أول حديث رمضان : كيف يجب أن يمر يوم الصائم نهاره وليله

لقد كان دأبي فيما مضى قبل أن أمنع من الخطابة بسبب انتقاد صفقة القرن المشؤومة تقديم دروس في بعض المساجد بين العشائين ، ونشرها  بعد ذلك على موقع وجدة سيتي . وبسبب المنع وظرف الجائحة واصلت النشر رمضان المنصرم، وأسأل الله تعالى أن يوفقني لمواصلته هذا العام أيضا، وهذا أو أحاديث رمضان.

ونحن على بعد يوم  واحد من حلول شهر الصيام الفضيل بين ظهرانينا لعله من الواجب التطرق إلى موضوع ربما يرى البعض  أنه لا حاجة إليه لأنه  في حكم المعروف، ومع ذلك إن لم يزد التذكير به تعريفا ، فلن ينقص منه شيئا ،علما بأن  الله عز وجل جعل النفع في الذكرى ، فقال جل شأنه  مخاطبا رسوله صلى الله عليه وسلم ،ومن خلاله مخاطبا  كل مؤمن : ((وذكّر فإن الذكرى تنفع المؤمنين )) ،ولهذا لن يعدم مؤمن فائدة إذا ما ذكّر بشيء وإن كان يعرفه .

والموضوع المعني بالتذكير في هذا الحديث هو ما تصدره كعنوان  : ّ كيف يجب أن يمر يوم الصائم نهاره وليله ؟ ".

فمن المعلوم أن للصيام أيام معدودات وما كان معدودا فهو في حكم القليل ، و لكل يوم أو لكل مجموعة أيام شهر رمضان  ما يميزها من فضل عن غيرها وإن كان الجامع بينها هو عبادة الصيام والقيام .

وأول أيام رمضان يستوجب كيفية معلومة من استقباله برمته ويكون  ذلك عبارة عن نية ،وهي قصد وعزم  يسبق كل فعل ، ويكون بين الإنسان ونفسه لا دخل فيه لغيره ، ولا يشهد عليه أحدا إلا الله عز وجل المطلع على ما تخفي الصدور. ويشترك في هذه النية أن يكون العزم هو صيام رمضان كاملا إيمانا واحتسابا ، وأما الإيمان، فهو إقرار عن قناعة راسخة لا يلابسها  ما ينال من رسوخها بأركان ستة هي  إيمان بالله جل جلاله إلها واحدا لا شريك له ، وبالملائكة الكرام ، وبالكتب المنزلة من عند الله عز وجل ، وبالرسل الكرام صلواته وسلامه عليهم أجمعين ، وباليوم الآخر ، وبالقدر خيره وشره . ويلزم عن الإيمان بهذه الأركان الستة الإيمان أيضا بما يترتب عنها . والصيام باعتباره ركنا من أركان الإسلام الخمسة مما يترتب عن أركان الإيمان، فهو مما  تعبّد به الله عز وجل عباده ، وأمر ملائكته بتبليغه لرسله عبر كتبه ، وادخر لهم به  جزاء  في اليوم الآخر ، وهو من خير ما قدره  لهم . وأما الاحتساب فهو فعل الصيام مع ادخار أجره عند الله عز وجل دون أن يراد به شيء من ثواب الدنيا . وبهذه النية يكون استقبال شهر الصيام من أول يوم فيه على الوجه المطلوب شرعا .

وبعد ذلك يأتي ما تشترك فيه أيام هذا  الشهر الفضيل من أفعال كلها تعبدية تتمثل في عبادات ومعاملات هي الصوم نهارا وإقامة الصلوات الخمس في وقتها مع أفضلية أدائها مع الجماعة حيث يفوق أجرها أجر الواحد سبعا وعشرين درجة في غير رمضان ، بينما هي أضعاف مضاعفة فيه ، فضلا عن نوافل يكون أجرها في رمضان كأجر الصلوات المكتوبة  في غيره ، وهي النوافل الرواتب المعهودة في غير رمضان ،و قيام الليل فيه أو التراويح . ولا بد من الاحتياط مما يفسد الصلاة والصيام من مفسدات كثيرة منها ما يتعلق بكيفية أدائها على الوجه المطلوب شرعا ، ومنها ما يتعلق بسلوكات أثناء ممارسة الحياة اليومية مما يتعلق بالمعاملات التي تعبد بها الله عز وجل عباده المؤمنين  .

وتأتي بعد هذا التعبد بعبادتي الصيام والصلاة التعبد بالمعاملات ،وعلى رأسها ما قدر الله عز وجل لكل إنسان من عمل أو سعي يسعاه في حياته لتوفير لقمة عيشه وإعالة من تقع عليه مسؤولية إعالتهم . وأخطر ما  يدخل الصوم من فساد يكون من هذا الباب حيث يقع التقصير من الإنسان في عمله وسعيه اليومي بحيث يؤديه ناقصا إما في كيفيته أو في توقيته  بذريعة تعب يجده أثناء صومه، علما بأن الصوم أصلا عبارة عن مشقة سببها الإمساك  عن الطعام والشراب المسبب للتعب والتراخي ، وهو ما  يقتضي التحمل والصبر وقد تعبدنا الله عز وجل بذلك ، ونحن ممتحنون به .

ومعلوم أن النية بصيام شهر رمضان تتضمن الالتزام بالقيام بواجب العمل والسعي كاملا غير منقوص وعلى الوجه المطلوب بحيث يكون موازيا لعبادة الصوم والصلاة ، ولا يمكن  أن تكون هاتان على الوجه المطلوب تماما وكمالا وإتقانا ، ويكون العمل أو السعي اليومي متخلفا عنهما في التمام والكمال  والإتقان.

ومما تعبدنا به الله عز وجل في معاملاتنا عموما وفي شهر الصيام على وجه الخصوص معاملة الجوارح قلبا ، وعينا، وأذنا، ولسانا، ويدا، ورجلا .

 أما المعاملة بالقلب، وهي كذلك لأنها تكون بين الفرد وغيره إما بحضوره أو في غيابه حيث تخطر على  هذه الجارحة  ما لا يعلمه إلا الذي يعلم  ما تخفي الصدور التي هي  مقر القلوب، وشر ما يضمره القلب الكره، والحقد، والبغضاء والحسد ... وغير ذلك من الشرور .

 وأما المعاملة بالعين، وهي كذلك لأنها تتعلق بعلاقة الفرد مع غيره أيضا حيث يقع بصره عليه ، وقد قيدها  الله سبحانه وتعالى بالغض عما حرم مما لا يحق للبصر أن يناله من الغير دون شعور منه  ،أو ما حرم من تجسس ، وهي معاملة يميّزها الإخلاص ، ولا يلابسها الرياء بحيث يراعي الفرد معية الله سبحانه وتعالى الذي يعلم خائنة الأعين .

 وأما المعاملة بالأذن وهي  كذلك ، وتكون أيضا تعامل بين الفرد وغيره حيث يسمع كل منهما من الآخر ،وقد ينال كل منهما من صاحبه من خلال الجهر بالسوء الذي لا يحبه الله عز وجل، أو بالتجسس الذي يراد من ورائه سوء .

وأما المعاملة باللسان فهي أيضا كذلك لأنها تواصل شفهي بين الفرد وغيره ، وهي أخطر معاملة على الإطلاق خصوصا حين يكون الطرف المستهدف باللسان غائبا و هو بذلك في حكم الميت كما وصفه الله تعالى، فيكون القول فيه بمثابة نهش لحمه وهو على تلك الحال  ، ويكون النهش إما غيبة حيث يذكر عيبه هو فيه حقيقة  ،ويكون بهتانا حين يذكر ما ليس فيه ، كما أن ذكره في حال حضوره بما يكره هو جهر بالسوء. وبناء على هذا تعتبر معاملة اللسان أخطر المعاملات على الإطلاق ، وهو ما أخبر به رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وتعجب منه الصحابي الجليل معاذ بن جبل رضي الله عنه حيث قال له عليه الصلاة والسلام  مجيبا عن تساؤله عن محاسبة الناس عما يقولون : " ثكلتك أمك يا معاذ وهل يكب الناس في النار على وجوههم أو على مناخرهم إلا حصائد ألسنتهم " وعبارة " ثكلتك أمك " تعني بكتك عند فقدك ، وقد صارت تستعمل للتنبيه .

وأما معاملة اليد وهي كذلك، فتكون أيضا بين الفرد وغيره حيث تمتد هذه الجارحة إلى الغير أو إلى ما يملك بسوء ، وأقبح ما فيها أن تمتد إليه وهو في غفلة أو غياب ويكون ذلك غدرا، وخيانة، وسرقة، وغصبا، وغلولا ، ورشوة . وما أمر الله تعالى بقطعها حين تمتد إلى ملك الغير بالسرقة إلا لخطورة ما يترتب عن ذلك ، وما أمر الله تعالى بفقء عين، ولا بقطع لسان، ولا صمّ أذن كما أمر بقطع جارحة اليد السارقة ، الشيء الذي يدل على خطورة ما تكسب مما لم يشرع لها.

وأما  معاملة الرجل وهي كذلك ، فتكون بين الفرد وغيره إذ  قد يسعى بها كل منهما إلى صاحبه سعيا  يكون من وراءه سوء ، وقد تحل حيث حرم الله تعالى مما لا يحل لها .

ولكل هذا يجب على الصائم أخذ معاملات هذه الجوارح بعين الاعتبار لأنها قد تكون سببا في إفساد عبادة الصوم، ولذلك  قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " من لم يدع قول الزور والعمل به  والجهل فليس لله حاجة أن يدع طعامه وشرابه " ،وقد جمع هذا الحديث الشريف بذكر القول والفعل بين  كل ما يصدر عن مختلف الجوارح مما يفسد عبادة الصوم ، ويفرغها من دلالتها .

ومما يجب على الصائم ألا يسلس قياده لشهوة الطعام والشراب ، فيصرف همه وهو صائم إليهما ، فينفق سحابة يومه في الاشتهاء كوحم الحبالى ، وفي اقتناء كل ما تشتهي النفس مما لذ وطاب ، علما بأن المشتهي الطعام والشراب وهو صائم يكاد ينقض إمساكه الذي لا يكتمل إلا بتغييب الطعام والشراب عن الذاكرة. ومما يجب على الصائم أيضا الاحتياط منه النوم الثقيل نهارا لأنه  يفسد الصوم بطوله حيث يكون صوم النائم هذا النوع من النوم في حكم  الصوم الموقوف تنفيذه ، وقد يحدث له فيه ما يدعو إلى بطلانه وإعادته بعد خروج أيام شهر الصيام ، علما بأنه لا بأس بالقليل منه ،ولذلك سمي  قيلولة، وقيل لأنه يكون ساعة القائلة ، وهي وقت الظهيرة ، وقال البعض هي مجرد استراحة تكون حتى دون نوم .

ومما يجب على الصائم أيضا  تجنب تغيير ما خص الله تعالى به الليل من سباب ، والنهار من معاش  حيث يجعل ليل رمضان سهرا عابثا مع البرامج التلفزية  السخيفة ، مع أنه مخصص للقيام أوله وآخره ، و يجعل نهاره سباتا أو مواصلة للهو بعد أن يصحو منه. ويجدر بالصائم أن يخلد إلى النوم بعد قيام أول الليل ليفيق عند حلول قيام آخره ، ويكون بذلك قد أخذ بقسط من الراحة في نومه .

ومما يجب على الصائم أيضا الاقتصاد والاعتدال في إنفاقه وفي أكله وشربه ،ويكون ذلك قواما بين الإسراف والتقتير ، وبين المخمصة والتخمة .

ومما ينصح به أهل الخبرة بالطب تجنب الرياضة المجهدة للبدن قبيل الإفطار كما درج على ذلك كثير من الصائمين ، وقالوا بأنه لا بأس بما لا إجهاد فيه للبدن  من الرياضة على ألا يكون ذلك على حساب فرض فرضه الله تعالى كالصلوات المكتوبة في وقتها  أو على حساب واجب أو عمل مدفوع الأجر .

ومما يجب أن يكثر منه الصائم الإنفاق في سبيل الله والذي يجب أن يشمل من يستحق ذلك وما أكثرهم في ظرف هذه الجائحة حيث انضاف إلى المحاويج المعتادين ، أصناف أخرى  من الناس تقطعت بهم سبل طلب العيش بسبب الحجر ، وهم أولى بالمساعدة ممن يحترفون التسول، والأولى بالإتفاق  ذوو القربى والجيرة ثم الذين يلونهم .   

هذه وقفة خفيفة مع كيف يكون يوم الصائم نهاره وليله ، فإذا ما وفقه الله تعالى إلى ذلك حاز جائزة شهر الصيام، وهي مغفرة ما تقدم من ذنب، وعتق من النار إن شاء الله تعالى .

اللهم تقبل صيام وقيام وإنفاق الجميع ، آمين والحمد لله رب العالمين .

وسوم: العدد 924