تساؤلات صادمة في مثال الريادة وكعبة السياسة

د. نضير الخزرجي

مرّ على هذه المعمورة منذ أبينا آدم (ع) وحتى يومنا هذا أقوام وأقوام، لا حصر لهم ولا عد، مليارات تتلو مليارات، دبّوا ويدبّون في مشارق الأرض ومغاربها، ولكن صفحات التاريخ حفظت لنا وبشكل عام شخصيات قليلة العدد معلومة العدة واضحة الملامح فارقة المعالم، تتحرك في دائرة قطرها بَيِّن تجمع بين الخير والشر، فلجند الخير أئمة ولجند الشر أئمة، وهم واضحون يتحركون على خشبة مسرح الحياة، يعرفهم المتصفح لسجل التاريخ بسيماهم وتدل عليهم أعمالهم وبما كسبت أيديهم.

ومن ديدن الشر أن يجعل بين الناس والخير حاجزًا لئلا يميلوا ببوصلتهم نحو قبلة الحق، لأن الإنسان بفطرته السليمة إن عرف الحق أحبه وعمل له، ولأن الشر الضد النوعي للخير فإنه من الطبيعي أن يمقت الخير وأهله ويعمل على محوه من صحيفة الأعمال اليومية، والحرب بين الخير والشر سجال يدور بأهل الأرض من حال إلى حال، منذ أن أهبط الله أبينا آدم الى الأرض وإلى آخرهم على وجه البسيطة.

ولأن الشرَّ ظلام، فإن أئمة الظلام يحثون الخطى على إلباس الشر لبوس الحق ليحيدوا الناس عن سبيل الخير ويضعوا العصي الغليظة أمام عجلة الخير وأئمته، وهم ماضون في هذا المسار المظلم ويعملون تحت جنح الظلام كالخفافيش التي تأنس الى الظلام أنس الإنسان إلى شمس الشتاء، ولطالما اشتغلت ماكنة إعلام الظلام على تضليل المجتمع وتضبيب سمائه بما يحول بينه وبين أئمة الخير، وجرت ما أوسعها الحال على تشويه سمعة رجال الخير وأئمته.

 لا يخفى أن الفطرة الإنسانية تميل الى الخير، فلو تعرَّف الناس على أئمة النور لسلكوا درب الهداية، وفق القاعدة التي نطق بها الإمام علي بن موسى الرضا(ع): (إن الناس لو علموا محاسن كلامنا لاتبعونا)، والنسبة طردية بين الخير وأحابيل الشر، فكلما كان الخير وإمامه علما في قومه تحركت خفافيش الظلام للنيل منه بكل ما تحت جناحها من ألاعيب وحيل، لتخفي عن الأمة محاسن الرجل من قول وفعل وما أقر عليه من خير ونبذه من شر.

الأشتر والحقائق المغيبة

حقيقة الصراع الأبدي بين محوري الشر والخير، بين محور مقاومة الأنا وتغليب مصلحة الإسلام والأمة وبين محور الإنبطاح للإنا وتجاوز مصلحة الإسلام والأمة، يجليها للعيان الإصدار الجديد للعلامة المحقق آية الله الشيخ محمد صادق الكرباسي المعنون (إنه المؤمن حقًّا .. السيرة الكاملة لفارس الإسلام مالك الأشتر) الصادر في بيروت عن بيت العلم للنابهين في خمسة أجزاء صدر منها الأجزاء الثلاثة في 1212 صفحة من القطع الوزيري على النحو التالي: 416 صفحة للجزء الأول ومثلها من الصفحات للجزء الثاني و380 صفحة للجزء الثالث، وكان للعبد قارئ هذا الكتاب شرف مراجعة الكتاب بأجزائه والتقديم له في 15/8/2017م.

فالكتاب بمحتواه الجديد والشيق يتناول شخصية العلم الفذ مالك بن الحارث الأشتر النخعي المستشهد بالسم بين ظهراني أهل مصر.

ماذا نعرف عن هذا الرجل الذي كان مائزا بين جبهتي الحق والباطل كان ومازال؟

إنَّ جل ما عرفناه ونعرفه عن الأشتر النخعي مشاركته في معركتي الجمل وصفين وعهد الإمام علي(ع) حين توليته حكم مصر واستشهاده فيها، وما لا نعرفه الكثير الكثير منذ أن قدم المدينة المنورة بعد رحيل النبي الأكرم محمد(ص) وحتى آخر ملعقة عسل تذوقها وبها شهادته، دوّنته كتب التاريخ وسجلات السير، ومنعت من ظهوره قوى الشر والجهل والطائفية البغيضة.

ماذا نعرف عن الأشتر ونسبه؟

ماذا نعرف عن دور الأشتر في هجرته من اليمن الى المدينة ودوره في حياة أهل المدينة؟!

ماذا نعرف عن دوره في فتح الأردن سنة 12 للهجرة؟! وعن دوره في فتح دمشق سنة 13 للهجرة؟! وعن دوره في معركة القادسية بالعراق سنة 14 للهجرة؟! وعن دوره في معركة اليرموك بالأردن سنة 15 للهجرة؟! وعن دوره في فتح مدينة عزاز في سوريا سنة 16 للهجرة؟! وعن دوره في فتح بيت المقدس سنة 16 للهجرة؟! وعن دور في فتح مدينة البهنسا في مصر سنة 22 للهجرة؟!

بل وماذا نعرف عن دور الإمام علي بن أبي طالب(ع) في فتح بيت المقدس ومشورته الصائبة على الخليفة عمر بن الخطاب العدوي في الذهاب بنفسه إلى فلسطين والتي جاءت بالنصر للمسلمين وحفظ دماء المسلمين والمسيحيين معًا؟.

ماذا نعرف عن دور الأشتر في معارضة الحاكم الأموي في الكوفة سنة 29 للهجرة؟! وعن انتفاضته في الكوفة سنة 33 للهجرة ونفيه إلى الشام عند معاوية بن أبي سفيان الأموي؟! وعن استمرار معارضته ونفيه ثانية إلى حمص سنة 34 للهجرة والفرار منها؟! وعن قيادته للإنتفاضة الكبرى سنة 34 للهجرة ضد ولاة بني أمية الذين استعبدوا الناس والتي انتهت بتغيير نظام الحكم سنة 35 للهجرة؟!

ماذا نعرف عن حقيقة دوره الفعال في معركة الجمل وإنهائها ووأد فتنة الناكثين؟! وعن حكمه لولاية الجزيرة الكبرى في عهد الإمام علي(ع) سنة 36 للهجرة؟! وعن دوره في معركة صفين في سنة 36 و37 للهجرة وحرب القاسطين وإنهائها لصالح الحق لولا تخاذل قطعات من جيش العراق وانخداعهم بحيل عمرو بن العاص السهمي؟!

ماذا نعرف عن حكمه لولاية إصفهان في سنتي 38 و39 للهجرة؟! وعن حكمه لمصر الكبرى واغتياله فيها؟! وعن معركة الأنبار سنة 39 للهجرة وافتقاد أهل العراق لمالك الأشتر؟!

ماذا نعرف عن الأشتر ومؤهلاته الشخصية والجسمانية؟! وعن الأشتر الراوي وموقعه الرجالي؟! وعن الأشتر الخطيب والمتكلم والمحاور؟! وعن الأشتر المفكر السياسي؟! وعن الأشتر الشاعر والأديب؟!

ماذا وماذا .. أمور كثرة حاضرة في مطاوي التاريخ وتلافيفه وهي تمس شخصية الحواري مالك الأشتر النخعي من قريب أو بعيد، لكنها غائبة أو مغيبة عن أذهان الأمة، عملت معاول التخريب الأموي والجهل الطائفي على طمس معالمها أو تشويه صورتها ما أمكنها ذلك، ظنّا منها أن النيل من حواري من حواريي أمير المؤمنين علي بن أبي طالب(ع) سيطال المحبوب أيضا، وقد نال مالك الأشتر الضربات من المعاول الأموية ما لم ينله أحد من الحواريين، وما ذلك إلا لقوة إيمانه وولائه وتنمره في ذات الله حتى قال فيه نبي الإسلام محمد بن عبد الله(ص) في وقت لم ير أحدهما الآخر: "إنه المؤمن حقًّا"، شهادة حاضر لا ينطق عن الهوى في غائب بلغ في هوى الآل المدى .. ما أعظمها، وما ذلك إلا لذوبانه في طاعة أهل البيت(ع) وحب إمامه وخليفته إمتثالا لأمر الله (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُوْلِي الأَمْرِ مِنْكُمْ) سورة النساء: 59، ولأن الحواري كما يقول إمام الموحدين حيدرة الكرار: "كان لي مالك كما كنت لرسول الله"، فمن الطبيعي أن تزداد على رأسه الطرقات كما طرقت على رأس إمامه ومحبوبه.

أمور كثيرة في جب التاريخ، غائبة ومغيبة عمدًا وجهلًا، نزل إليها يوسف التحقيق العلامة الشيخ محمد صادق الكرباسي حاملًا معه مصباح الفراسة ليكشفها ويستنطقها ويستعلم حالها، ليصعد إلينا ببضاعة منتقاة غالية الثمن تنوء سيارّة الكتاب والمحققين عن ابتياعها أو أولو العصبة عن حمل مفاتيحها.

قراءة البيان من العنوان

في العادة يتضح مراد القائل أو الكاتب من العنوان أو من أول عبارة يتفوه بها أو سطر يحبره، وعند استظهار عناوين الأجزاء الثلاثة المطبوعة من السيرة الذاتية لفارس الإسلام مالك الأشتر، تتراءى أمامنا عمق الشخصية العظيمية التي يستقصيها الكتاب وما تركته من بصمة عميقة على طول الجغرافية الإسلامية من الجزيرة العربية إلى العراق وأرمينيا وولاية الجزيرة وآسيا الوسطى وإيران والشام حتى أفريقيا، منذ أن تعرّف على حامل رسالة الإسلام محمد (ص) حتى استشهاده في مصر على الولاء وحب أهل البيت (ع).

الجزء الأول ضمَّ إلى جانب مقدمة الناشر ومقدمة المراجع الدكتور نضير الخزرجي وتمهيد المؤلف، العناوين التالية: الأشتر في سطور، عائلة الأشتر، صفاته الروحية والجسمية، الجذور، الآباء والأجداد، اليمن .. المولد والنشأة سنة 25 ق.هـ، هجرة العقيدة سنة 10هـ، الهجرة الأولى إلى المدينة سنة 11هـ، في قبيلة بني حنيفة سنة 11هـ، فتح الأردن سنة 12هـ، فتح دمشق سنة 13هـ، إلى العراق.. القادسية سنة 13- 14هـ، معركة اليرموك سنة 15هـ، فتح عزاز وأنطاكية سنة 15هـ، فتح بيت المقدس سنة 16هـ، فتح البهنسا سنة 22هـ، الأشتر ووالي الكوفة سنة 29هـ، تجهير أبي ذر سنة 32هـ، إنتفاضة الأشتر في الكوفة سنة 33هـ، نفي الأشتر إلى الشام سنة 33هـ، الأشتر في منفى حمص سنة 34هـ، قائد الإنتفاضة الشعبية سنة 34هـ، حصار عثمان سنة 35هـ، البيعة لعلي (ع) سنة 35هـ، معركة الجمل سنة 36هـ، حرب الجمل وتداعياتها، تحول العاصمة سنة 36هـ، ولاية الجزيرة سنة 36هـ، معركة صفين سنة 36- 37هـ، من تداعيات معركة صفين، الأشتر في إصفهان 38- 39هـ، ولاية مصر والعهد سنة 39هـ، التوجه إلى مصر سنة 39هـ، الإغتيال والشهادة سنة 39هـ، تجهيزه.

وحيث تضيء مصابيح الجزء الأول معترك سيرة الأشتر وحياته من الولادة إلى الشهادة، فإن الجزء الثاني تناول أربعة موضوعات من حياة هذا الفارس المغوار وهي مرقده الشريف، وشعره ونثره وما قيل فيه من شعر، وجاءت العناوين على النحو التالي: التلفيق، ساحة المعركة، مؤهلات متنوعة، مرقد الأشتر الذي يقع في بلدة القلج عند مدخل محافظة القليوبية من جهة العاصمة المصرية القاهرة والذي يعرف عن اهل المنطقة بالسيد العجمي، زيارة ولي الله الأشتر النخعي، مبنى المرقد القديم، مقام الأشتر في مرعش، مقام الأشتر في صور- ديار بكر، مقام الأشتر في بعلبك، مقام مالك الأشتر النخعي في القرم، مقام إبراهيم الأشتر في إليگودرز، مرقد صفية الأشترية في كاشان، مشهد محمد الأشتر في بربرود، مرقد الأمير صالح النخعي في كياب، ديوان الحماسة وضمن 46 قصيدة ومقطوعة أنشدها الأشتر في مناسبات مختلفة، شاعرية الأشتر، رواية الحديث وفيه سلسلة من روى عنهم الحديث أو من روى عنه، موقعه الرجالي، الأحاديث الموضوعة، منبر الخطابة، أولاً: الخطب وضم (23) خطبة، ثانيا: الكتب وضمَّ (6) من الكتب، ثالثا: الحواريات وفيه (62) حوارية، رابعا: الكلمات وفيه (14) من الكلمات القصار، قوة البلاغة في خطبه وكلماته، ما قيل فيه من الشعر وضم 19 قصيدة ومقطوعة لشعراء من بلدان مختلفة، مقولات في الأشتر، قالوا في مالك، مالك في المقالات وفيه  بيان لأهم ما قيل عن الأشتر في 159 مقالة بلغات مختلفة.

ولأن الأشتر رجل دين ودولة، وفارس حرب وسياسة، وقبلة الساسة،  تولى في حياته السياسية ولايات عدة في آسيا وأفريقيا، ولعل أكثر ما اشتهر فيه عهد الإمام علي (ع) له عندما ولاه حكومة مصر لما فيها من أسس وقواعد وتفاصيل دقيقة في إدارة دفة الحكم، فإن والمؤلفات عنه بالمئات وبلغات مختلفة، وتمكن المحقق الكرباسي من رصد 249 كتابا ومؤلفا في الأشتر، كما رصد عناوين 129 مؤسسة ومنشأة تسمت باسمه الشريف توزعت على مدرسة وجامع وجامعة وكلية وحوزة علمية ومستشفى، ولواء عسكري، ومنشأة عسكرية وصناعية وشركة تجارية ومدينة وقرية وحي وشارع وحديقة عامة، وموقع إلكتروني، ومحطة بنزين ودائرة بريد، ومركز رياضي، وقاعة إجتماعات، وغيرها.

ورصد المؤلف في الجزء الثالث (12) فيلما ورواية عن الأشتر، و(6) من اللوحات والرسوم والصور تمثل شخصية الأشتر لرسامين وفنانين تشكيليين من بلدان مختلفة مثل باكستان وإيران.

كما أفرد المؤلف وهو المنتمي إلى الأشتر نسباً فصلا تحدث عن أسرة الأشتر وأبنائه وأحفاده الذين سكنوا بقاع الأرض.

أما الجزآن الرابع والخامس وهما مخطوطان، فإنه المؤلف أوسع فيهما شرحاً للكلمات الواردة في نصوص الأشتر النظمية والنثرية وغيرهما، وشرحاً للأماكن والمدن الواردة، والسيرة الذاتية لمن ورد في حياة هذا الفارس الذي كان يعادل ألف فارس في صفحات الأجزاء الثلاثة.

قبلة الساسة حياً وميتاً

لقد تابعت ما خطه يمين الكرباسي في هذا الكتاب، وما بذله من جهد جهيد تليق بشخصية هذا الفارس الحبر، وتفاعلت مع الأشتر ومواقفه وسلوكه حتى كأنني أراه يمشي بين ظهرانينا ذهابا وإيابا .. أراه في ساحة الوغى يدعو الأبطال إلى المبارزة فيمتنعون ويتمنعون، فيتحايل على القوم ويغير زيه المعهود بزي رجل آخر ويستدرج فريسته الى مقصلتها .. أراه وهو يجول في عرصات الحرب يشد من عزيمة المقاتلين .. أراه في الحياة اليومية يدعو بالخير ويصلي لمن أساءه له .. أرى وأرى بما أرانيه الكرباسي في سفره، ومن يرى ما أرى يدرك معنى قول النبي الأكرم(ص) فيه وإيمانه المحض، وما يعنيه الإمام علي(ع) في المكانة التي كان عليه الأشتر كما كان هو للمختار، وأدركت في الوقت نفسه معنى القول الشائع (التاريخ يعيد نفسه)، ولذا فإن السياسي الحاذق الذي يريد أن يحكم الناس بالسوية ويواجه مخططات الأعداء ومناوراتهم في الداخل والخارج ما عليه إلا إعادة قراءة شخصية الأشتر، فأعماله وسلوكه فيها حكمة وفطنة سياسية، وخطبه وحوارياته تنم عن فكر سياسي متنور، والعاقل من جمع عقول الناس إلى عقل، والعاقل من اتخذ شجعان الهيجاء وفرسان الكلام قدوة له، وما أحوج الساسة إلى نموذج حي كمالك الأشتر النخعي.

في الواقع إن الذي أتى به الكرباسي، في هذا السفر المبارك يمثل غنيمة راقية في سوح القلم، يُضاف إلى ما أبدعه يمينه في دائرة المعارف الحسينية، وقد قلت من قبل وأثبت ثانية وثالثة ورابعة: إن الكرباسي للحسين(ع) كجده مالك لعلي (ع) وكعلي للمختار محمد (ص).

وسوم: العدد 934