( سارعوا إلى مغفرة من ربكم وجنة عرضها السماوات والأرض أعدت للمتقين )

من المعلوم أن الله تعالى قضى أن يخلق الإنسان ليبتلى في حياة أولى هي الحياة الدنيا كتب عليها الفناء ثم يجازى عن ابتلائه إما بنعيم أو بجحيم  في حياة ثانية هي الحياة الآخرة التي كتب لها الخلود.

ولمّا كان عمر الحياة المخصصة للابتلاء قصيرا قياسا مع عمر الحياة المخصصة للجزاء الذي لا نهاية له ، وعمر الإنسان فيها أشد قصرا ،تعيّن عليه أن يغتنم كل فرصة تسنح له فيها ليفوز بعمر خالد في نعيم الخلد .

 ولقد دل الله تعالى الإنسان على كيفية اغتنام فرصة الحياة الدنيا، وذلك من خلال تخصيص أيام وليال منها بكثرة الفضل المتاح تحصيله  مقارنة مع غيرها ، ومن خلال حثه على الاجتهاد في تحصيله خلالها  ، وهو اجتهاد يكون بالمسارعة والمسابقة  إلى ذلك كما جاء في الذكر الحكيم في سورة آل عمران وفي سورة الحديد ، فأما المسارعة فقد جاءت في قوله تعالى : (( سارعوا إلى مغفرة من ربكم وجنة عرضها السماوات والأرض أعدت للمتقين )) ، وأما المسابقة فقد جاءت في قوله تعالى : (( سابقوا إلى مغفرة من ربكم وجنة عرضها كعرض السماء والأرض أعدت للذين آمنوا بالله ورسله )) . والمسارعة والمسابقة كلتاهما تدلان على المبالغة في السرعة والسباق ، ووجود الواحدة يقتضي بالضرورة وجود الأخرى ،لأن المسارع إذا سارع فهو يريد السبق ، والمسابق إذا سابق  فهو يسرع . ولا شك أن الداعي إليهما  في طلب المغفرة والجنة هو قصر مدة ابتلاء الإنسان في الحياة الدنيا فضلا عن قلة الفرص المتاحة له لتحقيق الهدف من مسارعته ومسابقته  إلى مغفرة لا مندوحة  له عنها  للفوز بالجنة، لأنه  خطّاء بطبيعته ، وهو ما يقتضي أولا  تخلصه من أخطائه ، لهذا تقدم ذكر المعفرة في قوله تعالى على  ذكر الجنة .

والمسارعة إلى المغفرة اقتضتها خطورة ما يقترفه الإنسان من ذنوب ، فهي على سبيل المثال كنصح الطبيب مريضه بالتعجيل بعلاج مرضه بسبب خطورته على حياته .ولا يسارع إلى المغفرة إلا الكيس الذي يقدر خطورة وحجم ذنوبه ومعاصيه . أما المسارعة إلى الجنة، فتقتضيها الرغبة في الفوز بها وقد وصف الله تعالى سعتها بذكر عرضها المشبه بعرض السماوات والأرض ، وسعة حيز بهذا الحجم اللامتناهي في الاتساع يدل على  عظم حجم محتواه من النعيم كما جاء وصفه في الحديث القدسي الشهير : " أعددت لعبادي الصالحين ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر" ، وهو وصف من شأنه أن يغري بالمسارعة، ويحفز عليها لأن النفس البشرية تتوق دائما إلى معرفة  ما لا يرى بعين ، ولا يسمع بأذن  ،ولا يخطر على قلب  . ولقد ذكر الله تعالى أنه أعدّ هذا الذي لم  ير بعين ، ولم يسمع بأذن ، ولم بخطر على قلب  لعباده الصالحين وهم المتقون كما جاء في الآية الكريمة . والتقوى صيانة الإنسان نفسه من سخط خالقه، ويكون ذلك بنشدان مرضاته بطاعته فيما أمر ونهى .

وبعد إغراء الله عز وجل العباد بالمسارعة إلى مغفرته وجنته، مثّل لبعض ما تحصل به تلك المسارعة بقوله سبحانه وتعالى في وصف عباده الصالحين المتقين : (( الذين ينفقون في السراء والضراء والكاظمين الغيظ والعافين عن الناس والله  يحب المحسنين )) ، إنها ليست بالمسارعة المتيسرة لأن النفس البشرية يشق عليها الإنفاق لما جبلت عليه من شح كما وصفها الله تعالى في قوله : (( وكان الإنسان قتورا )) ، فكيف بمن كان هذا طبعه أن يغالبه  في أحوال يشغل بها كالسراء التي تلهيه عن التفكير فيمن يحتاجون إنفاقه ، وكالضراء التي تنسيه ذلك  أيضا. ومن  يحمل نفسه على الإنفاق مع عزة المال عليها في حالي السراء والضراء ، يكون ذا تجعله يسارع إلى المغفرة وإلى الجنة .

وكما نوّه الله عز وجل بمغالبة النفس في شحها ،نوه كذلك  بمغالبتها في غضبها وهي المجبولة عليه أيضا ، وقد صور سبحانه شدة الغضب الذي يعتريها  فيملأ الصدر كالقربة حين  تكظم أي تملأ  ماء ويشد فمها . والكاظم غيظه على ما فيه من شدة  وحدّة يكتم  كل ما يكشف عنه  من علامات تشي به ،وهو أمر يشق على النفس . ومع كظم الغيظ قد لا يأمن الإنسان على نفسه من الكشف عنه، لهذا نوه الله تعالى بالعفو وهو المحو، وقد قال أهل العلم أنه أبلغ من الغفران، لأن هذا الأخير ستر للذنب بينما العفو محو له  . وإذا حصل العفو من كاظم الغيظ زال عنه هذا الأخير نهائيا، ولم يعد له أثر في نفسه . ولقد وصف الله تعالى ترويض النفس على مغالبة الشح بالإنفاق في حالي السراء والضراء  ،  و على مغالبة الغيظ بالكظم ثم بالعفو بأنه إحسان، وهو فعل الأحسن ، وهل يوجد أحسن من ترويض النفس وإكراهها على ما جبلت عليه من عيوب الشح والغيظ والانتقام ؟

حديث هذه الجمعة اقتضاه قرب حلول شهر رمضان الذي تفضل به الله عز وجل على المؤمنين من عباده ترغيبا لهم في المسارعة إلى المغفرة والجنة ، وقد جعله سبحانه وتعالى شهر مغفرة وعتق من النار ، وهو بذلك عبارة عن عرض إلهي سخي ومربح يتكرر كل سنة كالعروض التي تكون في التجارة حيث تخفض أسعار السلع الغالية لتشجيع الناس على الإقبال عليها ، ولا يوجد أغلى من سلعة الله تعالى كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " ألا إن سلعة الله غالية ألا إن سلعة الله الجنة ". وتخفيض الله عز وجل لثمن سلعته الغالية يكون في هذا الشهر الفضيل حيث جعل مقابل  صيامه وقيامه إيمانا واحتسابا غفران ما تقدم من ذنب، وبذلك سهّل سبحانه وتعالى على عباده المؤمنين المسارعة إلى مغفرته وجنته فضلا منه ومنة .

ومن المسارعة إليهما ما نوه به الله عز وجل من إنفاق وكظم للغيظ وعفو عن الإساءة  ، فمن سارع في هذا الشهر بذلك حاز درجة الإحسان ،فضلا عما يسارع به من  صالح الأعمال  .

ولما كان لا أحد يخلو من آفة البخل وآفة الغضب و آفة الانتقام  ، فإنه يجدر بنا أن نجعل شهر الصيام فرصة خلاص منها . ومن فاتته هذه الفرصة، ولم يتخلص منها فقد ضيع على نفسه المسارعة إلى المغفرة والجنة التي حثه الله عز وجل عليها ورغبه فيها ترغيبا .

اللهم بلغنا شهر الصيام ، وهيىء لنا فيه  أسباب المسارعة إلى مغفرتك وجنتك ، وقنا شر أنفسنا  و شحها، وغيظ صدورنا ، وافتقارنا إلى العفو عن الناس غفوا يرضيك وترضاه لنا . اللهم إنا نسألك منزلة الأتقياء المحسنين من عبادك الصالحين . اللهم اجعلنا ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه ، ونعوذ بك من الإعراض عن الحق إذا دلنا عليه دال ، ونعوذ بك من الإصرار على ذلك ، ووفقنا اللهم إلى ما تحب وترضى من سديد القول وصالح العمل .

والحمد لله الذي تتم بنعمته الصالحات ، وصلى الله وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين . 

وسوم: العدد 924