الحلقة الثانية من أحاديث رمضان : (( وأن أتلو القرآن ))

من المعلوم أن الله عز وجل لما خلق الإنسان ليبتليه في الحياة الدنيا ويجازيه على ذلك في الآخرة لم يهمله خلال فترة ابتلائه بل تعهده بالتوجيه من خلال إرسال رسل اجتباهم وعهد إليه تبليغ توجيهه الذي ضمنه رسالات منزلة  من عنده . ولقد توالت رسالاته حتى ختمت بالرسالة الخاتمة التي تميزت عن سابقاتها بأنها موجهة إلى العالمين فكانت بذلك رسالة عالمية . وبحكم عالميتها وخاتميتها فإنها تضمنت التوجيه الإلهي الكامل والتام الذي يحتاجه الناس جميعا إلى نهاية الحياة الدنيا  التي يختبرون فيها استعداد للجزاء في حياة أخرى.

ومعلوم أيضا رسالات الله عز وجل إلى الناس في كل العصور هي  عبارة عن صلة بينه وبينهم بها يعرفونه ويعرفون ما تعبدهم به ، و قوام هذه الصلة اطلاعهم بواسطة قراءة  ما أنزل عليهم وبلغه عنه رسله الكرام صلواته وسلامه عليهم أجمعين .

ومن أجل أن تظل صلة الناس بربهم قائمة على الدوام خلال فترة ابتلائهم في الحياة الدنيا ،أمرهم سبحانه وتعالى بتلاوة الرسالة الخاتمة التي ضمنها كل ما يحتاجونه من حقائق من شأنها أن تجعلهم يخوضون غمار الحياة الدنيا على الوجه الصحيح الذي ارتضاه لهم  . ولقد كلف الله عز وجل خاتم المرسلين سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم بتبليغ رسالته الخاتمة للعالمين عن طريق تلاوتها على من عاصرهم ليتولوا بدورهم تلاوتها على غيرهم جيلا بعد جيل  إلى قيام الساعة وهو ما جاء في قوله تعالى  أمرا رسوله أن يخبر الناس : ((  إنما أمرت أن أعبد رب هذه البلدة الذي حرمها وله كل شيء وأمرت أن أكون من المسلمين وأن أتلو القرآن فمن اهتدى فإنما يهتدي لنفسه ومن ضل فقل إنما أنا من المنذرين)) . ومن خلال هذا النص القرآني يتبين أن تلاوة القرآن الكريم أمر إلهي كأمره سبحانه بعبادته وباعتناق الإسلام ، ومن خلاله أيضا يتبين أن الغاية من الأنر بتلاوة القرآن هو تحقيق  هدف الهداية الدافعة للضلال والواقية منه خلال فترة الابتلاء في الحياة الدنيا. ولقد تكرر الأمر الإلهي إلى رسوله صلى الله عليه وسلم بتلاوة القرآن في نصوص قرآنية أخرى، كما أنه سبحانه وتعالى أمر عموم المؤمنين بالرسالة الخاتمة  بتلاوته لتحصل لهم بذلك الهداية المرجوة . ويفهم من قوله تعالى بعد الأمر بتلاوة القرآن الكريم (( فمن اهتدي فإنما يهتدي لنفسه ومن ضل فقل إنما أنا من المنذرين)) أن هذا القرآن  دال على الهداية ومنذر من الضلال أو منقذ  منه  ويحصل ذلك عن طريق تلاوته  . والهداية الحاصلة من هذه التلاوة تتوقف على  مدى استيعاب  من يتلوها ما تتضمنه من توجيه ، وهي بذلك حجة عليه لأن الهداية حاصلة بها لا محالة . ومن لم تحصل له  هذه الهداية بها ،فإنه لا عذر له و يتحمل مسؤولية ضلاله .

ومن رحمة الله عز وجل بالناس أن جعل تلاوة القرآن الكريم يوميا في صلوات خمس فرضها عليهم ثم جعل أيضا شهر الصيام فترة تلاوة من خلال صلاة القيام في لياليه حيث يتلى القرآن كله ليكون ذلك مناسبة يعرض الناس فيها أنفسهم عليه لمعرفة ما حصلوه من الهداية المتضمنة فيه .

ومعلوم أن الأمر الإلهي بتلاوة القرآن الكريم موجه إلى كل إنسان  مهما كان ،وهي تلاوة يتلوها الإنسان  على نفسه كما أنه قد يتلوها على غيره . وتلاوة القرآن الكريم  في صلاة القيام أو التراويح  سواء أديت في جماعة أم أداها كل فرد وحده، يتحقق بها  الهدف المقصود وهو الهداية ، ويكون ذلك حجة على الجماعة وعلى الفرد  على حد سواء .

وإذا ما تلي القرآن الكريم على الناس طيلة شهر الصيام، ولم تتحقق لديهم الهداية المرجوة من تلاوته، فإن ذلك يدل على أنهم  لم يستوعبوا ولم يفقهوا جوهر التلاوة التي أمرهم  بها الله عز وجل . ويقتضي الأمر ممن استوعب هذا الأمر الإلهي أن  يتغير حاله الذي كان عليه قبل شهر الصيام، فيصير مهتديا هداية تبعده عن سبل الضلال .  ومعلوم أن حجم الهداية يكون على قدرحجم الاستيعاب خلال فعل التلاوة . وما أغرى الله تعالى الناس بكثرة ثواب التلاوة بحيث يحصلون بنطق الحرف الواحد من القرآن الكريم  على عشر حسنات كما جاء في حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي يقول فيه : " من قرأ حرفا من كتاب الله فله به حسنة والحسنة بعشر أمثالها لا أقول ألف لام ميم حرف ولكن ألف حرف ولام حرف وميم حرف " إلا ليقبلوا عليها ،فتتحقق لهم الهداية المرجوة منها .

وقد لا تكون تلاوة القرآن الكريم من طرف الغير أجدى للإنسان من تلاوته على نفسه ، وقد دل على ذلك ما رواه الصحابي الجليل عبد الله بن مسعود رضي الله عنهم  عن رسول الله صلى الله عليه وسلم حيث قال : "  قال لي النبي صلى الله عليه وسلم اقرأ عليّ ، قلت يار سول الله آقرأ وعليك أنزل ؟ قال : نعم  فقرأت سورة النساء حتى أتيت إلى هذه الآية : (( فكيف إذا جئنا من كل أمة بشهيد وجئنا بك على هؤلاء شهيدا )) قال صلى الله عليه وسلم : حسبك الآن فالتفت إليه فإذا عيناه تذرفان "   ففي هذا الحديث ما يدل على أن سماع القرآن الكريم يتلى من الغير قد يحدث من التأثير في نفس السامع  ما لا تحدثه تلاوته على نفسه لأنه يكون أكثر تركيزا وهو يسمعه من غيره . وقد أعطى رسول الله صلى الله عليه وسلم مثالا لما يجب أن يحصل لسامع القرآن الكريم وهو يتلى عليه من خلال ما حصل له من تأثر نتيجة التفاعل معه حتى ذرفت عيناه وهو ينصت إلى تلاوة الصحابي الجليل، ويكون بذلك قد سن لأمته سنة التأثر والتفاعل مع مضمون القرآن الكريم وهو يتلى ، وهو ما يؤكده قول الله تعالى : (( وإذا قرىء القرآن فاستمعوا له وانصتوا لعلكم ترحمون )) ، ولقد دل الأمر الإلهي بالإنصات بعد أمره سبحانه بالاستماع على حسن الاستماع الذي يكون بالتركيز والتدبر ليحصل الاستيعاب الجيد لمضامينه ، والله تعالى يتولى قدح ما يريد في نفس المنصت من هداية رحمة به وهي أكبر نعمة ينعن بها عليه .

والذي يحس بهذه النعمة هو من  يحصل له ما حصل لرسول الله صلى الله عليه وسلم وهو ينصت إلى تلاوة الصحابي الجليل عبد الله بن مسعود رضي الله عنه لأن ذرف عينيه للدموع عليه الصلاة والسلام دليل على تلك النعمة المتمثلة في رحمة الله عز وجل . ولا تتوقف رحمته سبحانه عند  مجرد التفاعل العاطفي  مع كلامه بل تتعدى ذلك إلى التخلق به على غرار تخلق رسول الله صلى الله عليه وسلم به بشهادة رب العزة القائل في محكم التنزيل : (( وإنك لعلى خلق عظيم )) ودل تفسير هذه الآية الكريمة من طرف أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها أن هذا الخلق العظيم إنما هو القرآن العظيم بما فيه من سمو الأخلاق في كل الأحوال التي يكون عليه الإنسان في حياته .

ويجدر بالمؤمنين وقد بلغهم الله تعالى شهر الصيام والقرآن أن يستجيب لأمر الله تعالى بتلاوة القرآن الذي أمر به رسوله صلى الله عليه وسلم ، ومن خلاله أمر كل أفراد أمته طلبا للهداية التي جعلها سبحانه وتعالى فيه . وشهر الصيام فرصة ثمينة للاستفادة من عرض إلهي سخي يكون مرة كل سنة من أجل التعرض لنعمة الهداية والناس صيام وهم بذلك في أوج استعدادهم لتلقي القرآن الكريم وقد انصرفوا عن الشهوات وارتقوا بذلك في درجات السمو الروحي الذي هو أفضل الظروف لتلقيه والتفاعل معه واستيعابه .

وإذا كان ظرف الجائحة الحالي لم يسمح بسماع القرآن الكريم من المقرئين كما كان الحال في الظروف العادية ، فعلى المؤمنين أن يعوضوا ذلك بتلاوته ،عسى تلاوتهم في خلواتهم أن تصل بهم إلى مثل ما يصلون إليه من خشوع وتدبر وتفاعل وهم ينصتون إلى المقرئين من ذوي الأصوات الحسنة المعبرة عن مقاصده .

وفي الأخير نسأل المولى جلت قدرته أن يكرمنا بالرحمة التي جعلها في الاستماع والانصات إلى كتابه الكريم حين نتلوه أو يتلى علينا .

والحمد لله الذي تتم بنعمته الصالحات، وصلى الله وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين .

وسوم: العدد 926