التربية الروحية أولا وثانيا وأخيرا
جمال زواري أحمد ـ الجزائر
إن مشروع الحركة الإسلامية المعاصرة بالتصور الذي جاء به الإمام البنا رحمه الله، والذي حدّد له خارطة طريق دقيقة وواضحة وعميقة وشاملة، تقوم على إصلاح الفرد فالأسرة فالمجتمع فالحكومة فالخلافة فأستاذية العالم، فكانت البداية بالفرد لأنه هو جوهر كل عملية تغييرية، كما حدّد الإمام عشارية جميلة كمراتب عمل لإصلاح الفرد المنشود، كي يكون : سليم العقيدة، صحيح العبادة، متين الخلق، مثقف الفكر، قوي الجسم، قادرا على الكسب، مجاهدا لنفسه، حريصا على وقته، منظما في شؤونه، نافعا لغيره، فشملت تقريبا كل أنواع التربية اللازمة التي يحتاجها الفرد المسلم، من تربية روحية وأخلاقية وعلمية وحركية واجتماعية وسياسية واقتصادية وجهادية وبدنية وهكذا .
ورغم الأهمية القصوى لكل هذه الأنواع من التربية، فإن منطلقها والبداية الصحيحة لها هي تربية الروح، ليبنى الفرد على أساس وثيق، إذ لابد من حدوث الولادة الثانية أولا كي تستقيم أمور الفرد بعد ذلك ولينطلق بشكل سليم في ميادين العمل الدعوي والحركي المختلفة، هذه الولادة التي عبّر عنها السيد المسيح عليه السلام بقوله لحوارييه :( إنكم لن تلجوا ملكوت السماء حتى تولدوا مرّتين)، والتي شرحها ابن القيم رحمه الله بقوله :( فإن من لم تولد روحه وقلبه، ويخرج من مشيمة نفسه ويتخلّص من ظلمات طبعه وهواه وإرادته، فهو كالجنين في بطن أمه، الذي لم ير الدنيا وما فيها، فهكذا هو الذي بعد في مشيمة النفس والظلمات الثلاث هي : ظلمة النفس وظلمة الطبع وظلمة الهوى، فلا بد من الولادة مرّتين).
فإن إصلاح السرائر ورعايتها بشكل دائم، يؤدي إلى تنمية وتربية وتقوية عنصر اليقين في نفوس الأفراد، وهو الفيصل بيننا وبين جيل الصحابة رضوان الله عليهم، كما جاء في الأثر :(أنهم (أي الصحابة) لم يسبقوكم بكثرة صلاة وصيام، وإنما بشيء وقر في قلوبهم)، ولا يصلح آخر هذه الأمة إلا بما صلح به أولها، فكلما ضعف اليقين في القلوب، كلما ارتفع منسوب الأمراض الروحية والتربوية وحتى الأخلاقية والحركية والتنظيمية، وكلما انخفض منسوب الشعور بالتبعة والمسؤولية، وانتشرت اللامبالاة وغياب الحرقة والغيرة على الإسلام وعلى حرمات المسلمين .
وكلما صلحت السرائر وقوي ما وقر في القلوب، انتقلت أشعتها وأثارها الطيبة إلى من حولها، كما قال ابن الجوزي رحمه الله :(فمن صلحت سريرته، فاح عبير فضله وعبقت القلوب بنشر طيبه، فالله الله في السرائر، فإنه ما ينفع مع فسادها صلاح ظاهر).
وكذلك فإن التزام ما يصلح السريرة ويقوي الإيمان، من شأنه أن يحفظ المسيرة ويساعد على الفهم السليم للأمور، كما قال أحد السلف :(ما فتح الله تعالى على عبد حالة سنيـــة إلا ب :إتبـــاع الأوامــــر وإخلاص الطاعات ولزوم المحاريب).
كما أن قوّة الجانب الروحي لدى الفرد وتتالي فيوضاته عليه، يجعله يقظا بشكل شبه دائم، فتتحول بذلك حتى عاداته إلى عبادات في ميزان الله عز وجل، على عكس الغافل فإنه حتى عباداته تتحول إلى عادات لا ينال من ورائها شيئا لأنها لا روح فيها، كما قال أحد السلف :(عادات أهل اليقظة عبادات، وعبادات أهل الغفلة عادات).
ومن ثمّ يكون جهاز الحساسية من التقصير في حق الله وفي حق الإسلام وفي حق الأمة وفي حق الدعوة يعمل بشكل سليم وذاتي التشغيل ومبرمج على سرعة الإنذار وإصدار الأصوات وإشعال الأضواء، كلما استشعر تقصيرا أو فتورا أو بداية انحراف، لأن تبلّد الإحساس عند التقصير أول منازل الانحدار الروحي والإيماني والأخلاقي والتربوي والحركي، ولا يصاب الفرد بمرض تبلد الإحساس هذا إلا إذا اشتد لديه الجفاف الروحي، وتراكمت عنده مسبباته، وتصحّرت أراضي قلبه وروحه، فتوقفت بذلك أمداده، وغابت أوراده، وانطفأت أنواره، فيكون عند ذلك على مشارف الهلكة والعياذ بالله، إن لم يستدرك نفسه ويسارع بربط روحه من جديد بخالقها، ويسلم الأمر إليه سبحانه، وينخرط في قوافل الأوابين المتضرعين، ويدخل على مولاه من باب الذل والانكسار والاعتراف بالتقصير، ليأخذ صك النجاة، ويأخذ بيده ليضعه على سكة أهل الرضا مجددا، كما قال ابن القيم رحمه الله :( دخلت على الله من أبواب الطاعات كلها، فما دخلت من باب إلا رأيت عليه الزحام، فلم أتمكّن من الدخول، حتى جئت باب الذل والافتقار فإذا هو أقرب باب إليه وأوسعه ولا مزاحم فيه ولا معوق، فما هو إلا أن وضعت قدمي في عتبته، فإذا هو سبحانه قد أخذ بيدي وأدخلني عليه).
كذلك فإن التزام التربية الروحية وأخذ الحظ الوافر منها، وتعميم ذلك على كل أبناء الحركة الإسلامية وقادتها، وكذا توسيع دوائر تداولها على كل المستويات الهيكلية والتنظيمية، هو مرجح مهم إن لم يكن الأهم على الإطلاق في موازين الصراع والتدافع بين الحق والباطل، لأنه عند تساوي الحال وغياب التميز الإيماني والروحي بين المعسكرين، ستكون الغلبة حتما للأكثر عتادا وعدّة وإمكانيات، وبما أن الحركة الإسلامية هي الأضعف في هذا الجانب، إذا بالضرورة سيكون نصيبها الهزيمة والفشل، فلا خيار لديها إلا تقوية الجانب الروحي لدى أفرادها، وتعميق عناصر الإيمان لديهم كذلك، لتضمن بذلك المعية الإلهية الخاصة، ومن ثمّ ضمان النصر وإن قلّ الناصر وتواضعت الوسائل والإمكانيات، كما قال الراشد في مساره :( كلّما شاعت الأخلاق الإيمانية الفاضلة بيننا وزادت نسبة صفاء القلب وكثر الاستغفار وتوالت التوبة، كانت خطّتنا أقرب إلى النصر في التصور الإسلامي، وأجدر بالوصول إلى غايتها).
نقول هذا الكلام ونؤكد عليه ونذكّر به، لأننا بدأنا نسمع نغمة ــ للأسف الشديد ــ لدى بعض أبناء الحركة الإسلامية، خاصة بعد توغلها في العمل السياسي والاقتصادي، مستهترة بالروحانيات والإيمانيات، ومقلّلة من أهميتها في الساحة الإسلامية، ومنبهرة أكثر من اللزوم بالوسائل الحديثة على حساب رأس مالها، ووالله فإن الخسارة لفادحة حقا لمن حرم حظه من غذاء الروح هذا وإن بلغ من الهالة والشهرة ما بلغ، لأن الميزان يوم يقوم الأشهاد غير الميزان، والتزكية والتوثيق والتقديم والتأخير والتصدّر غير التي نراها في هذه الدنيا، يقول الإمام ابن عقيل:(تدري كم في الجريدة أقوام لا يؤبه لهم إلا عند القيام من القبور، وكم يفتضح غدا من أرباب الأسماء من الخلق بعالم وصالح وزاهد، نعوذ بالله من طفيلي تصدر بالوقاحة ).
وقد سمعنا من يتهم إخوانه المهتمين بهذا الجانب(الروحانيات) بالدروشة، وقد لا م بعض أسلاف هؤلاء الإمام الشافعي رحمه الله عن جلوسه المتكرر بين يدي شيبان الراعي رحمه الله كما يقعد الصبي في المكتب، ويسأله : كيف يفعل كذا وكذا، فيقولون له : مثلك يجلس يسأل هذا البدوي ؟، فينهرهم قائلا : إن هذا وفق لما أغفلناه).
فما أحوج الحركة الإسلامية المعاصرة إلى آلاف من أمثال شيبان هذا، ليجلس بين يديه قادتها وأبناؤها لتصفية أرواحهم، وتطهير قلوبهم، وتقوية إيمانهم، وتنقية أجوائهم الفردية والجماعية، ويصحح لهم بوصلتهم، ويرتب لهم أولوياتهم التي تشوشت، بفعل ما تتعرض له يوميا من صوارف وجواذب ومغريات.