المعلم الداعية الشيخ عبد الله النوري

المستشار عبد الله العقيل

(1323 - 1401ه / 1905 - 1981م)

 

مولده ونشأته

وُلِدَ شيخنا الجليل عبد الله بن محمد بن نوري بمدينة الزبير عام 1323ه/ 1905م، وكان والده من سكان مدينة الموصل في شمال العراق، ومن رجال الدين فيها، نزح إلى الزبير وتزوج فيها وأقام، ثم هاجر مع أهله وابنه عبد الله إلى الكويت عام 1921م، وكان الشيخ عبد الله قد تلقى العلم على يد والده بالزبير، ثم درس بالمدارس التركية والأهلية، ثم في دار المعلمين ببغداد.

شيوخه

أما دراسته في الكويت، فكانت على يدي الشيخين الجليلين عبد الله خلف الدحيان، وجمعة بن جودر، وكان من زملائه الشيخ عبد العزيز حمادة، الذي درس معه الفرائض، والشيخ عبد الوهاب الفارس، الذي درس معه الفقه.

وكان بارًا بوالديه محبًا للفقراء والمساكين، يكره الظلم والظالمين، ويقف مع الحق، وينصر المظلوم، ويعين صاحب الحاجة، ويقدِّم العون المستطاع للمستحقين من ذوي الحاجات.

وظائفه

وقد تولى وظائف عدة، ومارس أعمالًا شتى في مختلف الميادين، ففي حقل التدريس عمل معلمًا في المدرسة المباركية، وكان مديرها في الوقت ذاته السيد عمر عاصم الأزميري، واستمر بها ست سنوات تقريبًا، وكان من تلاميذه فيها الشاعر فهد العسكر، والأستاذ عبد العزيز حسين، وكان يُدرِّس فيها علوم اللغة العربية والفقه الحنبلي، ثم انتقل إلى التدريس في المدرسة الأحمدية لمدة ست سنوات أخرى.

وفي المحاكم عُيِّن كاتبًا في المحكمة عام 1926م، ثم تدرج في وظائفها، إلى أن أصبح سكرتيرًا عامًا، وقد أسندت إليه عدة مهمات وهو في المحكمة، منها التدريس في المعهد الديني أول إنشائه لمدة ثلاث سنوات، والتدريس في المدرسة الليلية لثلاث سنوات أيضًا، وعُيِّن مفتشًا للأوقاف ومُرشدًا لأئمة المساجد لمدة عام، ومديرًا للإذاعة الكويتية الناشئة لمدة أربعة أشهر.

وفي عام 1955م، استقال من المحاكم فاشتغل بالأعمال الحرة وافتتح مكتبًا للمحاماة، كما كان يخطب الجمعة بالمسجد، ويلقي الأحاديث في الإذاعة والتليفزيون، ويشارك في المؤتمرات الإسلامية داخل الكويت وخارجها.

وفي فترة عمله كسكرتير للمحاكم كان له دور بارز في حل المشكلات بين أطراف الخصوم والإصلاح بينهم دون عرضها على المحاكم، حيث يرتضي الجميع حكم المصالحة الذي يقترحه ويتنازلون عن الدعوى أمام المحاكم، والشيخ المحامي من مؤسسي «جمعية المحامين الكويتية»، وله نشاط كبير من خلالها، وقد شارك في المؤتمرات التي يعقدها المحامون العرب، ومنها مؤتمر اتحاد المحامين العرب، الذي انعقد بالقاهرة عام 1964م، وغيره من المؤتمرات الأخرى.

رحلاته

وقد سافر إلى أقطار كثيرة كالهند، وباكستان، وإندونيسيا، وماليزيا، وأستراليا، ومصر، ولبنان، وسورية، وفلسطين، والأردن، والعراق، وبلدان الخليج العربي والمغرب العربي والولايات المتحدة الأمريكية، وأوروبا، وقد حضر المؤتمر الإسلامي الذي عُقِد في القدس عام 1961م وكانت له مشاركة فاعلة ومؤثرة.

كما أنه حجّ واعتمر أكثر من مرة، وكانت حجَّته الأولى على ظهور الإبل عام 1350ه/ 1932م، ثم كانت الحجة الثانية بالسيارة عام 1372ه / 1952م، أما الحجَّة الثالثة فكانت بالسيارة أيضًا عام 1376ه/ 1956م، ثم تكرر ذهابه إلى الحج والعمرة عدة مرات بالطائرة، كما كان لرحلته إلى مصر عام 1954م مع الشيخ عبد الله جابر الصباح والحاج عبد العزيز العلي المطوع، حيث قابلوا الرئيس اللواء محمد نجيب وبرفقتهم الزعيم الجزائري الفضيل الورتلاني الأثر الطيب.

مؤلفاته

لقد ترك تراثًا ضخمًا من المؤلفات في مختلف الموضوعات من الخطب والمواعظ والفتاوى والسير والتراجم والرحلات والأسفار والأشعار والتاريخ الشعبي، والمسامرات، والإصلاح الاجتماعي، والدعوة الإسلامية، ومن أهم هذه الكتب:

- من غريب ما سألوني

- سألوني في العبادات والعقيدة

- سألوني عن المرأة

- سألوني في التفسير

- أحاديث

- المحمديات

- المعجزة الخالدة

- قضية التعليم في الكويت

- المرأة المسلمة

- العروة الوثقى

- البهائية سراب

- قطف الأزاهر

- خالدون في تاريخ الكويت

- شهر في الحجاز

- يوميات زائر في الشرق الأقصى

- ديوان شعر... إلخ.

معرفتي به

وقد تعرَّفتُ على الشيخ عبد الله النوري أول قدومي إلى الكويت بداية 1959م، حيث عملتُ في المحاكم رئيسًا لقسم التنفيذ، وكانت لقاءاتي به كثيرة، فقد كان محاميًا يُكثر التردد على المحاكم، كما كان التزاور بيننا مستمرًا، ويهديني مؤلفاته حين صدورها أولًا بأول، وكنتُ أحرص على خطبه في مسجد القادسية التي تتسم بالعرض الجيّد والأسلوب الحكيم، والدليل الناصع المقنع، والاختصار غير المخل.

صفاته ومواقفه

والشيخ النوري يكثر من الثناء على شيخه عبد الله الخلف الدحيّان، ويعتبره النموذج للعلماء الصالحين، والأتقياء والزهاد، والفقهاء العاملين، والمصلحين الاجتماعيين، وإليه يرجع الفضل في تعمق الشيخ النوري بدراسة الفقه الحنبلي.

وكان الشيخ عبد الله النوري يتصف بصفات تُحبِّبه إلى الناس وتقربه من قلوبهم، فهو هادئ الطبع، واسع الصدر، طويل البال، قليل الغضب، بشوش الوجه، دمث الخلق، حسن الحديث، يحب الدعابة والمرح، وبخاصة مع الخُلَّص من أصحابه في مجالسه الخاصة، حيث يُضفي على الجلسة روح المرح والسرور والفرح والحبور، دون الخروج على المألوف، كما كان منظمًا غاية التنظيم في كل أموره، سواء المواعيد أو الزيارات، أو الأوراق الخاصة، والمراسلات الرسمية، والحسابات وأمور الأولاد، وتنظيم القضايا والمرافعات، وكان يُسجِّل كل شيء وإن كان صغيرًا، وهو جاد في أداء المهمات التي تُوكل إليه على أحسن وجه.

كما كان غيورًا على حرمات الدين، حريصًا على الالتزام بشريعة الإسلام، وقد كان له دور بارز مع الشيخين عبد الرحمن الدوسري، وعبد الرزاق الصالح المطوع، في التصدي لمشروع القوانين الوضعية التي تريد إبعاد الشريعة الإسلامية عن واقع الحياة، فقد شارك في صياغة المذكرات، ومقابلة كبار المسؤولين بما فيهم أمير البلاد الذي اختار الشيخ يوسف بن عيسى القناعي ليكون المميِّز الشرعي لجميع ما يصدر من أحكام من القضاة، لئلا تتعارض مع الشريعة الإسلامية.

عقيدته ومنهجه

كانت صلته جيدة بالإخوان المسلمين بمصر، من خلال صديقه الأستاذ وهبة حسن وهبة، الذي يثق به ويطمئن إليه، لأنه من تربية الإمام الشهيد حسن البنا، الذي كان له الفضل الكبير - بعد الله - في محاربة النزعة الفرعونية، ومقاومة التحلل، والتصدي للإلحاد، ونشر الفكرة الإسلامية الأصيلة، المستقاة من الكتاب والسُّنَّة وما أجمع عليه سلف الأمة، ونبذ الخرافات والبدع، والوقوف أمام موجة التغريب، التي تريد السير في ركاب الغرب في كل شيء، وهذا منهج العبيد الذين يجرون وراء كل ناعق، ويهجرون تاريخهم وأمجادهم وتراثهم.

إن الشيخ عبد الله النوري كان صاحب عقيدة صافية، ومنهج سليم، يقتفي فيه أثر السلف الصالح، ويُيسِّر على الناس، ولا يُعسِّر عليهم، ويُنزل الأحكام على واقع الحال، ويُقدِّر ظروف العصر، والبيئة الحاضرة، ويلتزم الأصول، ويتمسك بها، ولا يقف عند الخلافيات في الفروع، لأن مجال الاجتهاد فيها واسع، ولكل مجتهدٍ أجره، ولا مانع من التحقيق العلمي النزيه في مسائل الخلاف في ظل الحب في الله.

يقول العلاّمة القرضاوي في كتابه القيم (الحلال والحرام في الإسلام):

«... إن التشريع الإسلامي وهو تشريع قائم على أساس تحقيق الخير للبشر، ودفع الحرج والعنت عنهم، وإرادة اليسر بهم، يقوم على درء المفسدة وجلب المصلحة، مصلحة الإنسان كله، جسمه وروحه وعقله، ومصلحة الجماعة كلها، أغنياء وفقراء، حكامًا ومحكومين، ورجالًا ونساء، ومصلحة النوع الإنساني كله، بمختلف أجناسه وألوانه، وفي شتى أقطاره وبلدانه، وفي كل عصوره وأجياله، وغير لائق بعالم مسلم، يملك وسائل الموازنة والترجيح، أن يكون أسير مذهب واحد، أو خاضعًا لرأي فقيه معيَّن، بل الواجب أن يكون أسير الحجَّة والدليل، فما صحَّ دليله وقويتْ حجته فهو أولى بالاتباع، وما ضعف سنده ووهتْ حجَّته فهو مرفوض مهما يكن من قال به.

ذلك أن الحق لا يشتمل على مذهب واحد، وأئمة المذاهب المتبوعة لم يدَّعوا لأنفسهم العصمة وإنما هم مجتهدون في تعرُّف الحق، فإن أخطؤوا فلهم أجر، وإن أصابوا فلهم أجران» انتهى.

فهمه للإسلام

لقد فهم الشيخ عبد الله النوري الإسلام على أنه نظام شامل يتناول مظاهر الحياة جميعًا، فهو دولة ووطن، وحكومة وأمة، وخلق وقوة، ورحمة وعدالة، وثقافة وقانون، وعلم وقضاء، ومادة وثروة، وكسب وغنى، وجهاد ودعوة، وجيش وفكرة، وعقيدة صادقة، وعبادة صحيحة، وأن القرآن الكريم والسُّنَّة المطهرة مرجع كل مسلم في تعرُّف أحكام الإسلام، ويفهم القرآن طبقًا لقواعد اللغة العربية من غير تكلف ولا تعسف، ويرجع في فهم السنَّة المطهرة إلى رجال الحديث الثقات.

وهذا هو فقه السلف الصالح من القرون الخيِّرة، والذي يجب أن يسير عليه المسلمون في عصرهم الحاضر.

لقد كان الشيخ عبد الله النوري علمًا من أعلام الهدى في الكويت، صال وجال في ميادين شتى، وبذل قصارى طاقته في خدمة الإسلام والمسلمين داخل الكويت وخارجها، وكان علامة مضيئة في سماء الكويت، عرف الناس من خلاله، أصالة هذا الشعب، وحبَّه لعمل الخير، ونصرة الإسلام والمسلمين.

نماذج من شعره

وهو شاعر مطبوع، يقول الشعر دونما تكلُّف بل يجري الشعر على لسانه، بمجرد انفعاله بأي حدث، فقد نظم في رثاء شيخه عبد الله الخلف الدحيّان قصيدتين جاء في مطلع الأولى:

دعني أسطِّر في المراثي القوافيا      وما المرء إلا ذكره بعد فقده

على من فقدنا اليوم فيه المعاليا      وذكركَ فينا شاءه الله باقيا

 

وقال في رثاء شيخه العلاّمة محمد الأمين الشنقيطي - مؤسس مدرسة النجاة الأهلية في الزبير - قصيدتين عام 1351ه جاء في مطلع الأولى:

أي قلبٍ عليك لم يتصدّع     أي نفسٍ عليك لم تتوجّع

وفي مطلع الثانية قال:

بلاءٌ لا تقاسُ به بليّة       ورزء لا تقاس به رزيّة

 

وفي رثائه الشيخ عبد الملك صالح المبيض قال:

عش كيف عشتَ فتاريخُ الورى عبر      وكُلُّنا خبر إن ينقضي العُمر

وقال يَرثي المحسن الكبير الحاج علي عبد الوهاب المطوع عام 1365ه:

كل يومٍ لنا حبيبٌ يُشَيَّعُ       وقلوبٌ في كل يوم تَصدَّعُ

يقول الشيخ النوري عن شيخه عبد الله الخلف الدحيّان:

«هو أفضل رجل رأيته في حياتي علمًا وفضلًا، فهو العالم الشامخ، والورع التقي، الذي وهب حياته للعلم، فغاص في بحاره حتى بلغ منها الأعماق، ووهب من علمه الكثير لكل سائل أو طالب أو مستمع، كان كريمًا، وكان كرمه الإيثار، كان حليمًا وكان حلمه العفو عند المقدرة، وكان قنوعًا وقد ذلّت له الدنيا، حتى وصلت عند قدميه فأباها...» انتهى.

ولما توفي والده ثم لحقت به والدته بعد فترة قصيرة، حزن على فراقهما حزنًا شديدًا، وقال فيهما شعرًا يفيض حنينًا وحرقة وعرفانًا بفضلهما عليه:

أطارَ الحزنُ عن عيني كَراها

أصبتُ بوالدي نوري كريمًا

ولكن عاجلتني بعد صبري

فبتُّ مرددًا آهًا فآها

عفيف الذيل مذ لبَّى الإلها

بأمي إذ أتاها ما أتاها

سعيه في الخير

لقد كان شيخنا عبد الله النوري، ذا همَّة ونشاط في الأعمال الخيرية، وكان يحمل الأموال في أسفاره إلى خارج الكويت ليقدِّمها للجهات المحتاجة، كالمدارس الإسلامية، والمعاهد الدينية، والجمعيات والمؤسسات الإسلامية، حيث إن المحسنين والمحسنات من أهل الكويت يتسابقون لإعطائه التبرعات لإرسالها إلى مستحقيها من المسلمين، وكانت عنده أمانة من التبرعات التي يجمعها ويتولى توزيعها في الداخل والخارج مقدارها حوالي مئتي ألف دولار، وعندما زاره الأخ يوسف جاسم الحجي في المستشفى وهو على فراش الموت، أبلغه بأن هناك دفترًا، فيه أمانات للعمل الخيري، وبالفعل فقد كانت هذه المبالغ نواة لموجودات الجمعية، التي تأسست فيما بعد باسم (جمعية عبد الله النوري الخيرية)، كما أنشئت مدرسة نموذجية بأستراليا بمدينة (سدني) باسم (مدرسة النوري).

وقد أخبرني الأخ عمر الدايل أن الشيخ النوري تبرع إلى مكتبة الزبير الأهلية العامة بمجموعة من الكتب القيِّمة وبعضها من مؤلفاته.

تلك سيرة موجزة عن حياة شيخنا الفاضل وجهاده في سبيل الحق والخير، وهذا عطاؤه الذي لم يتوقف حتى غادر الدنيا الفانية إلى دار البقاء والخلد نسأل الله العلي القدير أن تكون هذه الجهود المباركة في ميزان حسناته يوم لا ينفع مال ولا بنون إلا من أتى الله بقلب سليم.

ونحمد المولى الكريم على نعمائه بقيام «جمعية عبدالله النوري الخيرية» التي أسسها أبناؤه البررة، ومحبوه وعارفو فضله أمثال: يوسف الحجي، وعبد الرحمن العوضي، وأحمد بزيع الياسين، وعبد الرحمن الزامل، وجاسم الخرافي، وعبد الله المزيني، وعبد المحسن الثويني، ومبارك الحساوي، وإبراهيم الفرحان، وحمود الفرحان، وإبراهيم الهاجري، وناصر القطامي، ومحمد الوزان، ومحمد العوضي، فمنهم من قضى نحبه ومنهم من ينتظر، ولنا في الأخ نادر النوري كل الأمل لتؤدي الجمعية رسالتها الخيرية على أحسن وجه، فهو من خيرة شباب الكويت الدعاة إلى الله على بصيرة.

وفاته

كانت وفاة شيخنا عبد الله النوري يوم 17/1/1981م.. رحمه الله رحمةً واسعةً، وغفر لنا وله، ورزقنا وإياه الفوز بالجنَّة والنجاة من النار، وجمعنا وإياه في مستقر رحمته مع النبيين والصديقين والشهداء والصالحين، وحسن أولئك رفيقًا.

وسوم: العدد 876