الأستاذ الداعية نعمان محمد معاذ فارس

عمر العبسو

clip_image002_68d50.jpg

(1951- 2020م)

هو الأستاذ الحافظ للقرآن، والداعية، والسجين الصابر الممتحن نعمان بن محمد معاذ فارس، من مواليد مدينة الباب العامرة  في ريف حلب الشرقي عام ١٩٥١م.

نشأ في كنف عائلة مسلمة سنية ملتزمة، متوسطة الحال، ولكنها محافظة كشأن عوائل المدينة والريف السوري الجميل، حيث يحافظ الناس على العادات والتقاليد والأعراف الاجتماعية المستمدة من تعاليم الإسلام الحنيف.

وترعرع نعمان فارس في هذه الأسرة التي تتكون من / ٩/ أفراد : ( ٥ ) إخوة من الذكور، و/ ٤/ أخوات، فضلاً عن الوالدين، اللذين كانا أميين فقيرين، ولكنهما يحبان الدين، ويحترمان العلم والعلماء.

وكان (نعمان) – رحمه الله تعالى- ترتيبه الخامس في العائلة، والثالث بين الذكور.

وتأثر فكرياً منذ الصغر وأيام الدراسة الإعدادية والثانوية بالجو المحيط والجوار، والأصدقاء، والمشايخ والمربين الذين برزوا حينذاك نذكر منهم: الشيخ حسن عبد الحميد أبو حمدي أطال الله في عمره. والأستاذ جمعة الشيخ ويس أبو ماهر، والطبيب عبد الباسط عباس أبو أنس، والأخ محمد الأسود أبو أسعد، والحاج عبدو البوشي -رحمهم الله جميعاً-، وساعدته هذه الصحبة على الالتزام الإسلامي حتى صار شاباً مميزاً يشار إليه بالبنان.

دراسته، ومراحل تعليمه:

دخل نعمان محمد معاذ فارس المدرسة الابتدائية عام 1957م، فحصل على شهادة المرحلة الابتدائية في مدرسة طارق بن زياد في مدينة الباب عام 1962م.

ثم حصل على الشهادة الإعدادية، وهو ابن خمسة عشر عاماً عام 1965م، والتحق بثانوية البحتري في الباب، ولكنه تعثر في إتمام دراسته الثانوية، وتأخر عن أقرانه بسبب اهتمامه بالعمل الدعوي الحركي على حساب تفرغه لدراسته ووقته، وانشغل بتحسين أوضاعه المعيشية، وشؤونه الخاصة.

ثم أتيحت له الفرصة بعد أعوام، فأكمل دراسته الثانوية، وحصل على الشهادة الثانوية، وتابع دراسته وتحصيله العلمي في معهد الهندسة الكهربائية في جامعة حلب.

جهوده الدعوية:

انخرط الأستاذ الراحل في صفوف الحركة الإسلامية الراشدة منذ شبابه المبكر، ومنذ بداية نشاطه في المرحلة الثانوية كانت عيون الرفاق والمخبرين تلاحقه، وتعدّ عليه خطواته وأنفاسه.

ثم ازداد التضييق عليه في الجامعة إلى أن وصل ذروته أثناء خدمته العسكرية التي أمضاها في لبنان في أشد مراحل الحرب الأهلية الطائفية في لبنان.

وفي تلك الفترة بدأ استدعاء الأمن للمرحوم نعمان يزداد بشكل دوري بمناسبة وبغير مناسبة.

وصار التحقيق يتطور عن النشاط السابق والحالي، ولعل أهم نقطتين أو شبهتين في التحقيق هما:

1- حضوره سابقاً معسكراً صيفياً للجماعة في الساحل السوري.

2- تردده على مكتبة الشيخ زهير الشاويش في لبنان أثناء خدمته العسكرية.

خدمة العلم:

clip_image004_a57b1.jpg

وروى لأسرته أنه أثناء خدمته العسكرية في منطقة (الحدث) في بيروت عاصمة لبنان، وكانت من أخطر مناطق الحرب في لبنان تمَّ تكليفه بالحراسة رغم أنه معفيّ منها كونه يحمل رتبة صف ضابط (رقيب أول)، ولكن يبدو أن الأمر مدبر للتخلص منه إذ تمّ تكليفه بالحراسة على سطح إحدى العمارات مكشوفاً لقناصي قوات حزب الكتائب اللبنانية. ولكنَّ الله حماه، وستره حينها، فأنهى الخدمة العسكرية بسلام.

وفي عام ١٩٨٠م، حيث كانت بدايات أحداث الثمانينيات، وعندما أقيم احتفال بذكرى المولد النبوي الشريف في أحد مساجد الباب القابع على هضبة الشيخ عقيل في المنطقة الغربية من المدينة، وفي ذلك الحفل تمّ عرض مسرحية من قبل شباب (جامع العشرة) الذين قضوا جميعاً شهداء لاحقاً إلا واحداً منهم.

وكان عنوان المسرحية مستوحاة من كتاب ( عالم وطاغية . مسرحية تاريخية) من تأليف الشيخ د. يوسف القرضاوي – حفظه الله- تحكي قصة الصراع بين الحق والباطل، وبين: الحجاج، والشهيد سعيد بن جبير.

لقد جنَّ جنون الرفاق المناضلين والمخبرين، واندهشوا لهذه الجرأة في هذه الظروف الأمنية الحسّاسة في سورية كلها، واعتبروا ما حدث قد تجاوز الخطوط الحمراء.

فكثرت التقارير والتحليلات  والافتراءات المعهودة، فكتب أحدهم تقريراً يتهمه بالمشاركة في العمل المسرحي المذكور رغم أنه كان يومها في لبنان في الخدمة العسكرية.

واستدعي الأخ نعمان فارس إثر ذلك إلى إحدى فروع الأمن من أجل هذه التهمة التي لا تغتفر، ولكنه واجه المخبرين بقلب ثابت شجاع، واستطاع أن يثبت كذب الرفاق والمخبرين، وأثبت لهم أنه كان يعمل خارج القطر.

وبالمناسبة ومن افتراء الرفاق أنهم أوهموا فروع الأمن أن الاحتفال المذكور قد تمّ في (الجبل) وفي منطقة نائية على شاكلة (جماعة التكفير والهجرة).

وعقب انتهاء الخدمة العسكرية. توظف في مشروع سدّ الفرات في مدينة الطبقة.

محنة السجن والاعتقال:

وبقي نعمان فارس يعمل في مشروع سدّ الفرات إلى حين اعتقاله في بداية علم ١٩٨١م حيث تمَّ استدعاءه عن طريق أحد المخبرين .

وقد قدّر الراحل أنه استدعاء كما هي الاستدعاءات السابقة، وقد استشار بعض إخوانه، وفي الأخير قرّر الذهاب إلى مقابلة فرع الأمن في حلب، وقد تعهد أحد أعضاء مجلس الشعب من الجيران أن يذهب معه إلى الأمن، ولكن جرت الرياح بما لا تشتهي السفن، فلا وساطة النائب، ولا وجاهته المصطنعة قد أفادت، فكان هذا الاستدعاء هو الأخير .

وغُيب الأخ نعمان فارس في أقبية السجون الأسدية، وتنقل من سجن إلى آخر  إلى أن استقرت به الحال في (سجن تدمر)، وكان لم يمض على زواجه سوى أربعة أشهر.

ولقي نعمان من التعذيب ما تقشعر له الأبدان، ولكنه لم يعترف بشيء يضرّ به الناس، وبقي صامداً ثابتاً، وفي أواخر ١٩٩٥م خرج صاحب الجسد الضخم والبنية القوية من سجن تدمر هيكلاً  عظمياً، قد كثرت فيه العلل، فكان يحمل العديد من الأمراض كما هو حال جميع السجناء، لقد أفنى المجرمون شبابه، وأتلفوا جسده الطاهر.

ويا لهول المفاجأة الحزينة، فقد خرج الأستاذ نعمان فارس من السجن بعد / 15/ سنة من الاعتقال الجائر؛ ليصدم بفقده لخمسة من عائلته: الوالدان، وثلاثة من الإخوة والأخوات. رحمهم الله جميعاً. فضلاً عن غياب الزوجة التي تمّ تطليقها تحت وطأة الضغوط الأمنية، وذهبت، فتزوجت من غيره .

وبعد مدة وجيزة استطاع استرجاع بعضاً من عافيته، وبرعاية وعناية من الأطباء الكرام من أبناء عائلته من أبناء الأشقاء والشقيقات.

ثم راح يندمج في الحياة والمجتمع، ووجد تعاطفاً مميزاً من المحيط من الأقرباء والجيران رغم المخاوف الأمنية.

زار الأستاذ نعمان إلى الأردن ورغم إلزامه بالأردن بالتردد على أفرع الأمن للإخبار عن من يتصل به .. هل كلمك أخوك ؟ وماذا قال لك ؟ وهل عرض عليك أحدٌ المساعدة ؟ وهل وصلتك مساعدات من الخارج ؟.

وما هي إلا بضع سنوات حتى بدأ يعمل، ويلاقي نجاحاً في عمله الجديد الذي لم يكن يعرفه سابقاً ألا وهو تركيب وتجارة الأعلاف للدواجن .

أحواله الاجتماعية والأسرية:

ثم استطاع الأخ نعمان أن يوفر مبلغاً من المال، فتزوج من امرأة ثانية من جديد، ورزق منها بستة أولاد: شابان، وأربع بنات.

وكان الأستاذ نعمان نعم المربي لهم، يرشدهم، ويعلمهم القرآن والفقه، ويغرس فيهم الأخلاق الإسلامية حتى كبروا، وأصبحوا شباباً.

ولكن بقيت المضايقات الأمنية والابتزاز الشريف مستمراً فهو ممنوع من السفر، يتردد إليه الأمن بين فترة وأخرى، وبقي هذا الحال لحين قيام الثورة السورية عام 2011م.

وبعد اندلاع الثورة السورية المباركة ضدّ الطاغية الذي ورث الإجرام عن أبيه حافظ الأسد عادت الروح الجهادية إليه، وإلى رفاقه السجناء. وحاولوا إحياء العمل الدعوي والجهادي، ولكن سيطرة تنظيم الدولة الإسلامية (داعش) على المنطقة جعلهم يغادرون البلد إلى تركيا.

الهجرة إلى تركيا:

لقد خرج الأخ نعمان فارس بعائلته إلى مدينة (نيزب) التابعة لولاية غازي عنتاب في تركيا، واستقرَّ هناك.

ولكنه في نزب بدأت الأمراض والعلل  الكامنة التي خرج بها من سجن تدمر تظهر عليه بين فترة وأخرى إلى أن أقعدته الفراش بشلل كامل.

وزاد الطين بلّة مضاعفات مرض السكري، والضغط، والكليتين إلى أن بدأ يفقد الذاكرة، ويدخل -مؤخراً- في فترات غيبوبة عديدة كان آخرها الغيبوبة التي لم يستفق منها إلى حين وفاته.

وفاته:

انتقل الأستاذ الداعية الأخ (نعمان محمد معاذ فارس) إلى رحمة الله وعفوه، فتوفي على إثر غيبوبة طويلة في نيزيب قرب مدينة عينتاب في 14 نيسان عام 2020م. رحمه الله رحمة واسعة، وأدخله فسيح جناته مع النبيين، والصديقين، والشهداء، والصالحين، وحسن أولئك رفيقاً.

أصداء الرحيل:

ولم يلق الأخ الراحل حقه من الرثاء، والنعي؛ لأنه كان بعيداً عن دنيا الناس، وكان طريح الفراش لمدة طويلة، فغاب عن القلوب والأذهان، ولكنّ الشيخ حسن عبد الحميد – المعروف بوفائه لدعوته وإخوانه- قام بهذا الفرض الكفائي، فنعاه في صفحته تحت عنوان (نعمان معاذ الفارس: داعية كبير فقدناه )، فقال:

كذا فليجلّ الخطب، وليفدح الأمرُ     فليس لعين لم يفض ماؤها عذرُ 

فقد:

فُجعتْ لفرط فراقكَ الإخوانُ      وتأججتْ بقلوبهم نيران

خلّ وفيّ ساكن متواضع             بمكارم وفضائل مزدان

خُلقا وخَلقا كنت فينا آية    كالشمس ليس يعوزها برهان

في كل قلب من فراقك لوعة       وبكل عين مدمع هتان

ماشيعوك وإنما قد شيعوا         فيك النزاهة أيها الإنسان

نعمان مجهول في الأرض مذكور في السماء.

الله جل جلاله يقول في كتابه الكريم: ( وبشر الصابرين ) .

ونعمان كان عنواناً للصبر، فقد صبر على المرض والابتلاء، كما صبر على التعذيب في سجون الطغاة (سجن تدمر السيء الذكر)  طوال أكثر من خمسة عشر عاماً.

كم ذا أغالبه فيغلبني        دمع إذا كففته هتنا

نعمان جندي من جنود الدعوة في مدينة الباب مات غريباً في مدينة نيزب بعيداً عن وطنه وأهله، ويا هنيئاً لمن مات غريباً، ( وطوبى للغرباء: الذين يصلحون ما أفسد الناس ).

أطلب وبقوة من فضيلة المراقب العام للجماعة المسلمة أن يعزي إخوانه في فقد ركن من أركان الدعوة في محافظة حلب وريفها.

نعمان يا من هاجرت من بلدك إلى أرض كانت رايتها تخفق، وشعار قادتها الله أكبر، ولله الحمد.

هذا التكبير الذي أسمعه الآن من المآذن هو الذي هتف به القائد العظيم قتيبة بن مسلم الباهلي على تراب الصين.

نعمان كان هتّاف المظاهرات الإسلامية في مدينة الباب، وكنت تهتف -رحمك الله-:

الله غايتنا، والرسول زعيمنا، والقرآن دستورنا، والجهاد سبيلنا.

نعمان تبكي عليك شقائق النعمان

أبكيك، ثم أقول معتذراً له، وُفّقتَ حين تركتَ ألامَ دار .

نعمان أنت مثال الصبر على البلاء أبليت فصبرت، وصبرت فصابرت، فرابطت.

نعمان مكانك في الصف فارغ:

صف الصلاة به مكانك فارغ    تبدو عليه ضراعة وحنان

عليك سلام الله وقفا فإنني    رأيت الكريم الحرّ ليس له عمر  .

نعمان لا أزكيك على الله، فالله حسيبك، ويكفيه فخراً أن أقول: إنه من جنود النبي العظيم محمد -صلوات الله وسلامه عليه-.

نعمان سيبكيك كل حرّ أبيّ وكل سوري مهاجر، نعمان يا زهرة فواحة، أرض مدينة الباب تنعيك، وجبل الشيخ عقيل يرثيك، فقد صعدت إليه صائماً لتفطر في مسجد الجبل، وكنت مثالاً للقدوة حين مشيت ليلاً إلى قرية عولان، وعلى ضوء القمر كنت تهتف الله أكبر، ولله الحمد.

نعمان اعتقلتَ مع آلاف الشباب، ولا ذنب لكم إلا أن تقولوا: ربنا الله.

يا نعمان سلم على من سبقنا إلى الدار الآخرة زاهر شرقاط، وصادق عثمان، وجنيد شرقاط، وحسين رشيد العثمان، وفاروق الحمد، ومصطفى عبود، وعبد الكريم حمدو الصالح، وحسان كمال، والشيخ الشهيد محمد خير زيتوني، وغيرهم الكثير رحمهم المولى.

( من المؤمنين رجال صدقوا ما عاهدوا الله عليه، فمنهم من قضى نحبه، ومنهم من ينتظر، وما بدلوا تبديلاً ).

قال المصطفى - صلى الله عليه وسلم -: ( إن أغبط أوليائي عندي لمؤمن خفيف الحاد، ذو حظ من صلاة، أحسن عبادة ربه، وأطاعه في السر، وكان غامضاً في الناس، لا يشار إليه بالأصابع، وكان رزقه كفافاً، فصبر على ذلك، ثم نقر بيده، فقال: عجلت منيته، قلت بواكيه، قل تراثه)، وما أحسب الشيخ الراحل الحافظ للقرآن إلا منهم، نحسبه كذلك ولا نزكي على الله أحداً.

أبناء الدعوة الإسلامية، وأبناء مدينة الباب وحلب، إخوته وأحبابه، وزوجته وأولاده

أعظم الله أجركم، اللهم ارحمه، اللهم أبدله داراً خيراً من داره، وأهلا خيراً من أهله

وارزق اللهم أهله الصبر والإيمان والسلوان.

وأخيراً استقر جثمان الفقيد في أرض البطولات العثمانية كما استقر جثمان الغرباء عن أوطانهم كصديق الفقيد محمد أسود، وجثمانه الطاهر في عمان، كما دفن جثمان الشيخ العلامة سعيد حوى في الأردن، ودفن الشيخ المجاهد عبد الله علوان، والشيخ المربي محمد الشيخ ويس وعبد القادر حسن الشهابي..في السعودية.. وغيرهم رحمهم المولى، وأسكنهم فسيح جناته.

استقر جثمان الفقيد على أرض تركيا تلك الأرض التي ضمّت قبر السلطان عبد الحميد، والسلطان سليم، وبطل معركة بلافنا على نهر الدانوب عثمان نوري باشا، هذه الأرض المباركة التي ضمت جثمان نجم الدين أربكان رحمه الله تعالى.

أرض ضمت أكثر من ٦٠٠٠ شهيد من حلب، وإدلب، والباب في (جناق قلعة) ماتوا دفاعاً عن قلعة الإسلام - رحمهم المولى جميعاً، ورحم أموات المسلمين...اللهم آمين.

مصادر الترجمة:

1-             صفحة الشيخ حسن عبد الحميد على الفيسبوك.

2-             معلومات من ولده الأخ الفاضل عامر نعمان فارس، بتاريخ 27 نيسان 2020م.

وسوم: العدد 874