تفسير سورة عبس(3)

العلامة محمود مشّوح

تفسير سورة عبس

( 3 ـ 3 )

الجمعة 21 ربيع الأول 1397 / 11 آذار 1977

العلامة محمود مشّوح

 (أبو طريف)

       إن الله مع الذين اتقوا والذين هم محسنون .. أما بعد فيا أيها الإخوة المؤمنون :

       فلقد كان منظوراً أن نأخذ في الحديث عن سور أخرى غير السورة التي أنفقنا معها حديثين من قبل ، ولقد كنت على هذه النية إلى ما قبل قليل ، ولكني في آخر وقت رأيت أن أعود إلى السورة الماضية مرة أخرى من أجل تجلية بعض الأمور التي لا غنى للمسلم عن التعرف إليها .

       ولست أريد أن أعود إلى هيكل السورة فذلك شيء فرغنا منه بعون الله تعالى ، وحسبنا أن نستذكر عبرة الدرس الكبير الذي يخرج به قارئ هذه السورة وهو يحاول أن يتعرف على ملامحها . والعبرة كلها تتلخص إن شاء الله تعالى في أن طريق الإسلام له خصائصه الخاصة به ، والمرتبطة به ، والتي لا يجوز إخضاعها لعوامل الزمان والمكان ، فثمة أمور لا تقع تحت سيطرة الزمان ولا المكان .

       ونذكر بالأساس الذي يقوم عليه الإسلام ، وهو أنه جاء ليغيّر من بناء الإنسان وليرفع من سويته ، فهو من أجل هذا لا يساير التيار البشري ، ولا يمضي مع الرغبات الإنسانية ، وإنما يقف بإصرار وقوة على الضد من رغبات الإنسان ومن شهواته ، ومن كل المقتضيات التي يشعر الإنسان أنها لازمة له ، ولو كان أمر الإسلام ينتهي عند حدود إزالة بعض الخلل الذي يقع تحت المنظور الإنساني والذي تتناوله وسائل القياس والرصد والضبط ، لكان ممكناً أن يساير الإسلام ركب الإنسانية ، ويعدد من هنا ومن هناك ويقوم شيء من هذا الجانب وشيء من ذلك الجانب ، ولكن الإسلام صنعة العليم الحكيم الله الذي لا إله إلا هو العالم بما يصلح الإنسان وبما تستقيم عليه هذا الإسلام .

       فمن هنا كانت نظرات الإسلام أبعد من مقاييس البشر وأشمل من نظرات البشر وأكثر دقة وإحاطة من قدرات البشر ، ومن هنا أيضاً يأخذ الإسلام المبرر الكامل والمشروع حينما يطالب الناس بالطاعة المطلقة التي لا مثنوية فيها ولا وجهة . إنه طالما أن هذا الإسلام منزل من عند الله وما دمنا نحن المسلمين نؤمن أن الله عالم وفوق كل عالم ، وما دمنا نؤمن أن الله لا يريد لعباده إلا الخير واليسرى والمرحمة فإنه لا معنى مع هذا الإيمان من إكثار التساؤلات حول المناهج والأساليب التي طلب الإسلام من الإنسان أن يتبناها وأن يأخذ بها نفسه .

       من هنا كان الرد على موقف النبي صلى الله عليه وسلم من حرصه على أن يؤمن له رؤوس المجتمع وزعماء المشركين رداً حاسماً وتنبيهاً قوياً إلى أن للإسلام طريقاً غير هذا ، هو طريق الدعوة العامة وبذل هذا الخير للناس كافة ولا معنى لأن يختص في هذا أحد دون أحد ، ولا معنى لأن تختص بهذا أمة دون أمة، لأن الإسلام لكل أحد وللناس كافة ، وحين يقال هذا الكلام فقد يخطر في بال البعض ظنون وأوهام . ولماذا ؟ إذا غلب على الظن أننا يمكن أن نحقق نجاحاً مأمولاً ومرجواً باتباع طريق ما . لماذا ؟ نعرض عنه نقول تلك أولاً إرادة الله وتوجيه القرآن . هذا الإسلام ماذا يريد ؟ أيريد منك أيها الإنسان المسلم أو أيها الإنسان الجاهلي أيريد منك أن تبقى على ما أنت عليه وفقط ؟ أن تحدث بعض التغيرات ؟ أن تزيل بعض الملامح من واقعك ؟ ثم يكتفي منك بهذا ؟ لو كان كذلك لكان الخطب يسيراً وكانت المهمة هينة وكان النفوذ إليها من خلال الأساليب البشرية مقبولاً ومشروعاً ، ولكن مراد الإسلام أكبر من هذا ولم يكن ميسوراً حين نزول السورة ، على اعتبار أن الجانب الأعظم من الإسلام لمّا يتكشف للناس بعد،  وعلى اعتبار أن ظهور القرآن لمّا يتنزل بعد، لكنه الآن أضحى ميسوراً بعد تكامل الإنزال ، وبعد بروز المعالم الكاملة لهذا الإسلام ، لو وضعنا الصورة المجملة لهذا الإسلام لوجدنا أن أمر الإسلام يختلف عن أي أمر آخر وهو خاص ، إنه من الممكن أن تكتفي منك منظمتك وحزبك وعشيرتك ونقابتك وبلدتك بشيء معين من الولاء لا بأس عليه ، يكفيك أن تحضر اجتماعاً وأن تردد شعارك وأن تتلقى دروساًًًًًًًًًًًًًًًً، ًفإذا كانت بعد ذلك من إحداث الفجور والفسق فذلك شأنك الخاص ، وإذا ذهبتَ تسلب وتنهب فذلك شأنك الخاص ، أمورك الخاصة لا علاقة للناس بها.  

       لكن أمرك مع الإسلام يختلف ، أنت في مواجهة الحساب وتحت الرقابة في الصغير والكبير من أمرك عموماً ، وأنت موقوف بين يدي الله جل وعلا ، ثم أنت مسؤول حتى عمّا فرط منك مما لا تأبه به ومما لا تلقي له بالاً وتظنه أمراً ليناً ، أنت مطالب بتقديم الحساب عنه ، وأنت مأخوذ به ، إن الرسول عليه الصلاة والسلام يقول : إن الرجل ليتحدث بالكلمة من سخط الله جل وعلا لا يلقي لها بالاًَ ـ كلمة بدون أن يلقي لها الإنسان بالاً بدون أن يكترث بها لا يظن أنها تبلغ ما بلغت ـ يهوي بها في النار سبعين خريفاً .

       فموضوع الإسلام يهدف إلى إعادة صياغة الشخصية الإنسانية من جديد بدئاً من التطورات والأفكار والمعتقدات ، ومروراً بالسلوك الشخصي والأخلاق الخاصة ، وانتهاءً بالمظاهر العليا المتقدمة للحياة الاجتماعية البشرية ممثلة في الأخلاق العامة ، في المسالك العامة ، في المؤسسات المجتمعية الكبرى ، انتهاءً بالأهداف العريضة والنهائية التي يسعى إليها الإنسان المسلم والمجتمع المسلم ، حين يكون الإسلام في هذه المفادة فنحن إذاً لكي نحمل هذا الإسلام محتاجون إلى نوعيات من طراز خاص ليس كل أحد يصلح لأن يكون رجلاً من رجال الإسلام،  وأشارط لأفرق بين لونين من الناس يجب أن نفرق بينهما ، نحن الآن نقرأ هذه السورة سورة عبس وهي الثالثة والعشرون في سياق التنزيل ، وهي مما نزل قديماً أي منذ بواكير الدعوة ، إذاً فهذه السورة تنتمي من حيث الزمن إلى تلك الفترة التي كان الله وكان محمد عليه الصلاة والسلام يُعدّان فيها الجيل الرائد بالنسبة للبشرية ، الجيل الذي يُهيَأ ويُعدّ ليقود القافلة الإنسانية بسلام وبطمأنينة وبمنتهى الشرف والاستقامة .

       ذلك الجيل يحتاج إلى جهود خاصة ويحتاج إلى تربية خاصة ، هذا لا يعني أننا لا نعترف على فوارق المستويات بين الناس ، فلا شك أن من الناس من هو قادر على الصبر والاحتمال ، ومنهم من هو بين بين ، ومنهم من يتضعضع وينتكس عند أول صدمة ، هذا شيء لا مجال للفرار من الإقرار به ، لكننا في المراحل الحرجة في المراحل الحاسمة نحتاج إلى تربية رواد ، إنه يجول في بال الناس عموماً وعلى وجه التقريب أن النماذج التي صنعها محمد عليه الصلاة والسلام من أمثال أبي بكر وعمر وعثمان وعلي وطلحة وخالد وأبي عبيدة وسالم وما أشبه ذلك نماذج غير قابلة للتكرار ، إنها صُنعت في معهد الوحي ، ولذلك من الخيبة أن يأمل الإنسان أن تتكرر مثل هذه النماذج .

       نقول ليس عزيزاً على الله هذا ، ولكن ليست المسألة هنا ، المسألة ليست أن نتساءل : هل يمكن أن يعاد جيل أبي بكر وأضرابه وأشباهه ؟ ألا يمكن أن نتساءل : لماذا وُجد جيل أبي بكر وأمثاله في ذلك الوقت ؟ الجواب على ذلك أن تلك مرحلة لها خصوصيتها في سياق التاريخي كله ، فهي بحاجة نظر إلى درجة التبني والإسحار والهبوط التي كانت عليها البشرية بحاجة إلى نوعيات من هذا القبيل تعم وترتفع حتى يخيل للرائي أو للناظر أن هذا الإنسان يعيش بشخصين بين الناس ، ولكنه بهمته وبتطلعاته وبآماله يعيش مع الملائكة ، ليست المسألة إذاً قياس قدرة ممكن أن تتكرر أو لا ، ولكن نتسائل : لماذا وجدت هذه النماذج وهل تمت من حالة في المستقبل ومع الزمن إلى أن تبذل الجهود وأن تقدم العناية لتتكرر التجارب ويعاد الجيل ذاته ، المسألة هنا ، من واقع السورة وهذا شيء للأسف قفزته وأنا أستعرض لكم السورة في الحديثين الماضيين .

       من واقع السورة يقول الله تعالى حينما يرد على الرسول صلى الله عليه وسلم حين يريد أن يهتدي زعماء مكة ورؤوس الكفر ، يقول له ( كلا ) أي ليس الطريق من هنا ، فكلمة ( كلا ) كالإشارة الضوئية التي تشير إلى أن هذا الطريق ممنوع ومسدود . إذاً ماذا بعد ( كلا ) ؟ ( إنها تذكرة ) أي أن هذه الرسالة هذه السورة هذه الكلمات والتوجيهات المبثوثة في القرآن تذكر ، توقظ ، تنبه ( فمن شاء ذكره ) وليست القضية التي أريدها في هاتين الآيتين ، ولكن أين ؟ ( بأيدي سفرة ، كرام بررة ) وأنا في الحقيقة آسف لأنني مضطر في الآن بعد الآن إلى أن أقف بكم وقفات أعرف أن كثيراً من الناس لا تطيقها قواهم ، ولكننا مؤتمنون على الكتاب الذي أنزل على محمد صلى الله عليه وسلم ، هذا واحد .

       والشيء الثاني أن ما كان متيسّراً زمن الإنزال من وسائل الفهم والإدراك لم يعد الآن متيسراً ، فأنتم تدرون أن هذا القرآن نزل بلسان العرب وعلى عادتهم في التخاطب ، مستعملاً ذات الكلام الذي كانوا يتداولونه فيما بينهم في حياتهم العامة والخاصة . الواحد منهم كان يعرف ماذا يريد القائل بكلمة كذا أو كذا دون حاجة إلى رجوع إلى القواميس والمعاجم ودون حاجة إلـى كد الذهن وإعمال العقل . أما نحن الآن فقد استعجمت ألسنتنا وبعدنا عن ذوق اللسان العربي الذي نزل به القرآن ، وأصبحنا لا نحس هذه الإشارات وهذه الإشعاعات التي تحمله الكلمات المفردة أو التراكيب القصيرة الواردة في القرآن الكريم .

       حينما كان العربي يواجَه بهاتين الآيتين ( بأيدي سفرة ، كرام بررة ) كان يدرك للتوّ ماذا تعني هذه الكلمة ، كلمة واحد أريد أن أقف عندها بعض الشيء ، هي كلمة ( السفرة ) من هـم ؟ هم الملائكة . الآيتان تعرضتا لبيان شيئين ، الأول : هو جنس الوسيلة التي وصلنا بها القرآن والتي أُهلت لحمل هذه الكلمات المباركات . والشيء الثاني : خصيصة هذه الرسالة ووصف هذه الرسالة ومزيتها الأولى والأخيرة . قبل كل شيء أُذكّر ، حينما تريد أن ترسل إلى أحد شيئاً ما رسولاً لقضاء حاجة من الحاجات ، رسولك هذا تحدده أهمية الشخص الذي ترسله إليه ، إذا كان الإنسان عادياً فأنت ترسل ابنك الصغير أو أي إنسان تعطيه بطاقة وتقول له : أعطها إلى فلان . لكنه حينما يكون ذا أهمية وذا مركز وامتياز ، فأنت تتحرج من أن ترسل إليه ولداً صغيراً ، أنت إذاً تكرّم المرسل إليه . أيضاً حينما تريد أن ترسل إليه شيئاً هيناً فأي إنسان يمكن أن يوصل هذا الشيء من قبلك ، ولكنك إذا أردتَ أن تبعث إليه بشيء نفيس وثمين وذي قيمة فأنت تدقق وتعتني باختيار الرسول ، فإذاً المسألة كما ترون ذات جانبين ، جانب ينظر إلى المرسل وينظر إلى المرسل إليه ، وجانب ينظر إلى ذات الشيء المرسل . ومن هنا يأخذ الشيء المرسل أهميته أو عدم أهميته .

       هذا الإسلام أُرسل إلى الناس ، من الذي أرسله ؟ الله . أرجو أن تنتبهوا إلى هذه القضايا التي ربما لا يعلق عليها أحد ، أو ربما لا يصل في تفكيره إلى حدودها . إن الرسالة مرسلة إلى الناس ، ابتداءً ، ما قيمة البشر بالنسبة إلى الله تعالى ؟ لا شيء ، هذا أمر طبيعي . ولكن التقدير والتكريم يعود إلى الله تعالى ، فحين يريد الله تعالى أن يكرّم وأن يميّز وأن يقدّر فذلك إليه ولا معقّب لحكمه وهو العلي الكبير . الله تعالى اختار مكة من بين بقاع الأرض وخصها بالمزايا ليست لغيره من البقاع والأماكن . من حيث الوصف الأساسي فهي كغيرها من البلاد ، التراب والحجارة كغيرها من البلاد ، ولكن الله تعالى اختص مكة بشيء لم يختص به بلداً آخر في الدنيا .

       واختار من مكة هذه البقعة الصغيرة التي أُقيم عليها البيت المعظم ، فكان لها من المزية والاعتبار ما ليس لبقعة على الأرض وما ليس لمسجد بُني على وجه الأرض ، حتى مســجد المدينة ، حتى مثوى جسد النبي صلى الله عليه وسلم . هل هناك من يعقب على حكم الله وإرادته ؟ أبداً . الناس من حيث الخلقة ومن حيث التركيب سواسية زيد كعمرو ، وعمرو كبكر ، وبكر كخالد ، وهكذا ، كلهم يمشون على قدمين ولهم يدان ورأس وعينان وما أشبه ذلك . ولكن الله تعالى اختص من هؤلاء البشر أُناساً معينين ، أكرمهم بالرسالة وكلفهم بإبلاغ الرسالة للناس . وحينما سفاهات البعض تستنكر هذا الاختصاص قال الله تعالى ( الله أعلم حيث يجعل رسالته ) وقال تعالى ( يخلق ما يشاء ويختار ما كان لهم الخيرة ) فالاختصاص والتكريم من الله ، وإن يكن جنس الإنسان حين يقارن بمجرده مع الله تعالى هيناً أو لا شيء ، فإن الله تعالى حين يختار الملائكة المقربين ويصفهم بأنهم ( كرام بررة ) ليحملوا إلى الناس هذه الرسالة فتلك إشارة تكريم لجنس هذا المخلوق ، إشارة تكريم وإعزاز لكي لا تهون نظرة الإنسان إلى نفسه ، ولكي لا يُزل الإنسان نفسه ، ولكي لا يحتقر الإنسان هذا الجنس البشري ، ولكي لا يسقط الإنسان في الضيعة والانحرافات والعقد التي يرزح تحتها كثير من هؤلاء الذين فقدوا شرف الغاية التي وُجد من أجله جنس هذا المخلوق .

       فإذاً حمل الرسالة الإسلامية إلى الناس بواسطة الملائكة الكرام البررة تكريم لهذا الإنسان ، والرسول عليه الصلاة والسلام يقول : لا ينبغي للمؤمن أن يُذل نفسه . وعمر رضي الله عنه دخل المسجد فوجد إنساناً يتماوت في الصلاة ظناً منه أن هذا من الخشوع والتقى فخفقه بالدرة وقال له : لا تُمت علينا ديننا أماتك الله . ذلك أن عمر كان يعلم أن هذا الدين شيء يُذهب الخسيسة وشيء يرفع الرأس وشيء يزيد في قيمة الإنسان . فعلى الناس جميعاً أن يفخروا بهذا الدين الذي جاءهم ، لأن الله تعالى اختار لإيصاله إليهم صفوة خلقه وهم الملائكة المقربون . هذا ما يتعلق في المرسل إليه .

       وأما الشيء المرسل فمعروف ، وأما واسطة الإرسال فالله تعالى ما قال : أنزلنا هذا الكتاب مع جبريل ولم يقتصر على ذكر الملائكة وإنما جاء بالوصف مطلقاً وبوصف خاص كان العرب يفهمونه طبعاً ، ونحن الآن محتاجون إلـى فهمه ، قال ( بأيدي سفرة ) والسفرة طبعاً هم الملائكة الكرام الكاتبون ، فما معنى السفرة ؟ نحن نسمع هذه الكلمة وقد يكون في عقولنا الضد وقد لا يكون ، فتعالوا نرجع إلى مفهومات العرب حينما كانت تتخاطب بهذا الكلام ، وللأسف نحن الآن مضطرون إلى أن نستشير المعاجم والقواميس .

       نقول : سفر الفجر وأسفر ، وسفرت المرأة عن وجهها إذا كشفت ، فهذه المادة المؤلفة من السين والفاء والراء تحمل في أساسها في جذرها اللغوي معنى الكشف والانكشاف ، لكننا أيضاً محتاجون إلى أن نشير أكثر ، محتاجون إلى أن نعرف معنى السفر أيضاً ، فمن معاني السفر تنظيف المكان ، تقول : سفرت المكان إذا كنسته وأزلت عنه السفير ، والسفير ليس كما تتوهمون بقايا الحنطة أو الشعير من سوقها ، السفير هو التراب وما في معناه من الأوساخ والأقذار التي تكون في البيت ، أصبح عندنا الآن معنيان لهذه المادة ، الكشف أو الانكشاف أو هما معاً ، أو التنظيف والتنقية . والسفارة تقول بعثت فلاناً سفيراً في مسألة كذا ، لا يختلط في ذهنكم معنى السفارة بالسفارات الموجودة في الدول ، فهذه مؤسسات تقوم على التجسس وعلى التعرف على أمكنة القوة والضعف في الدول .

       السفارة في اللغة التي نزل بها القرآن تدخل من أجل الإصلاح وإزالة الوحشة ، تقول : بعثت فلاناً سفيراً إلى فلان لكي يصلح بينه ويزيل الوحشة القائمة بينهما . فمادة ( سفر ) كما رأيتم تحمل المعاني الثلاث ، فما علاقة هذه المعاني بالقرآن الذي نزل به هؤلاء الملائكة السفرة الكاتبون ؟ ما هو الشيء الذي يمنحنا أن نستنتجه من هذا اللفظ المفرد ، نحن نستنتج أولاً : أن هذا الإسلام جاء للكشف ، ومن البديهي أن العالم حينما أُرسل محمد عليه الصلاة والسلام كانت تلفه سحابة قاتمة شديدة القتام والسواد من الجهل والضياع والشرود عن الله تعالى والبعد عن مكارم الأخلاق . وحينما جاء الإسلام انشق في وجه الإنسانية فجر لم يكن للناس به عهد ، كانت الفوضى تضرب أطنابها ، وكان الناس لا يفيئون في حياتهم إلى معنى كريم ، ويرحم الله شوقي حينما قال مخاطباً النبي صلى الله عليه وسلم :

       أتيتَ والناس فوضى لا تمرّ بهم       إلا على صنم قد هام في صنمِ

فالناس في الواقع لهم صورة الأناسي ولكن ليست لهم مدارك الإنسان ولا اهتمامات الإنسان ولا تطلعات الإنسان وإنما هم أشبه وأقرب إلى ما يكونون إلى العجماوات أو حتى إلى الجمادات . جاء الإسـلام كاشفاً لهذه الظلمة ، فهو من هذا الباب صبح مسفر منير لأنه كشف عن الحقائق التـي يجب أن يعرفها هذا الإنسان ، هذا واحد .

       الشيء الثاني أن ( سفر ) تعطي معنى التنظيف وإزالة الأوساخ والأدران ، وكذلك هذا الإسلام ، فإن الحياة الشريفة النظيفة المعتدلة لا يمكن أن توجد إلا تحت ظل الإسلام ، إن الإنسانية تتعاجب اليوم ، ومن قبل لم تتعاجب بما وصلت إليه من كشوف ومخترعات ومما توصلت إليه مما ابتدعته من أساليب ومن نظم ، ولما أن تركنا جانب الدعاوى في الموضوع وذهبنا نتعرّف على حقائق الأمور فنحن نجد التاريخ الإنساني ظلمة متراكبة منذ أن بدأ الإنسان يكتب على الطين وإلى الآن ، وثمة فترات مضيئة في التاريخ الإنساني ، ولكن المتتبع للتاريخ يجد أن هذه الفترات هي فترات النبوات وهي التي سادت فيها المعاني الإيمانية .

       فالحياة الإنسانية بلا دين وساخة وقذارة ، وحياة الإنسانية بدون نظافة وطهارة . وكما أن السفرة تنظيف وتطهير ، كذلك هذا الإسلام تنقية وتنظيف وتطهير . ولو كنت نشطاً إلى المقارنات والمقايسات لأخذت بأنظاركم إلى الواقع الذي تعيش فيه البشـرية برغم ما يدّعي المدّعون من استقامة وطهر وشرف وكمال ، وشددت أنظاركم إلى المعايب وإلى المخازي وإلى الانتهاكاك الفظيعة لكل معنى نظيف وشريف التي يرتكب اليوم كما ارتكبت من قبل وكلها ظلم للحياة البشرية التي يدّعي كثير من الناس أنهم يسعون إلى تنقيتها وتنظيفها . هذا الشيء الثاني .

       هو ما تحمله كلمة السفارة ، فالسفارة ليست مجرد رسالة ، أي ليست كل رسالة رسـالة وإنما السفارة لا تكون إلا إذا كانت الرسالة تحمل معنى الإصلاح وإزالة الوحشة بين المتخاصمين ، ولو أنك جئتَ إلى الإسلام بما أعطاه من مناهج ونظم ، بما قدمه إلى الناس من أخلاقيات عالية ، بما قدمه للناس من مثاليات رفيعة ، لعلمتَ يقيناً أن التفاهم البشري كله موقوف على التعرف على معاني الإسلام . إن دعاوى السلام ، وأنا لا أتحدث عن السلام الذي يطنطن به خونة هذه الأمة مما يروج له باسم السلام في الشرق الأوسط ، فالذين يفعلون هذا يخونون الأمة صراحة وجهاراً في أقدس مقدساتها ، لا أتحدث عن هذا ، وإنما أتحدث عن السلام البشري بعامة . هل يمكن بعد كل الجهود التي بذلتها البشرية .. مفكرين وعلماء وساسة واقتصاديين وعلماء اجتماع وخبراء في النفس الإنسانية .. هل يمكن لنا أن نرجو بعد كل الجهود التي بذلها هذا الرعيل الهائل من الناس أن يعمّ السلام وجه الأرض ؟ أبداً ، لا يمكن ، لماذا ؟ لأن الدنيا قائمة اليوم على أساس التحاسد والتباغض والتعالي والتناحر ، ولأنها قائمة على أساس المدعايات التي لا يسندها شيء ولا يبررها شيء ، أمة من الأمم تقول لك : نحن فوق الجميع ، وإذاً فهي صاحبة الحق في الحياة ، وبقية الناس إن عاشوا وإن بقوا فمن تفضل هذه الأمة . كذلك نفس الكلام تقوله الأمة الأخرى . إذاً فنحن في صيغة لا يمكن أن تؤدي إلى سلام وإلى طمأنينة بين الناس ، اختلال في الموازين .. في السياسة في الاقتصاد والاجتماع .. بل حتى في المعنى الإنساني الذي لا يجوز الخلاف عليه ، ما الذي يفرق بيني وبين إنسان آخر يعيش في أدغال أفريقيا عاري البدن على درجة متدنية جداً من الجهل والخرافة والضياع ؟ لا شيء من حيث الجوهر ، لا شيء من المعنى الإنساني ، أنا ربما بكدحي وجهدي رقيت سلالم في درجات الحضارة ، وذاك لم يرتقِ هذه السلالم ، لكنه من حيث التحليل الأخير ، من حيث ختم الحساب هو إنسان وأنا إنسان ، وحتى في المعنى الإنساني الذي لا يجوز التفرق من حوله ولا يجوز الخلاف عليه فإن الإنسانية اليوم تعتمد وسـائل التفريق ، فما معنى التمييز العنصري الذي يعطي الأبيض حق القوامة على الحضارة البشرية ، ويعطي الأبيض حق المسير إلى الأمام في قافلة الدول المتخلفة ، ويعطيه حق تعليمهم وإملاء الأوامر عليهم ، ثم هو يخوله بعد ذلك أن يتصرف في الإمكانات والخيرات المتاحة على وجه الأرض . معنى التمييز العنصري هو هذا .

       فالإسلام لا يرى أن السفارة الناجحة بالنسبة للبشرية يمكن أن تتحقق بمجهودات البشر ، إلا على أساس الإسلام ، وضمن مفاهيم الإسلام ، وفي ظل تعاليم القرآن . حينما نسمع القرآن يتكلم هذا الكلام الموجز ( بأيدي سفرة ) فنحن حينما ندقق في معنى اللفظة المفردة ونحاول أن نتعرف على حكمة إيرادها في هذا المكان فنحن واجدون هذه المعاني الكبيرة تُرد إلى المرسل إليهم وتُرد إلى أوصاف الرسالة التي يحملها كرام كاتبون إلى الناس ، هذه اللفظة بكل إشعاعاتها وما تحدثنا عنه وما لم نتحدث كان الإنسان العربي يدركه لأول وهلة ، لمجرد أن قال ( بأيدي سفرة ) يفهم ماذا تعني كلمة سفرة ، ثم هو يفهم جميع الإشعاعات والمدلولات التي تشير إليها هذه اللفظة المفردة .

       في الحقيقة أيها الإخوة أنا في هذا اليوم لم أكن معنياً ببيان هذا الشيء الذي بيّنته لكم ، كنت معنياً ببيان أمر آخر ، ولكي لا أعود إلى السورة مرة أخرى ، أحب أن أعود إليه الآن ، ومن واقع كلمة ( سفرة ) بالذات .

       قلنا إن السفرة هم الملائكة ، ونظرنا إلى أن الملائكة حينما يُرسلون بالرسالة إنما يعني ذلك تكريماً وتشريفاً للناس وصدق الله تعالى ( وإنه لذكر لك ولقومك ) هذا الدين هذا القرآن . وقلنا إن كلمة ( سفرة ) تعيّن أوصافاً لهذه الرسالة التي جاءت بها الملائكة إلى الرسول صلى الله عليه وسلم ، أنها كاشفة لغياهب الظلمة التي كانت من قبل ، ومخرجة إلى رحابة النور . وقلنا إنها مطهرة لحياة الناس ، ومنقيّة لحياتهم أيضاً ، وقلنا إنها مصلحة ومزيلة للوحشة من بين الناس . بقي أن نعلم أنه حينما نرسل رسولاً بقضية ما فإنه يقتضي أن أختار الرسول القادر على أداء الرسالة ، حين أغفل عن هذه الحقيقة فأنا أغامر بالرسالة بالذات ، هذا المعنى هو الذي يجب أن ننظر إليه الآن بإمعان .

       الملائكة سماهم الله ( سفرة ) وسماهم ( كراماً ) وسماهم ( أقوياء وأمناء ) لماذا ؟ ليشير إلى أن القوي الأمين على حمل هذه الرسالة هو هذا الصنف من المخلوقات ، إن رسالةً بالعظمة التي شرحناها من قليل ، بالتراحب والشمول ، لا يمكن أن يحملها أحد من الناس . إن كثيراً من الناس لا يرون أكثر من مواطئ أقدامهم ، وهذا الدين نظرة تخترق حجب الزمان والمكان لتلف البشرية برمتها من الأول إلى الأخير .

       إنه المسؤولية العظيمة ، إنه الأمانة التي حملها الإنسان ( إنا عرضنا الأمانة على السماوات والأرض والجبال فأبين أن يحملنها وأشفقن منها وحملها الإنسان  ) إن ديناً من هذا القبيل لا يستقل له ولا يقوم به إلا الأقوياء الأمناء ، من أجل ذلك اختار الله لإبلاغ هذا الكلام أكرم رسله وأكرم مخلوقاته محمداً صلى الله عليه وسلم ، لأنه المصطفى من الأقوياء جميعاً ليحمل الرسالة إلى الناس . وتكريماً له من جهة ، وإشعاراً للمؤمنين بضرورة أن يكونوا على وصف معين وعلى سوية معينة اختار أفضل ملائكته لكي يحملوا الرسالة ، إشارة إلى المواصفات التي أن تتوفر في القيّمين على هذه الرسالة .

       من هنا نقول إن جيل الريادة يحتاج إلى نوعيات جديدة ، حينما نكون في وسط سيئ منحط ومنهار فنحن لا يكفي أن ننبه على وجود الخطأ والانحراف ، نحن يجب أن نثبت من خلال الواقع أن هذا الشيء الذي نحمله إلى الناس قادر على أن يُعيد صياغة الإنسان ، ومن هنا لا بد من الفصل بصورة واضحة وعملية وجلية ، بين الواقع الذي تعيش فيه جماهير الناس ممن لم يشموا رائحة الرسالة وبين الواقع الذي يعيش فيه الناس المسلمون ، إنه لا بد من المفارقة لا بد من أن ينفصل الإسلام المسلم من حمأة الجاهلية حينما يفعل المسلم هذا وحينما يأخذ نفسه بالتأدب آداب الإسلام والتمسك بأخلاقيات الإسلام ما الذي يقوله ، دعك من النظر إلى ما يقول من مجهولات من قبل الإنسان بالذات ، انظر إلى الأرجاع التي تكون في المجتمع انظر إلى رد الفعل الذي يقابله هذا الإنسان الذي بلغ جهوداً خارقة وجبارة من أجل أن يرتفع عن المستوى العام ، عن مستوى الغمار ، عن المستوى العامة لكي يلحق بملأ الملائكة المقربين ، ماذا يقول ؟ وأنا أشدد على هذه النقطة أشدد عليها بأنها فيما أرى ـ والله أعلم ـ الإشارة التي تكشف عن درجة الوصول التي يحققها الإنسان المسلم وفي سياق الدعوة إلى الله جل وعلا . إن الخطأ والانحراف والرزيلة والفسق والفجور ، إن أولئك جميعاً يقومان في مجتمعات وبين أناس ، وحينما يقوم هذا الحشد الهائل من الرزائل والانحرافات فإنما يقوم في مجتمع يغذيه ، يمنحه القوة والحياة ، أي أن الفاسد والمنحط والسارق والماجن والفاجر مستفيدون من الأوضاع الفاسدة . يعني أية شهادة سواء قولية أو عملية تأتي ضد هذا المجتمع تولّد استفزازاً يستتبع ردود فعل لا بد منها ، إن الرزيلة لا بد أن تدافع عن نفسها ، وإن الكفر والانحراف لا بد أن يدافع عن نفسه ، إنه تسود معاني الإيمان وتستعلي أخلاقيات الإسلام لتتمثل في أشخاص فإن الإسلام تكفّل لنا بعرض الواقعة ، عرضها علينا ، إن إبراهيم عليه السلام حينما دعا أباه إلى الإسلام وحذّر عاقبة ما هو فيه وخوّفه من نقمة الله تعالى وبصّره بالفساد الذي هو عليه ، ينحت أصناماً آلهة بيده ويبيعها للناس ، ثم يعبده هو أيضاً قال له ( لئن لم تنتهِ لأرجمنك واهجرني ملياً ) الأب يواجه ابنه بهذا التهديد وهذا الإنذار ، وحينما جاءت رسل الله تنذر البشرية وتبين عواقب الانحراف والتمرد على الله تعالى ( قال الذين كفروا لرسـلهم لنخرجنكم من أرضنا أو لتعودن في ملتنا ) وحينما دعا لوط عليه السلام قومه إلى أن يطهروا أخلاقهم وأن يزكوا نفوسهم وأن يلتزموا جانب العفاف والطهر والشــرف قال الماجنون والفاجرون ( أخرجوا آل لوط من قريتكم إنهم أُناس يتطهرون ) المسألة مسألة ثورة من المجتمع الجاهلي الفاسد الماجن الكافر ضد معاني الطهر والشرف والاستقامة .

       هل يمكن لأصحاب هذه القضية أن يتنازلوا عن شيء من مقتضياتها ؟ لا يمكن . والواقع أنها رغبة موجودة في كل المجتمعات الجاهلية ولدى كل التيارات البعيدة عن الله تعالى ، تتمنى في داخل نفوسها أن لو تهاون المؤمنون بعض الشيء ، تقربوا شيئاً ما وهم يتقربون شيئاً ما ليلتقوا في منتصف الطريق ( ودّوا لو تدهن فيدهنون ) ودّوا لو تتساهل شيئاً ما ليتساهلوا معك ولكن القرآن حكم القضية من بواكير الدعوة ( قل أيها الكافرون ، لا أعبد ما تعبدون ، ولا أنتم عابدون ما أعبد ، ولا أنا عابد ما عبدتم ، ولا أنتم عابدون ما أعبد ، لكم دينكم ولي دين ) لا مجال لأن يتنازل المسلمون عن القواعد التي أقامها عليهم ربهم والتي رسمها لهم دينهم ، وسيبقون بهذا المرتفع العالي من السوية الإنسانية الشريفة ، شهادة ناطقة ومستفزة لهذا المجتمع الجاهلي المنحط . ستكون ردود أفعال دون ريب ، ولكن هذا غير مهم ، ولكن له تكاليف : ضيق النفس والمطاردة والإرهاب والدماء والدموع ، كل ذلك مرصود لك أيها الإنسان المؤمن ، لكن ثقْ أن هذا جزء من الطريق لا يمن أن ينفصل عنك .

       إنه لا يمكن لك أن تصل إلى هذه الكمالات المقدورة لك إلا من خلال هذه السلسلة المتاعب والآلام ، فإذا حاولتَ أن تقفز منها فثق أن هذا سيكون على حساب التربية اللازمة وعلى حساب معنى الريادة المطلوب بالنسبة إليك .

       حينما يكون الأمر بهذه المثابة ولا نملك نحن أبداً أي مقياس يدلنا على أن فلاناً يمكن أن يؤمن وأن فلاناً لا يمكن أن يؤمن ، أي طريق يمكن أن يكون أمامنا هو البذل العام ، هو الدعوة العامة كما شرحت ذلك في الخطبة الماضية والله تعالى يفعل ما يشاء . لكن نحن نعلم أن الناس حين تُبذل لهم الدعوة يأخذهم نوع من العصبية وهذا شيء طبيعي . إنك عشتَ مع واقعك الذي أنت فيه عشرات السنين ، فتأقلمتً معه حتى ظننتَ أنه لا توجد من حياة السيرة غير التي تعرفه أنت . ونحن نعرض لك صورة أخرى ونطالبك بأن تدخل ضمنها ، فنحن إذاً نطلب إليك أن تغير حياتك برمتها ، هذا لا يكون بلمسة سحرية ، لا ، وإنما يكون من خلال علاج ومن خلال صراع نفسي طويل ورهيب . نحن رأينا من وقائع السيرة ما يثبت هذا .

       كثير من الناس مسلمين وقفوا في وجه الدعوة طويلاً وهذا خالد بن الوليد رجل من عقلاء القرشيين ، هذا عمرو بن العاص رجل من العقلاء الدهاة ، كان عمر بن الخطاب رضي الله عنه حينما يرى رجلاً تافهاً يقول : خالق هذا وخالق عمرو بن العاص واحد . هؤلاء الناس العقلاء الأذكياء طالت وقفتهم مع التردد كثيراً وطالت وقفتهم مع أنفسهم كثيراً ، لكنهم ألقوا السلاح أخيراً . عام الفتح ، بعد ثلاثة عشر في مكة وثماني سنوات في المدية ، أي بعد واحد وعشرين حتى انفتحت مغاليق هذه القلوب وجاءوا إلى دين الله تعالى . فالذي أُريد أن أقرره في نهاية هذه الكلمة أمران ، الأول : أن الإعراض الذي نقابله من الناس ونحن ندعوهم إلى الله كما قابله محمد صلى الله عليه وسلم وهو يدعو إلى الله لا يجب أن يدفعنا إلى العصبية من قبلنا وضيق النفس ، إنما هو علامة وأمارة على أن الناس وضعوا أنفسهم في أول الطريق ، وعلينا أن نعينهم على أن يلجوا الباب ، على أن يدخلوا في رحاب هذا الدين ، وأن نتأنّ ونصبر .

       كثير من الناس يرزحون تحت عقد من الرعونة ومن الجهل ومن ضيق الصدر ، فيضيقون بهذا الإعراض ، لا يا إخوة ، لا تضيقوا ، الأمور طبيعية تماماً ، أتريدون بشرى سأقوله لكم : أخرج البخاري ومسلم رحمهما الله تعالى أن رسـول الله صلى الله عليه وسلم قال : تجدون الناس معادن كمعادن الذهب والفضة ، فخيارهم في الجاهلية خيارهم في الإسلام إذا فقهوا . وتجدون خيار الناس في هذا الشأن أشدهم له كراهية قبل أن يقع فيه . فكثير من الناس تتحدث إليهم عن الإسلام قد يصلون إلى درجة من الرعونة تسوغ لهم أن يشتموك ويشتموا الله ويشتموا محمداً عليه الصلاة والسلام . لا تبتئس ، لا تغضب ، لا تستيئس أبداً ، إنما هذا مظهر من مظاهر علاج النفس الذي يحسّ به الإنسان في داخله ، لكن ثق أنه سيلقي السلاح ولا ريب ، ولكن هذا موقوف على أن تتمسك أنت بهذا المستوى العالي الذي وضعك الله فيه وأن تواصل الدعوة .

       وثق تماماً أن كل الأسلحة لا بد أن تتهاوى ، هذا شرط لازم من شرائط الدعوة يغفل عنه معظم العاملين في ميدان الدعوة اليوم للأسف الشديد . أشد الناس كراهية لهذا الأمر قبل أن يقع فيه هم خير الناس لهذا الشأن ، أرأيت عمر ، كم أنزل بالمسلمين من أذية ؟ كم لحقهم منه من ضرر ؟ كم من الرجال جلد ؟ كم من الرجال شرّد ؟ ومع هذا فإن عمر برغم الكراهية العنيف التي كان يحملها للإسلام والتي يحملها لمحمد عليه الصلاة والسلام حينما وُوجه بالحقيقة في لحظة من اللحظات العاصفة ، لحظات النفسية العاصفة قال : دلوني على محمد . فلما دلوه عليه ما فتئ أن نطق بشهادة الحق وأسلم وجهه لله تعالى ووضع مقادته بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم .

       أيقاس عمر بالملايين الملايين من آحاد المسلمين ، لا ، كان شديد الكراهية للإسلام ولرسول الإسلام ، ثم كان بعد أن أسلم خير المسلمين للإسلام . فنحن إذاً يجب أن لا نيأس ، ولكن علينا أن نعلم أن التاريخ الإنساني له مراحل وأطوار وأنه في أوقات الأزمة والشدة لا بد من أن تتوفر نوعية من نوع تلك التي أشارت إليها كلمة ( سفرة ) وكلمة ( كرام بررة ) إننا محتاجون إلى ذلك الصنف من الرجال الذين يتمتعون بخصائص الريادة ، خصائص القيادة ، خصائص الأسوة الحسنة . إننا اليوم وأنا ألحّ على هذه القضية لهذا السبب نعيش مرحلة حرجة من تاريخ أمتنا وحاسمة ، إن الهجمة الشرسة التي تنصب على الإسلام والمسلمين من كل جانب ، من الداخل ومن الخارج على السواء تعين على المسلمين ضرورة العناية بهذا الذي نقوله . إننا نعيش فترة غير عادية ، فترة تتمتع بخصوصية مطلقة ، وهي لذلك تحتاج إلى نوع من الرجال لهم خصوصية ، نحن نواجه استعماراً سافراً يتمثل في إسرائيل وسيتمثل برغم إنكار المنكرين وفرار الفارين عما قريب سيتمثل بهجمة نصرانية صريحة ومباشرة على بلادنا وعلى شعبنا وعلى أمتنا ، ونحن نواجه هجمة إلحادية تتمثل ليست في روسيا السوفيتية والدول الاشتراكية الدائرة في فلكها فحسب وإنما في كل المناهج والنظم التي تعمل داخل البلد وخارج البلد مما يأخذون بمناهج الإلحاد والتحلل التبعية . ثم نحن نواجه بهجمة داخلية ، إن محاولة صرف المسلمين عن إسلامهم محاولة اليوم لا تحتاج إلى أي دليل ، إن كل من جلس على الحكم منذ نهاية الحرب العالمية الثانية إلى اليوم وإلى أمد قد يطول للأسف الشديد ، هم خصوم للإسلام لا يحملون له وداً ولا احتراماً ، ويحاولون أن يحطموه ، ولكن ذلك إلى الله سبحانه وتعالى إنما نريد أن نقول :

كناطح صخرة يوماً ليوهنها     فلم يوهنها وأوهن قرنه الوعل  

إن هذه الرؤوس التي تظن في نفسها الصلابة سوف تتحطم على صخرة الإسلام التي حية غير قابلة للنكسة داخل ضمير كل إنسان مسلم .

       وإنا نقبل بعد ذلك للأسف الشديد فتوراً في الهمم ، في نفوس المؤمنين الطيبين الأخيار ، جمهور شعبنا مسلم وطيب وبسيط ، يحتاج إلى أن يوسع من آفاقه وإلى أن يبذل من ذات نفسه وأن يعيننا على التغلب على شهواته وعلى كل هذه التحديات وأن نتجاوز كل هذه الصعوبات .. فهذا كله يحتاج إلى صنف من الناس هو الصنف الرائد كذلك الصنف الذي كان على زمن محمد صلى الله عليه وسلم .

       أذلك أمل ؟ نرجو .. أم هو سلوى وعزاء ؟ أما أنا فلا أشك لحظة واحدة أن الله تعالى منجز وعده وناصر جنده ومعز عباده ، أما أنا فلا أشك لحظة واحد بأن المستقبل لك ، وأن الأعداء يعملون لصالحنا ، أما أنا فلا أشك لحظة واحدة بأن هذا الليل الذي طال ولا يشعر بانتهاء إلى صبح قريب ، مشرق منير . ونرجو من الله جل وعلا أن تكتحل عيوننا جميعاً برؤية هذا الصبح المنير وما ذلك على الله بعزيز .

       وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم ، والحمد لله رب العالمين .