهت إلى مكتب الرئيس، وأخبرت مسؤول مكتبه أنني أريد مقابلته ، وانتظرت دقائق ، ثم دخلت عليه ، فاستقبلني بوجه بشوش ، وبسمة لطيفة ، وأدب جم. ومنح الأخت  وأولادها إقامة بكفالة أختها مدة سنة لا تجدد، فحمدت الله تعالى أن أمر الأخت الطيبة ميسّر ، وهذه أول الأمارات- بفتح الهمزة- ونزلت بالموافقة إلى الشباك الذي سألت فيه عن الملازم الأول ، ووقفت وراء المراجعين الذين سبقوني، فناداني ضابط خلفه مشيرا إليّ أن تجاوز الصف ، فتجاوزته ، فقال لي: أأنت سألت عن فلان؟ قلت نعم .

      قال: لقد ناديتك حين لم تجده وكأنك لم تسمعني، وقلت في نفسي : لعل هذا الرجل قصده لأمر أنوب عنه في خدمته... شكرته لشهامته ، وقلت هذه ثاني الأمارات الطيبة لهذه الأخت الكريمة .

    مضى أسبوعان ، وكان الأولاد يملأون البيت سعادة ومرحا ، لم يرزقنا الله تعالى أولادا ، فكان عبد السلام ومصطفى وصفاء رياحين البيت ... قلت فيهم أول مجيئهم إلى الإمارات 

برؤيتكم  زاد  وجهي iiضياء
فلقيـاكمُ  أنس  عمر  iiزهيٍّ
ربيع  الحياة إذا ما iiذُكـرتم
ولمْ  لا،  وأنتم نسيم iiالرجاء
ولمْ  لا  وحبكـمُ مالـك iiل
وفيكـم  براءة كل iiطهـور
فزقزقة  العندليب iiاستعارت
وعطرالزهوروفوح  iiالورود
وشمس الحياة ونور الصباح









 
وشعشع  فيه الرضا والسناء
وفيه  السـلامة ، فيه الهناء
يمور  ، ويكثر فيه iiالنمـاء
وأنتـم  هدية رب iiالسمـاء
نياط القلوب ومجرى iiالدماء
وطهر  الجمال النقي iiالرواء
لحـون أهازيجكـم iiوالغناء
شذاكـم يميس فيجلو iiالعناء
وجوهكـمُ النيراتُ iiالوضاء

أرسل الأخ وسيم من لاهور صورة مصدقة عن شهادة الماجستير، وقال : سأرسل لكم الكرتونة الأصلية في الصيف . فقالت أم حسان ألا نسافر أياما إلى الباكستان نتعرف عليها ونزور مدنها ، وآثارها ونتعرف على عادات أهلها عن كثب؟ .

    قلت لها : ألم تعرفي أهلها وهم يملؤون الشارقة وما حولها ؟ إنك لتجدينهم في المحلات التجارية ، والشوارع والأزقة والمساجد والمتنزهات والمطاعم وعلى أبواب الأبنية وفي المنام!! نحن في دولة ينبغي أن تسمى " دولة الإمارات الهندية المتحدة "

   قالت : افهمني. .. قلت: فهمتك يا زوجتي ، وقلتُ ما قلتُ لتفهمي أنني أفهمك .

   قالت : المهم أن يكون الفهم عمليا . قلت مغلوبا على أمري : وصلت الرسالة .

 كان مخطط رحلتنا زيارة لاهور والبنجاب ، ثم بيشاور، ومنها إلى كراتشي ثم الشارقة. وحددنا ثلاثة أسابيع لهذه الرحلة "السندعثمانية " على وزن الرحلة " السندبادية" فكلانا سافر إلى بلاد السند بطريقته وسطّر ما رأى وشتان ما بين الأصل والتقليد ، فهناك الخيال والأساطير ، والمغامرات والتشويق ، وهنا الواقع الممزوج بالرومانسية وشيء من المعاصرة المادية .

  كلية الدراسات الإسلامية والعربية أنشأها الملياردير الإماراتي  السيد جمعة الماجد في دبي ، تهتم بتخريج مثقفين جامعيين متخصصين بدراسة الفقه والتفسيرواللغة العربية، وحشد لها مجموعة طيبة من المدرسين من حملة  شهادة الدكتوراه والماجستير ، فكلمنا عميدها إذ ذاك الدكتور محمود إبراهيم الديك في عمل أم عبد السلام أخت أم حسان ، فقابلها ، وتمت الموافقة .

     وحين علم أن زوجها معتقل ، وأنها تعيل أولادها رق قلبه لها، وحصل من مؤسس الكليةعلى سكن مجاني لهم قرب الكلية، قائلا: كنت معتقلا في سبيل الله يوما ، فهيأ الله تعالى لأهلي من يساعدهم ، وأنا أرجو منه تعالى أن يوفقني لخدمة عباده. فكانت هذه أمارة أخرى طيبة لهذه الأخت الكريمة.

     حلّقت بنا الطائرة الباكستانية عصرا من مطار الشارقة متجهة شرقا إلى لاهور، وكانت المياه من تحتنا تلتمع بشدة ، تعكس ضوء الشمس فتصدر بريقا قريبا إلى البياض ، ربما كان هذا لبعد المسافة ، فقد كنا على ارتفاع ثلاثين ألف قدم. ثم اتجهت صوب الأراضي الإيرانية فاخترقتها،  ثم اتجهت إلى الشمال الغربي مصعدة نحو لاهور ، كنت ترى وأنت تطير فوق إيران الجبال الجرداء والصحارى الممتدة المترامية الأطراف يتخللها الأراضي الزراعية الواسعة، وبعض المسيلات المائية .

    أسرع المغيب إلى الشفق ، فالشمس إلى المغرب ونحن إلى المشرق فلم يمض ساعة على أذان العصر في الشارقة حتى رأينا أنفسنا نقتحم الظلام بسرعة غير مألوفة ، فسبحان من يولج الليل في النهار ، ويولج النهار في الليل. وبدأت القرى والدساكر تبدو تحتنا بأضوائها الخافتة ، والمدن الكبيرة باتساع رقعتها وتميز أنوارها ، إلا أن هذه الأنوار كانت أقل بكثير مما رأيته حين حلقنا فوق مدن سورية ومصر ، ولعل هذا عائد لقلة الإمكانات المادية في إيران فما إن خرجت من حكم الشاه حتى دخلت الحربَ مع العراق ، فأكلت هذه الحربُ الأخضر واليابس .

 حطت الطائرة على مدرج مطار لاهور قبيل العشاء ، وكانت الإجراءات الأمنية عادية ، واللطف باديا على موظفي المطار ، ورائحة المكان لا تنبىء أننا في الباكستان ، فلم نشم رائحة الكاري والبهارات ولا أريج الأفاويه!! التي تنبعث من جلود العاملين في الإمارات من الهنود والباكستان واعتدنا عليها ،ومع رائحة زيت الزيتون الذي يدّهنون به دائما،،، إني لأعلم أن الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم قال: " كلوا الزيت وادّهنوا به " ولكنه صلى الله عليه وسلم كان يفعل ذلك وهو في بيته ، فإذا خرج للناس كانت رائحة المسك والطيب تفوح منه ، وكان الصحابة رضوان الله عليهم يعرفون أن الرسول الكريم مرفي هذا المكان من عبق المسك الذي ينتشر منه فيملأ ما سار فيه .

  استقبلنا وسيم استقبالا طيبا ، ثم قادنا إلى فندق نظيف في وسط المدينة قريب من بيته ، وانتظرنا قليلا في بهو الاستقبال، فلما نزلنا كان فرّوخ هناك فاستقبلنا ببسمته اللطيفة ، وصافحني دون أن يمد يده لزوجتي فقد نبهه وسيم إلى ذلك قبل مجيئنا ، وقادانا إلى مطعم راق تناولنا في البرياني من منبعه، مع السمك المشوي والمقليّ وكان أطيب ما في السمك أنه دون حسك  .

  شعرت بالقرب منهما أكثر من ذي قبل ، فقد طالت لحية وسيم وتحسنت لغته العربية، أما فرّوخ فقد كان متألقا في مناقشته لأحوال الأمة الإسلامية والتحديات التي تواجهها. لقد كانا واعِيَيْن لما يجري حولهما ، وما يحاك لأمتنا من مكائد ومؤامرات. والجدير بالذكر أن العرب الذين هم مادة الإسلام – كما ذكر أمير المؤمنين الفاروق رضي الله عنه- ضربوا المثل الرديء في تضييع الباكستان حين انفصلت عن الهند عام ثمانية وأربعين وتسع مئة وألف . فقد طلبت الحكومة الباكستانية الأولى من جامعة الدول العربية أن تسعفها بخمسة آلف مدرس يدرِّسون الصف الأول الابتدائي العلوم الدينية والدنيوية باللغة العربية ، ثم في السنة التالية بخمسة آلاف أخرى ... وهكذا إلى نهاية المرحلة الثانوية فيتم تعريب المجتمع الباكستاني بهذه الطريقة في عقدين من الزمان ، لكن الدول العربية كانت في ذلك الوقت وإلى الآن متخلفة يحكمها حثالة من الرويبضات الزاحفة ، لا يهتدون سبيلا..... يصرفون أموال البلاد والعباد على موائد القمار ، وفي حانات العربدة ، وعلى ملذّاتهم وعهرهم دون حساب.... ولا أزال أذكر خبرا تناقلته الصحف الفرنسية – وكنت في الجزائر وقتها – عام ثمانين عن أمير عربي –قبل أن يصير ملكا لبلاده – قضى ليلة رأس الميلاد على يخته في ميناء  "مونتكارلو" مستضيفا أمير موناكو وزوجته، وملك أسبانيا وزوجته، وحاكم الفلبين وزوجته، وثلة من الفسقة والمفسدين ، ثم خسر على مائدة القمار تلك الليلة ثمانين مليون فرنك فرنسي وكانت تعادل عشرين مليون دولار ، وما أدراك ما عشرون مليونا من الدولارات إذ ذاك؟!! ولما سُئِل عن شعوره حين خسرها قال متبجحا بسخف وجهالة: إنها " مصروف جيب يومي " .... يصرف مثل هذا المال الذي ورثه عن أبيه كل يوم !!، والأمة المقهورة تنوء تحت خط الفقر والحرمان ، هذه أحوال من يسوسون الأمة ويتحكمون بمصائرأمتهم!!! ولهذا غابت الأمة الإسلامية عن مسرح الأحداث الفاعلة ، وتأخرت عن ركب الحضارة وقيادة الأمم . وصدق فينا قول الشاعر :

أنّى اتجهت إلى الإسلام في بلد
كم صرّفَتنـا يدٌ كنا iiنصرِّفهـا


 
تجده كالطير مقصوصا iiجناحاه
وبات  يحكمنـا شعب iiملكنـاه

 من الأمور المبهجة أن تحضر درسا في الفقه – في الجامعة – يلقى باللغة العربية ، وأن تجلس لتستمع وتشارك غير العرب بتلاوة القرآن لتشعر بالفخر والاعتزاز حين تجد إخوانا لك لغتهم غير لغتك يقرؤون القرآن ويتلونه تلاوة جيدة ، وهم لا يفقهون المعنى سوى أنهم مسلمون يبتغون وجه الله عز وجل، ويرجون رحمته وتراهم ينظرون إليك باحترام وحب ، فأنت عربي يود كثير منهم لو كان مثلك. فتقول : الحمد لله أن جعلني من أهل هذه اللغة المقدسة، ويلتفون حولك سائلين بلكنة أعجمية مفهومة ، وتندمج معهم ، فهم إخوانك وأحبابك .... وتدخل المسجد تصلي معهم ، ثم تستمع لدرس يلقيه الإمام أو الشيخ ، فلا تفهم سوى الآيات القرآنية تتهادى مع الكلام الغريب عنك وأحاديث الرسول الكريم ، فتشعر أنك قريب إليهم قريب ،

  وتزور في لاهور جامع الشاه فتجده ذا ساحة فخمة يتوسطها بركة كبيرة أما مصلاه فقائم على أعمدة طويلة ضخمة ناحية الغرب- فالقبلة إلى الغرب - لا أبواب له ، ونوافذه الجانبية مشرعة فلا سبيل إليه إلا من الشرق فهو قائم على تل ضخم يكاد يكون جبلا، يُصعد إليه بطريق متدرج يرتفع بك صُعُداٍ ، أما جانبه الشمالي فيشرف على حديقة كبيرة جميلة متدرجة آخذة في الانحدار، تنتهي على شارع عريض، والجانب الجنوبي انحداره قليل ، حُجِز بجدار مرتفع ، ولك أن تجلس بعد الصلاة إلى نافذة مطلة من علُ على المدينة ، فتستمتع بسحر الشرق وجماله .

أما مسجد الوزير فهو في حي شعبي، على مرتفع يشرف على ما حوله، يشبه في بنائه بشكل عام جامع الشاه، لكنه أصغر منه حجما ، وأكثر زخرفة ، فمصلاّه مرصع بالفسيفساء، ولون حجارته أحمر قرمزي.تميل النفس إليه وترتاح  .

 كنا نسمع ونحن في الإمارات بجمال حدائق " شاليمار " في لاهور فلما صرنا قاب قوس منها زرناها عصر أحد الأيام ، حملتنا سيارة أجرة إليها ، فإذا هي جنة من جنان الدنيا متسعة وعريضة لكن الحديقة العامة في حلب أكبر منها وأوسع،إلاّ أن حديقة حلب منبسطة ، وهذه قائمة على مدرجات متباعدة .... فهي إذاً منبسطة على مدرجات ، تدخلها من علُ فتنزل عدة درجات ، ليبدأ في المنتصف بركة طويلة على طرفيها ممران عريضان ، ثم أرض خضراء على كلا الطرفين ، بعدها أشجار منسقة ، وتجد مقاعد على الطريقين تقابل البركة  ذات المياه الرقراقة والنوافير المرسلة رذاذاً لطيفا يحيل الجو مقبولاً ، فإذا سرت دقائق نزلت درجات لترى ما رأيته سابقا ، ثم تنتهي إلى نهر عريض على السور الأخير للحديقة.

 وإقليم البنجاب سمي كذلك لأن فيه خمسة أنهار تمتد في ربوعه ، وكلمة " بُنج " تعني الرقم خمسة، وكلمة " آب " من المدّ والباء الثلاثية تعني المياه أو الينابيع والأنهار ، ولك أن تتصور إقليما متسعا يغذيه خمسة أنهار كبيرة! تمتد فيه كأصابع اليد المنتهية بكف فيه أرض زراعية خصبة.

قلت لزوجتي:  تعالي نزر الفندق الذي نزلت فيه المرة السابقة  وأحببته، كان مكانه قريبا من القندق الذي نزلنا فيه .فلما وصلناه رأيناه خرابا، فقد اشتراه أحد المقاولين ، وهدمه ليبني مكانه فنادق وأسواقا ... شعرت بالغصة إذ فوجئت به يباباً فقد صار جزءا من ذكرياتي ، لكننا طفنا في محيطه ، وشربنا من عصير قصب السكر ومزيج المانجو بالحليب ... زرنا ذات ليلة دار وسيم ، كانت أسرته - أبوه وأمه وأخواته ذوي أدب جم  وأخلاق رفيعة ، وتهادينا ، فكانت هديتهم لي اللباس الباكستاني التقليدي ، أهديت أبامجاهد إياه فهو حلبي المولد والصبا،  باكستاني الدراسة والجنسية ، بلبل في لغة " الأوردو " .

 فإذا اتجهت شرقا باتجاه العاصمة القديمة " راولبندي " ساعات ثلاث رأيت الأرض الخضراء على مدّ النظر ، فالبساتين والحقول يتصل بعضها ببعض ، والشمس ترسل أشعتها فيلمع كل شيء حولك بفعل قطرات المياه العالقة بأوراق الأشجار ، منظر ساحر أخّاذ.

وتصل راولبندي ، فإذا هي مدينة عريقة قديمة ، تضم  ثمانية ملايين من السكان ليلاً ومليونين آخرين نهارا، أشبه ما تكون بالقاهرة ازدحاما ، والناس منشغلون ، فكأنها خليّة نحل دؤوب ، فيها أسواق شبه مسقوفة ، ومجمعات للمهن الواحدة ، إلا أنها لا ترقى لما في القاهرة ودمشق وحلب، والحياة فيها أبسط من الحياة في المدينة الملاصقة لها " إسلام أباد " العاصمة، وتجد العاملين في إسلام أباد يسكنون في راولبندي ، فهم يعودون بعد عملهم في العاصمة إليها،  فالعلاقة بينهما كما هي بين دبي والشارقة ، فإنك ترى صباحا أنهار السيارات تعبر الشوارع متجهة إلى دبي بكثافة رهيبة ، وترى النهر نفسه ينكفىء مساء نحو الشارقة ،فأجرة الشقق في دبي أضعافها في الشارقة ... ولا أنسى أننا بعد جولة في إسلام أباد عدنا عصرا إلى الفندق  متعبين فما إن وضعنا أنفسنا على السرير حتى كنا في عالم الأحلام ، نغط في سبات عميق لم يوقظنا منه سوى حركة السرير القوية ، ففتحنا أعيننا مذعورَين ، فوجدنا كل ما حولنا يتحرك، خزانة الملابس ، الطاولة والكرسيان ، مع صفق الأبواب .... طار النوم من العيون،  وصحت العقول ، وقمنا سريعا ، فقد كان الزلزال قويا ، نزلنا إلى الشارع والناس يهنىء بعضهم بعضا ، لم تتأثر الابنية الكبيرة ولا الصغيرة المبنية بالأحجار والإسمنت ، لكن بيوت الصفيح والطوب أصابها ضرر كبير ، وقد تهدم منها عدد ليس باليسير.... قالوا إن راولبندي تقع على انكسارات فتكثر فيها الزلازل، حمدنا الله تعالى أن حفظنا من المكروه ، وعدنا إلى الفندق بعد أن تعشينا ، وطفنا في الشوارع نتعرف على معالم المدينة.

وإسلام أباد مدينة عصرية بما في العصرية من معنى، شوارعها عريضة ، بمسيرين ، واحد للذهاب وآخر للإياب ، وكل منهما بحارتين اوثلاث ، يحجز بينهما جزيرة من الأشجار المرصوفة، وعلى جانبي الطريق أرصفة نظيفة ، للمارة ومن بعدهم الأشجار المرتبة المنسقة، أسواقها ، على شكل مجموعات مسقوفة مكيفة، ، ويغلب على بيوتها نظام الفلل ، وأغلبها من طابقين ، وقليلا ما تجد الأبنية العالية ، ذكرتنا بمدينة العين في الإمارات .

صلينا في مسجدها المشهور الذي بناه السعوديون تخليدا للملك فيصل بن عبد العزيز، وسموه باسمه، يمتاز بضخامته  وكثرة زجاجه، وسقفه قبة كبيرة تعتمد على الجدران ، لا العواميد ، فليس في المسجد عمود واحد ، والمسجد على ضخامته لا يحتاج المحاضر فيه ولا الإمام إلى مكبر الصوت ، فهمسة بسيطة يسمعها الجميع،

استأجرنا سيارة طوّفت بنا معالم المدينة ، وأخذنا سائقها إلى بحيرة كبيرة – أظنها صناعية –واستأجرنا قاربا دنا بنا من غاباتها الملتفة حولها. وكان يوما منعشا .

كان الجو رطبا وحارا، فرغبنا أن نقضي أياما في المرتفع الجبلي المشهور " مري " وهو قريب من راولبندي ، لكن لتعرجاته الجبلية أخذ منا قريبا من ثلاث ساعات ... كان الباص الذي أقلنا إلى مري يشكو قِدَمه بأنين محركه الذي غطى على كل شيء حتى على أصواتنا في داخله، لكنه لم يتلكأ في مسيره وأثبت أن القديم على علاّته صامد صمود الجبال الرواسي التي أصعدنا إليها ..... وكلما ارتفع بنا خفَّت الرطوبة ، ونزلت درجة الحرارة فلما وصلنا إلى قرية " مِري " ظهراً كان الجو باردا ،  والناس يلبسون المعاطف ، في القرية شارع واحد ، يمتد خارجها إلى قرى أخرى ، وعلى جانبيه الدكاكين البسيطة تبيع كل شيء .

استأجرنا غرفة ظريفة مطلة على الشارع  ، ولم نجرؤ على الاغتسال ، فالجو- على الرغم أننا في تموز – بارد ، وزودنا صاحب الفندق ب" لحافين"  سميكين ، وكنا نود أن نرى أخانا الاستاذ هشام المارتيني هناك ، فقد سبقنا إليه ، لكننا لم نحظ به وكان قريبا منا على بعد كيلومترات قليلة ..... لم يكن مسرورا وأهله في هذه الرحلة واعتبروها أعمالا شاقة ... نزلت إلى المحلات أشتري ما نحتاجه من غداء وشراب ، فرأيت البائعين غير راغبين في التعامل معي ، لم أدر السبب إلا أنني عزوت هذا إلى قرويتهم ، وجفاء أخلاقهم وبعدهم عن الحضارة ... فلما أُذِّن للعصر وذهبت للمسجد القريب من النزل للصلاة ، ثم اتجهت لشراء بعض الحاجيات رأيتهم يسلمون عليّ بحرارة ، وأبدَوا اهتماما بي ، وكلمني الكثير منهم بالعربية ، فقد كانوا يعملون في السعودية ، واعتذروا عن جفائهم أنهم رأوني ملتحيا لا أعقد ربطة العنق ، فحسبوني من إيران التي لا يحبون أهلها!!!!

على بعد دقائق  من النزل أعلى مكان في الجبل وقفنا مندهشَيْن من ارتفاعه الشاهق الموازي لشق الجبل الآخر أمامه ،وبينهما واد سحيق عريض، لا يكاد يرى وهدته ... كان المطر يتساقط رذاذا ، وأشعة الشمس تتراءى خجلى من بين الغيوم الرقيقة المتواصلة، وقوس المطر يزيد في الجمال الإغريقي المهيب، كان منظرا رائعا يأخذ بالألباب، ما زلت أذكره وتشتاقه نفسي حتى زرت" الطويلة" في اليمن ورأيت ما يفوقه ارتفاعا وعرضا، وكل ذلك من صنع الإله العظيم فاطر السماوات والأرض.. سبحانه ، جل شأنه..... وعلى الرغم من هذا الجمال الأخّاذ إلا أننا عدنا في اليوم التالي لأننا لم نتحمل الجو البارد ، فقد تركنا الثياب الثقيلة في الفندق.

 وكانت الرحلة التالية إلى " بيشاور " عاصمة البشتون وكانت مركز المجاهدين الأفغان سابقا ، الإرهابيين لاحقا ، سبحان مغير الأحوال ، ولعنة الله على مغيري الأسماء والألقاب كما يشاءون ، ومتى أرادوا .ولئن عرفنا كفرهم من قوله تعالى : " ولن ترضى عنك اليهود ولا النصارى حتى تتبع ملّتهم " ماذا تقول عن الأذناب والعملاء من أبناء جلدتنا؟!! حسبنا الله ونعم الوكيل .

كان الطريق إليها معبدا ،والمسافة ساعات لا تتجاوز أصابع اليد الواحدة . ودخلناها قبيل العصر فكان أول ما فعلناه البحث عن فندق نأوي إليه ، كنت تشعر أن المدينة تعج بالمقاتلين من كل جنس ولون ، ونحن نسير في شوارع المدينة البسيطة البعيدة عن الحضارة إلا من النظافة والجمال الفطري ... النساء كلهن محجبات ،وغالب الرجال من أهل اللحى ..  ظاهر المدينة التقوى والعفاف . جدران البيوت حمراء اللون ، يغلب عليها الحجر ... دخلنا مركزا للهاتف لنكلم الأخت زينب في الإمارات ، نطمئنها ونطمئن عليها ، فسمعت مجاهدا عربيا شابا عاد من  " جاجي " الأفغانية مبشرا بسقوطها بيد المجاهدين ، زافا البشرى لأهله في إحدى البلاد العربية ، فعدت إلى غرفتي في الفندق مشحونا لأسطر القصيدة التالية:

لله   درّ  الفـتيـة  iiالأطهــار
نحو   الجهـاد  بقـوة  iiوعزيمة
يامن   كتبتـم  بالدِما  أسطـورة
أثبتُّمـو   أن  الحيـاة  iiعزـيزةٌ
أحييتُمو    بجهـادكـم   iiآمالنـا
*              *             ii*
أفغانُ  ما  هـذا  الجمال؟  iiكأنما
في  كل  شبر  من  ثراكِ iiمجاهد
باعوا   الإله  نفوسهـم  iiفأعزّها
صدقوه  في  ساح  الجهاد  iiفمنهمُ
وتتبّع   الباقـون  إثْرَهُمُ،  iiولـم
فغدَوا   يكيلون  الهوان  iiلمـارق
كم   روّعوا  الإلحاد  في  أوكاره
إن   هلّلوا  كان  الملائك  iiرِفْدَهم
هذي  نفوسُهُم  التي استعلت على
*              *             ii*
في  "بكتيا"  في  "قندهار"  iiبأسهم
حتى   استجار،ولا  iiمجيروحسبُه
إن  كان  رأس الكفر يبغي iiمهربا
أفلا  تثـوب  لرشدها  iiويقينهـا
أم  إن  عميان  البصائر  لا ترى
من  كـان  ذيلا  للعـدا  iiفمآلـه
*              *             ii*
يامسلمون  جهادنـا  حرز  iiلنـا
وبه  نسود  ،  فلا الكلام iiيفيدنـا
إن  الكلام  بضاعة  الحمقى iiومن
إلا  النضال  فإنه  سيف iiالهـدى
ويعيـد  للأوطان  أمجـاد  iiالعلا
يا  مسلمون  ضعـوا  أياديَكم مع
وارموا  بصولته  جموع  iiعدوكم
سـدِّد  إلهي  خطوَ أبطال iiالحمى
وأَعِـزَّ  جمع  المسلمين iiبوحـدة
































 
يتسابقـون    بهمّـة   الأبـرار
وبطولة   أرْبَت  على  iiالإعصار
كانـت  بحـقٍّ  قِـبلةَ  iiالثـوّار
بين  الرجال  على  خطوط iiالنار
إن   الجهـاد  سفينة  iiالأوطـار
*              *             ii*
عطر   الشهادة   فـاح  iiبالأنوار
وهب   النفيسَ  لشرعة  iiالمختار
بالنصر   والتمكيـن   iiوالإعمار
مَن  للجنان  مضَوا  بكل iiفخـار
يرضَـوا  بغير  لقائهم  للبـاري
بيد   موضّـأة  ،  وزند  ضـار
كم  حطموا  من  راية  iiوشعـار
أو   كبّروا  فالويـل  iiللأشـرار
متع   الحيـاة   وزيفها  الغـدّار
*              *             ii*
فـلّ  العـدوَّ  بجحفـل  iiهـدّار
أن  ينجلي  عن أرضهم iiبالعـار
أفلا  تثـوب  ضفادع iiالأنهـار؟
وتسير  ضمن  قوافـل  iiالأحرار
ما  قـد  جرى  لصنائع iiالكفار؟!
للقتل  ،أو  للسـجن،  والإنكـار
*              *             ii*
من  صولـة  الفسّـاق  iiوالفجّار
إن عاث أصحاب الخنى في الدار
يرضى  الحياة  على شفير هـار
يجتث  كـل  منـافـق iiخـوّار
بجهـاد  حق  سامـق  iiالمقـدار
الله  القـوي  فليس  من iiإعـذار
تجـدوا  الفـلاح بنصرة iiالجبار
وارفق  بهم  يا عالـم iiالأسـرار
فيهـا  جِماع  الفضل iiوالإكبـار

ولو بقيت أياما أخرى لكتبت شعرا أكثر ، فقد شحنني هذا المجاهد،  وقد كنت أود لو كنت أكثر إيجابية فتمسكت به ، ورجوته أن يأخذني معه.. ولكنني لم أصل إلى رتبة مجاهد ، فما كل من قرا درى ، ولا كل من قال فعل .

أخذنا الطائرة إلى كراتشي في اليوم التالي ، وهي مدينة ساحلية ضخمة، تعتبر العاصمة التجارية للدولة، ومركز الطيران المدني فيها ، تمتدّ المصانع على شواطئها والمراكز التجارية ، يقطنها أكثر من عشرة ملايين نسمة، وفيها عدد كبير من الشيعة ، وهي مركز السند كذلك ، يتجمع فيها المهاجرون من الهند ، بعض أحيائها من الصفيح ، ويتكدس فيه الفقراء والمعدمون، وهم كثرة كاثرة ، وبعض أحيائها فخم  يسكنه الأغنياء والمتنفذون ... وسطها مكتظ ، فرغبنا أن نختار فندقا قريبا من البحر ، وأسواقها أكبر وأقضل وأوسع منها في راولبندي ... تمتاز بتجمعها ، وخاصة الأسواق التي يقصدها السياح والغرباء ، اشترينا منها الخشب المطَعَّم والهدايا ، بعض أدوات الزينة البيتية ، قضينا اليوم الأول في متحف الأسماك ، وكان خارج المدينة قرب متنزهات بحرية حلوة، رأينا فيه بديع صنع الله تعالى ما تصورناه وما لم نتصوره ، تعرفنا فيه على جامعيّ مختص بتذوق الطعام سافر إلى الإمارات في اليوم الذي سافرنا فيه ليعمل في بعض مخابز جمعة الماجد مؤسس كلية الدراسات الإسلامية والعربية، وزرنا في اليوم التالي مدينة ضخمة للألعاب الإلكترونية والترفيه. وعلى الرغم من رقي الفندق الذي نزلناه فقد طلبت تغيير الوسادة مرتين لرائحة الزيت المتعشق فيها .

 لم نشعر بالراحة التي كنا نرجوها في الباكستان ، مما حدا بي إلى العزوف عن استكمال دراسة الدكتوراه فيها، وقطع الرحلة قبل تمامها والعودة إلى الشارقة . ما أحلى الرجوع إليها.