شيخ العلماء محمد بن إبراهيم آل الشيخ

المستشار عبد الله العقيل

(1311 - 1389ه / 1893 - 1969م)

مولده ونشأته

هو العلاّمة الكبير والعالم النحرير محمد بن إبراهيم بن عبد اللطيف بن عبد الرحمن بن حسن بن شيخ الإسلام محمد بن عبد الوهاب، وُلد في مدينة الرياض في اليوم السابع عشر من شهر محرم الحرام سنة إحدى عشرة وثلاث مئة وألف من الهجرة، ونشأ في بيت عريق بالعلم تحت كنف والده، الذي كان قاضي مدينة الرياض، وقد أتمّ حفظ القرآن الكريم وهو ابن إحدى عشرة سنة.

وكف بصره وهو في الرابعة عشرة من عمره، فصبر واحتسب، ولم يثنه عن عزمه في طلب العلم، فقد تتلمذ على أبيه وعمه عبد الله بن عبد اللطيف وقرأ مختصرات كتب الشيخ محمد بن عبد الوهاب، وشيخ الإسلام ابن تيمية، وابن القيم، ومختصرات النحو والفرائض، كما قرأ على شيوخ العلم في الرياض زيادة على قراءته على عمه وأبيه، فدرس التفسير والحديث وأصولهما على الشيخ سعد بن عتيق، ودرس النحو والعربية على الشيخ حمد بن فارس، ودرس المطولات من كتب الفرائض على الشيخ عبد الله بن راشد بن جلعود.

ولما توفي والده سنة 1329ه، كان الابن محمد في الثامنة عشرة من عمره، فتولى عمُّه عبد الله العناية به وتوجيهه في الاستمرار بطلب العلم الشرعي، وبعد عشر سنوات، ثقل المرض على عمّه، فأوصى الملك عبد العزيز للاهتمام بابن أخيه، وأنه صاحب علم وبُعد نظر وحُسْن إدراك، وأهليّة للمسؤولية، فما كان من الملك عبد العزيز إلا أن اختاره مستشارًا شرعيًا له في تولية القضاء وإبداء الرأي والإفتاء والتدريس والإمامة والخطابة خلفًا لعمّه الذي توفي سنة 1339ه، وكان الشيخ محمد حينها في ذروة شبابه، كان عمره 28 عامًا، فنهض بهذه الأعباء الملقاة على عاتقه بكل الجد، وكان على مستوى الأهلية والمسؤولية.

وبهذا صار الشيخ محمد بن إبراهيم آل الشيخ مرجع الناس في الإفتاء، وشيخ العلم والتعليم والقضاء، وكان يجلس لطلبة العلم من بعد صلاة الفجر إلى ما بعد صلاة العشاء، وقد استمر على هذا الترتيب في الدروس إحدى وأربعين سنة.

تلامذته

وقد تخرّج على يديه ونبغ طائفة من كبار العلماء والمشايخ نذكر منهم:

عبد العزيز بن باز، عبد الله بن حميد، عبد الرحمن بن قاسم، عبد الله القرعاوي، عبد العزيز بن رشيد، سليمان بن عبيد، عبد الله بن دهيش، عبد الله المسعري، عبد اللطيف بن إبراهيم (أخوه)، عبد الملك بن إبراهيم (أخوه)، عبد العزيز بن محمد (ابنه)، إبراهيم بن محمد (ابنه)، محمد بن هليل، حمد الجاسر، عبدالله الوائلي، عبد العزيز بن حسن آل الشيخ، حمد بن فريان، عبد الرحمن بن فريان، راشد بن خنين، زيد بن فياض، سعود بن رشود، صالح ابن عبد العزيز آل الشيخ، عبد الرحمن بن فارس وغيرهم كثير.

وقد تولى سماحته الكثير من الأعمال والمهمات، كرئاسته للمحاكم الشرعية في نجد والمنطقة الشرقية، ثم رئاسة القضاء بالمملكة العربية السعودية، ورئاسة المعاهد الشرعية والكليات، ورئاسة المجلس التأسيسي لرابطة العالم الإسلامي، ورئاسة تعليم البنات، ورئاسة الجامعة الإسلامية بالمدينة المنورة، ورئاسة دار الإفتاء، فقد كان المفتي العام للمملكة والمرجع لكل ما سبق من الأعمال.

وحين ناهز الثمانين من عمره، أُصيب بمرض عضال، فاقتصر على درس التفسير قُبيل صلاة العشاء، فقد كان مسجده (جامعة) في قلب نجد، ملأت البلاد علمًا قبل أن تُبنى المدارس والمعاهد والكليات والجامعات الحديثة، وقد ألَّف الكثير من الكتب والرسائل على الرغم من مسؤولياته المتنوعة والمهمّات الكبيرة المنوطة به، ومنها على سبيل المثال: الجواب المستقيم، تحكيم القوانين، مجموعة من أحاديث الأحكام، الفتاوى وغيرها.

يقول الأستاذ محمد المجذوب في كتابه (علماء ومفكرون عرفتهم):

«... على التعاون بين مؤسس الدولة السعودية الإمام محمد بن سعود وبين إمام الدعوة المجدد محمد بن عبد الوهاب، نهضت الدولة واستمرت، وكان الشيخ محمد بن إبراهيم آل الشيخ هو الذي انتهت إليه راية هذه الدعوة، حيث حملها وسار على منهج من سلف من العلماء من آل الشيخ من آبائه وأجداده.

ولقد لبثتُ طويلاً أتشوَّقُ للاجتماع بوارث علوم آل الشيخ مجدد القرن الثاني عشر الهجري، الذي عرفته عن طريق مجلة (المنار) تلك التي كانت المعرض الجامع لحركة الإصلاح التي أحدثها في عالم الإسلام الثلاثة السابقون إلى بعث النهضة الإسلامية الحديثة: جمال الدين الأفغاني وتلميذه محمد عبده ورفيق جهاده السيد محمد رشيد رضا (رحمهم الله أجمعين) وأجزل أجرهم كفاء ما أيقظوا من النيام، وأثاروا من الهمم، لاستعادة الوعي الذي فقده سواد المسلمين، وإن أنكر المنكرون وتجاهل المتجاهلون وتقوَّل المتقولون.

ولما أسعدني الله بالهجرة إلى جوار نبيه المصطفى (صلى الله عليه وسلم) وآله، والتحقتُ بالجامعة الإسلامية، متعاقدًا للتدريس فيها، انتهزتُ أوّل فرصة للقاء الشيخ محمد بن إبراهيم بمكة المكرمة، وكنا مجموعة من مدرسي الجامعة الإسلامية، حيث أحاطنا برعايته واهتمامه، وجعل يسألنا عن أحوال الجامعة ومسيرة التدريس فيها، وأحوال طلابها الوافدين إليها من أنحاء العالم الإسلامي، ثم جاءت الفرصة الثانية في الطائف، حيث حضرتُ مجلسه مع فضيلة الزميل الشيخ عطية محمد سالم، وقد سرّني ما وجدته يوم ذاك من اتساع صدر الشيخ للآراء المخالفة، وذلك الوقار المهيب الذي يغمر مجلسه، ثم تكررت زياراتي له في الرياض، حيث كنت أجد في زيارته متعة روحية تشدّني بقوة إلى رؤيته وإلى حديثه...» انتهى.

معرفتي به

بدأت معرفتي به حين كنت أدرس في مصر بكلية الشريعة بالأزهر من 1369ه - 1949م إلى 1374ه - 1954م، حيث زارنا الشيخ أبو الحسن الندوي في مصر 1371ه - 1951م، وكنت أرافقه في معظم زياراته للأشخاص والهيئات، وقد زرنا جماعة أنصار السُّنَّة ورئيسها محمد حامد الفقي، الذي أخبر الشيخ الندوي عن وجود سماحة الشيخ محمد بن إبراهيم آل الشيخ بالقاهرة للعلاج.

وفي هذا الصدد يقول الشيخ أبو الحسن الندوي في كتابه القيم: (مذكرات سائح في الشرق العربي): «... أبديتُ للشيخ محمد حامد الفقي - رئيس جمعية أنصار السُّنَّة بالقاهرة - رغبتي في مقابلة الشيخ محمد بن إبراهيم آل الشيخ، نزيل مصر الآن، فذهبنا لزيارته في منزله في الجيزة، فرحَّب بنا، وقدَّمت له كتاب قريبه عمر بن حسن آل الشيخ، فدفعه إلى بعض حواشيه ليقرأه عليه، وبعد ذلك جلسنا نتكلم وأهديته كتاب (الإعلام في تاريخ الهند من الأعلام)، الذي أبدى رغبته في مطالعته، والشيخ ابن إبراهيم له اطلاع واسع على ما قيل عن جدّه الكبير، ومن طعن فيه ومن دافع عنه، وكتب أجداده وعلماء نجد، وقد اجتمع بصديقنا الفاضل الأستاذ مسعود عالم الندوي في الرياض حين زارها في طريقه إلى الحج عام 1369ه/ - 1949م، وذاكره في بعض ما يتصل بشيخ الإسلام محمد بن عبد الوهاب.

ثم زرته مرة أخرى مع الشيخ محمد حامد الفقي بعد خروجه من المستشفى إلى منزله بعد العملية الجراحية الناجحة التي أجريت له، وكان يتمتع بصحة طيبة، وتذاكرنا معه عن أحوال الحجاز الخلقية والدينية، وقد اطلع على رسائلي فأبدى إعجابه وموافقته» انتهى.

وحين زرتُ الرياض 1384ه/ - 1964م برفقة الشيخ عبد الرحمن الدوسري، نزلنا في ضيافة سماحة الشيخ ابن إبراهيم، وحضرنا مجالسه العلمية، طيلة فترة بقائنا في الرياض، واستفدنا من الدروس العلمية والمناقشات الفقهية في تلك المجالس، وكان للشيخ الدوسري حضوره المتميز ومشاركاته الفعَّالة التي لقيت التقدير من سماحته لما يتمتع به من علم واسع وفقه عميق، وسعة في الصدر، وحلم وطول أناة وإكرام للعلماء، وبذل العلم لطالبيه ونجدة ومروءة، وقد سررتُ غاية السرور حين عرفتُ من إخواننا في الرياض، تبرعه بقطعة أرض كبيرة جدًا في حي النسيم لتكون مقبرة للمسلمين بعد أن ضاقت «مقبرة العود» لكثرة من دفن فيها من موتى المسلمين فجزاه الله خير الجزاء.

وفاته

وقد كانت تلك الزيارة مع الشيخ الدوسري هي آخر العهد به، إذ توفي في اليوم الرابع والعشرين من شهر رمضان المبارك 1389ه وصُلّي عليه بعد صلاة العصر في (الجامع الكبير) بمدينة الرياض، وكانت جموع حاشدة من المشيعين، وعلى رأسهم الملك الشهيد فيصل بن عبد العزيز والأمراء والعلماء والوزراء والأعيان وعامة الناس، ودفن في مقبرة (العود) بالرياض - رحمه الله رحمة واسعة وجزاه الله خيرًا عن الإسلام والمسلمين.

وقد رثاه الكثير من العلماء والأدباء والشعراء، نقتبس بعض الأبيات من قصيدة الرثاء التي نظمها الدكتور محمد كامل الفقي:

دهى الجزيرة خطبٌ ليس يُحتملُ

الراحلون قرون والردى شُعب

من للشريعة والأخلاق يحرسها

من ناصر السُنَّة الغراء محتفلاً

يا صاحب الحزم لم يعرض له وهن

كنتَ الشجاع الذي في الله غضبته

قهرت أعداء دين الله فانخذلوا

أنشأتَ للعلم دورًا في محافلها

فلتنفطر مهجٌ ولتنهمر مقلُ

وأفجع الموت ما ماتتْ به المللُ

أو يستطبُّ لها إن لجّت العللُ

فلم يحدْ عن سناها القولُ والعملُ

وثاقب الرأي يخزى دونه الجدلُ

وكل جرح بما داويتَ يندملُ

لهفي عليك فهل يصحو لهم أملُ

يرى الجحافل لا هانوا ولا خذلوا

ويقول الأخ الشيخ المحقق عبدالله بن عبد الرحمن بن صالح البسام مؤلف كتاب (علماء نجد خلال ستة قرون) والذي اعتمدنا على ترجمته في معظم كلامنا عن الشيخ محمد بن إبراهيم آل الشيخ:

«... إن الشعب هزَّته وفاة الشيخ، وأصيب أفراده جميعًا بالفزع لفقده، ورأوا أنهم فقدوا شخصية كبيرة غالية من أعز أبناء البلاد عليها، ولاسيما أهل العلم الذين يرون فيه الوالد والشيخ والرئيس والمرجع، فقد اشتد عليهم الأمر ورجعوا إلى القول { إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ} يرددونه بقلوب مؤمنة بقضاء الله وقدره، وصار الناس يعزّي بعضهم بعضًا لاشتراكهم في المصيبة، ومن الموافقات الغريبة أو من تقدير الله تعالى في ذلك لعباده، أن تكون الحكمة الصادرة في تقويم أم القرى يوم وفاته ما يلي: قال رسول الله (صلى الله عليه وسلم): «إنما الصبر عند الصدمة الأولى»، فلعلها إلهام من الله تعالى ليسلي بها عباده عن مصابهم الأليم» انتهى.

تلك هي السيرة الموجزة لهذا العالم الجهبذ، الذي اضطلع بكل هذه المسؤوليات الجسام، وتولى تصريف هذه الأمور العظام، بكل كفاءة واقتدار، مع حرص على العلوم وتدريسها لطالبيها، وبذل أقصى الجهد لتبصير الناس في أمور دينهم، وإرشادهم لما يجب عليهم من التقيّد بأحكام الإسلام في كل شأن من شؤونهم، ونصح الحكام وولاة الأمر في أن يأخذوا الإسلام جملة وتفصيلاً ويلتزموا منهجه في التطبيق وعدم تحكيم القوانين الوضعية، لأن حكم الله في كتابه وسنة رسوله هو المرجع لكل المسلمين أفرادًا وجماعات حكامًا ومحكومين، رعاة ورعية.

رعايته للعلماء والدعاة

إن سماحة الشيخ محمد بن إبراهيم يمثل العالم المتمكن والداعية الحكيم، والناصح الأمين، والمرشد المؤتمن، والمعلم المربي، الذي يشهد له كل من عرفه عن قرب واطلع على آثاره ومآثره التي لا يتسع المجال لسردها في هذه العجالة، وحسبه هذا الذكر الحسن والسيرة الطيبة التي يتحدث عنها القاصي والداني من محبيه وتلامذته وعارفي فضله داخل المملكة العربية السعودية وخارجها وذلك فضل الله يؤتيه من يشاء.

ولقد كان لسماحة الشيخ محمد بن إبراهيم دوره الفعال في احتضان العلماء والدعاة الذين فروا بدينهم، من ظلم الطغاة والظلمة الذين سعوا لإحلال القوانين الوضعية بدل الشريعة الإسلامية وحاربوا الدين وأهله، وطاردوا كل من يقول: لا إله إلا الله، وقربوا دعاة الإلحاد والشيوعية والقومية والعلمانية، ونشروا الفكر المنحرف والمبادئ الضّالة حتى صارت بعض ديار المسلمين مرتعًا لكل من هبّ ودبّ من أعداء الإسلام في الشرق والغرب على حد سواء، وضاقت البلاد بأبنائها المسلمين وفتحت أبوابها لكل دعيّ أثيم أو مجرم لئيم.

وقد نفع الله بهؤلاء العلماء والدعاة المهاجرين إلى المملكة العربية السعودية الذين تركوا أطيب الأثر في تربية الناشئة على مبادئ الإسلام الحق المستقى من الكتاب والسُنَّة وما أجمع عليه سلف الأمة.

يقول العلاّمة المغربي الدكتور محمد تقي الدين الهلالي في تقديمه لكتاب (محمد بن عبد الوهاب مصلح مظلوم ومفترى عليه) الذي ألفه أحد تلامذة الهلالي بالهند الأستاذ مسعود عالم الندوي:

«لا يخفى أن الإمام الرباني الأواب محمد بن عبد الوهاب قام بدعوة حنيفية، جدَّدت عهد الرسول الكريم والأصحاب، وأسس دولة ذكَّرت الناس بدولة الخلفاء الراشدين، وقهرت الشياطين، وأحيت ما اندثر من علوم كتاب الله وسُنَّة النبي الكريم، ولا شك في أن معرفة أخبار هذه الدعوة وصاحبها، تهم كل طالب علم من الموافقين والمخالفين، بل من المسلمين والكافرين» انتهى.

نسأل الله تعالى أن يتغمد شيخنا الكبير محمد بن إبراهيم آل الشيخ برحمته، وأن يدخله فسيح جناته، وأن يحشرنا وإياه في زمرة الصالحين من عباده إنه ولي ذلك، والقادر عليه. وآخر دعوانا أن الحمد لله ربّ العالمين.

وسوم: العدد 898