مارد في صدري (2)

نعماء محمد المجذوب

.................

كثيراً ما تلجأ سناء في خلوتها إلى كتاب الله توقظ التلاوة في نفسها حساً مكتوماً مفعماً بالحياة، ينعشها من الضياع، وتستمتع وتتفهم ما تقرأ، ويقوى إيمانها، وتغبط نفسها، وتتيه في عالم نوراني، وأحياناً تتصور أمها وهي تسمعها، وتتذكر قول النساء: كان لفخرية صوت ملائكي وهي تتلو آيات من القرآن.

عبّرت لي عما في نفسها، قلت وأنا أبتسم:

- النساء في المسجد يقلن عنك مثل ذلك.

في صباح يوم الجمعة، كانت "سناء" ترتل آيات سورة الكهف، بصوت عال، حين وقفت زوجة أبيها وراء الباب تصغي بصمت، وتعجب مما تسمع،.. بقيت مستغرقة في صمتها، ذاهلة عمّا حولها، فلولا أن ناداها أحد أولادها لسقطت من الذهول، أكلت الغيرة قلبها.. ثم نادتها لتقطع خلوتها مع كتاب الله،... أخذت تضحك بطريقة مثيرة، وتسخر منها، مما أثار غضب "سناء"، لم تتفوه بكلمة، قبعت في صمتها، وبلهفة غرزت عينيها في السماء، والله أعلم بسرها، قالت لها زوجة أبيها:

- من الأفضل أن تعيشي في المسجد بعيدة عن هنا، ترتاحين، وتريحين.

بدهشة أجابتها:

- إذاً تكون حياتي في هدوء واطمئنان، وأعتبر ذلك بمنزلة مكافأة لي على صبري... أرجوك كفي سخريتك بي، قد يكون هناك حل آخر أنفع لي ولك.

ثم أردفت:

- أتمنى أن تكون آخر لحظات عمري وأنا أتلو آيات القرآن، ومع نفحات الإيمان... ليتك تتذوقين حلاوة الإيمان كما أتذوقها، عسى أن يهديك الله إليه.

في مثل هذا الموقف تلجأ "سناء" إلى ركنها الذي أصبح جزءاً من وجودها، أسندت مرفقها إلى حافة النافذة، ونظرها يتسلل إلى الخربة المهملة، تثرثر فيها ريح الخريف مع الأعشاب، والأشواك اليابسة، وتلاحق طنين الزنابير، ووصوصة العصافير، وخشخشة الحشرات الزاحفة، تظلهم سماء مزركشة بالسحب نهاراً، وبالنجمات ليلاً، ويحرسهم القمر بعين مفتحة، قالت في نفسها:

لا داعي للحزن، والقلق فقد تتحول السحب الداكنة السوداء إلى بيضاء، لمدة عشرتها لضوء القمر، أو إلى الأزرق بعد أن تسافر فوق البحر متأبطة لونه.

نظرت إلى الكتب والأوراق، وأخذت تقلبها، وتقرأ بصوت خفيض، لا يكاد يخرج من بين الجدران... تنفست بعمق، وقالت:

ما ألذ الوحدة، والخلوة مع النفس!.. قالت ذلك بانعتاق حالم، ورأت أن حياتها مخططة بصور المعاناة، والغضب الجحود، وغموض المصير، ولكنها تتخللها مشاعر دافئة، راقصة، يحدوها إحساس يتسرب إلى نفسها لذيذ، من لمسات حانية، وهي تلمس أشياء أمها، أو من لمسات حزينة وهي تراقب التالات اليتيمة، ولكن الأمل ينتشر في نفسها، ليعيد الحياة.

في ضحى يوم الاثنين، ازدان مصلى النساء في المسجد، بالمؤمنات الصالحات، والحبور يطوف على وجوههن، وهنّ يحتفلن بختم "سناء" للقرآن، حفظاً، وتجويداً، يثنين عليها، ويكرمنها ويتباهين بوجودها معهن، قلن لها:

- أنت جديرة بكل تكريم، وإن تكريمك لتكريم لمثيلاتك من المجاهدات، لقد أتم الله عليك النعمة بحفظ كتابه، وترتيله، وبفضل عزيمتك، وهمتك.

بقلب خاشع، وعينين دامعتين، قالت:

- الشكر لله سبحانه، أن هداني إليه، ووفقني إلى ما يرضيه عني. كنا نهبط درجات المسجد، حين قالت لي:

- أرى نفسي فرحة، ومرتبكة بعض الشيء، أرجو الله أن ينجيني من هذه المرأة الظالمة.

قلت:

- لنخرج على الشاطئ، قبل أن نعود إلى البيت.

كان النسيم يهب برفق، ويخفف من الحر، ونور الشمس يغمر الكون في وضح النهار.. كان للبحر امتداد في نفس "سناء" ووجدانها، وعندها الحنين الدائم له، وكان أمتع وقت لديها، الجلوس أمام مائه، والإصغاء إلى وشوشة زبد موجه مع الرمال الناعمة، ورقة النسيم، مع رفيف أجنحة الطيور البحرية، والاستمتاع بهدايا البحر من الأصداف والودع، يلقيها بين الصخور، ينتشلها الأولاد والصبايا بفرح... كانت ترى حسن الطبيعة يتعانق بقسوتها، فقد يبتلع البحر أطفالاً سذجاً بالسباحة، وزوارق مشحونة بالسمك، فتتساءل:

هل ينتقم البحر ويسترد ما سرق منه؟... لم تجبها نفسها عن الحقيقة، ولكنها تتخذ من الخيال أداة للكشف عنها.

ضحكتُ، وأنا أقول:

- الحقائق ليست سوى ركام من الأوهام، تنهش داخلنا، أي امرئ يمكنه أن يجمع ركام الأوهام في صدره، وخياله يزخرفها.

كنا نتجاذب أشتات الأحادية، ونتأمل ما حولنا، ونفلسف ما يخطر في بالنا من أفكار، وأعيننا تنغرز بالمشاهد المختلفة، حين أثار انتباهنا "عبود" الصياد، يجلس على حافة صخرة أمام البحر، يظن من يراه، أنه يتأمل، ويفكر، كما يبدو لنا من بعيد، كان يقضى الساعات في حالة انتظار، كنا نتابعه بأعيننا، ... ثم ينهض، ويقفز في البحر، وينزلق في المياه مع هدير الموج، ليشد بمهارة شبكته التي ألقاها منذ الصباح، ويسعى للإمساك بأطرافها المتباعدة، حتى إذا تكومت في يده، جذبها، وعاد بها إلى الشاطئ مع صيده الثمين.

نتعجب من أمره الغريب، صياد بيد واحدة، يصبر، ويكدح، وابتسامة الرضى تطوف على وجهه، يقولون: إن يده الأخرى قد قضمها القرش إحدى رحلات صيده... لم يحقد على البحر، ولم تمنعه العاهة من الاستمرار في الكدح من أجل الحياة ، فالإله الكريم ، لن يترك عباده المخلصين.

قلت:

- ما أقسى الطبيعة أحياناً، وما أرحمها!

بعد برهة صمت قالت "سناء":

- تجربة عبود الصياد، علمتني الصبر، وتحقيق الحلم.

قلت:

- أليس كفاحه قوة، وسعادة أيضاً؟.. أليس تحديه لقسوة الطبيعة بيد واحدة قوّة ؟

بانبهار قالت:

رغم أنه يحمل ستين عاماً فوق ظهره، سبحان الله، الإيمان مع الكدح يجعلان العجوز أقوى همّة من الشاب الفتي... نراه يواصل عمله دون تأفف، أو تذمر، وفي النهاية يحمل رزقه بسرور بعد صير، وانتظار، وعلامات الرضى تنهمر فوق وجنتيه قطرة، قطرة، وشفتاه ترتعشان بالشكر لله، وعيناه ستنفجران دموعاً من الفرحة.. كان يحس وكأن الطبيعة بأسرها تشاركه بهجته، وسلته الملأى بالسمك فوق ظهره، وبخطوات وئيدة يتجه نحو السوق، ونحن نقتفي بصمت أثره بأعيننا، وكأنه يمدّنا بروح قوية عالية.

كان الأولاد يلعبون، ويتراشقون بالماء، حاولنا أن نقول شيئاً، ولكن صوتنا ابتلعه ضجيج الموج، الذي انحسر ساحباً الحروف والكلمات، وتاركاً معانيها تتلجلج في نفسينا... قلت:

- هيا لنعد.

- ولكن...

- ماذا؟

- قلبي يخفق في صدري بشدة.

في البيت، نظرت إليها زوجة أبيها باستنكار، ثم قالت متوعدة:

- ألم أحذرك من الخروج؟

 - هل خروجي إلى المسجد، ثم إلى الشاطئ، وهو يعج بالناس جريمة؟

أرجوك يا خالتي لم أعد سناء التي عرفتها، أنا سناء جديدة.

ثم سألتها باهتمام لم تستطع إخفاءه:

- هل تقلقين عليّ إذا تأخرت؟.. أم أنك تحتاجين إليّ في أعباء البيت؟

- ماذا كنت تفعلين عند الشاطئ؟

- لا تثوري، سأخبرك، كان ذلك بعد خروجي من المسجد، نسيت أن أقول لك، لقد أقيم لي احتفال بمناسبة ختمي للقرآن... أظن بأنّ هذا يسرك.

- ماذا تقولين؟

أخذت عيناها تحملقان بوجهها، والكلمات تتكسر في فمها، ثم بنبرة خافتة، حاولت أن تستدرجها إلى غاية...

استدركت "سناء"، فقالت:

- الناس عند البحر كثيرون كالعادة، وتعلمين عشق أهل البلدة له.. اطمئني، لن أكون بمفردي إطلاقاً، بل مع صديقتي، نتجاذب في أمور مختلفة.

ثم استطردت بلطف:

لماذا لا نتناقش كعائلة واحدة، أم أنه يجب أن نكون في تخاصم دائم؟

- أمرك لا يحتمل أبداً.

ما هو؟

- تفلتك و...

- نحو الخير إن شاء الله.

أخذت بتلابيبها، تنترها، وتضربها، على مرأى من إخوتها، دون أن يجرؤ أحد منهم على الاقتراب، أو على إعانتها بكلمة، وهم يسمعون ردّ أمهم الغاضب على استعطاف أختهم. فيتحرقون ألماً، ولا يحركون ساكناً من اعتراض، أو شفاعة، و"سناء" تبكي بحرقة، ولا يملك إخوتها إلا قضم أظافرهم باضطراب، والزفرات يرسلونها وراءها، وهي تهرب كالطير الذبيح إلى ركنها، في أسى لاذع.

كانت الأيام تمر سراعاً، ونحن في عجالة من أمور حياتنا، ثم التقيت :بسناء" ظهراً، وفي وجهي حزن كثيف، سألتني:

- ما بك؟ أراك اليوم حزينة على غير عادتك.

بانزعاج قلت، والدموع تطفر من عيني:

- أجل، أنا جد حزينة، لقد ذبحوا أمس خروفي.

ابتسمت وهي تقول ببرود واضح:

- من يخفف عن الأخرى؟... أنا أم أنت؟

قلتُ:

- أراك معي، ولست معي؟

- أنا كذلك، دعيني..

تركتها مع نفسها، وتابعت طريقي.. تمشيت قليلاً بين شجر الصفصاف، والناس في ذهاب وإياب، تتبعهم عيناها، ثم اقتربت من أمرأة مسنة، عرفت بالحكمة، واستشعارها لمشكلات الناس، تجلس على أحد المقاعد المنتشرة في الحديقة، تعد حبات المسبحة بأطراف أصابعها، وتتمتم بكلمات خافتة، شكت "سناء" إليها حالها، وما تحس به من القهر، والحرمان، والمرأة تجهل شخصيتها، ثم قالت لها:

- علاجك بسيط يا ابنتي، ما عليك إلا أن تذهبي إلى "سناء" بنت فخرية، وتجلسي إليها، وتستمعي إلى مشكلتها، فتسري عنك.

هزّت "سناء" برأسها، وقالت:

- هل أنت عالمة بحالها يا خالة:

أجابتها:

- من الذي لا يعلم بها؟

أجابتها "سناء"، والحزن يعتصرها:

- ماذا أفعل، إذا كنت أنا سناء بنفسها؟

بدهشة نظرت إليها، وقالت:

- إذاً أنت "سناء"؟ فرّج الله كربتك.

ثم سألتها:

- ماذا تخفين بيدك؟

ابتسمت وهي تقول:

صورة لأمي، التقطت منذ زمن بعيد.

قالت لها:

- زوجة أبيك تغار من امرأة لم تقع عيناها عليها.. لا تبوحي بأشواقك نحو أمك.. أمامها، تمتعي بالشوق داخل نفسك، ولا تقولي ضاقت نفسي، وتصرفي بمعرفة، فالعارف، نفسه لا تضيق.

..................................

قضت سناء أياماً في البيت وحيدة، شعرت بالسأم، الأسرة في إجازة في الضاحية، كم تمنّت أن تمضي هي أيضاً يوماً أو أكثر بعيدة عن جحرها، سخرت حين راودها ذلك الخاطر، لا تعرف لها أقرباء، وقد يكون لها، ولكنها محجوزة عنهم، ردّت هذا الخاطر الجريء بعد أن وجدت أنه لم يكن في مقدورها أن تفعل شيئاً.

دخلت غرف إخوتها، تقلّب أشياءهم بيديها، وتضمّها إلى صدرها، وتشمّ رائحتهم، استيقظ في نفسها حبّ وحنين، ودّت لو أنها تصحبهم، وتحمل أشياءهم، وتمرح معهم، هزّت رأسها بأسف، وقالت: هذا غير ممكن.. أفضّل البقاء بانتظارهم.

لِمَ رحل بها الخيال بعيداً، حين أغمضت عينيها.. رأت بأنها بين أطفال يدورون حولها، يتشبثون بثوبها، ويضحكون.. سُرّت من هذا الحلم الخاطف، انتشت، وضحكت.

عند الأصيل قرّرت أن تتجوّل عند الشاطئ، رضيت خالتها أم غضبت.. جلست على صخرة، وأخذت تستمتع بالهدوء، والوحدة، ومنظر الشمس وهي تنساب رويداً رويداً، عند المغيب.. أحسّت فجأة بحركة وراءها، استدارت، وهي تشعر بالخوف وهنا رأت المعلمة هيفاء تقول في هدوء:

- ماذا تفعلين هنا يا "سناء"؟

التزمت الصمت.

- لماذا تهربين منّي كلما أردت أن أحادثك؟

كانت "سناء" كثيرة الخجل، تنظر إلى المعلمة بوقار، ثم قالت لها:

- لا يمكن أن تستمرّي بالهرب مني، نحن نتقصّى أخبارك من أختي، صديقتك، ونسعد بصحبتها لك.

استولى عليها الدهشة، هيفاء المعلمة بنفسها تحدّثها برفق!. أردفت:

- أبارك لك ختمك للقرآن.

- وللقراءة، والحساب أيضاً.

- الله معك دائماً.

- أشكرك.. أحسّ بأنّ الله معي، رغم كل ما أعانيه من قمع وحرمان.

صمتت هيفاء برهة، ثم قالت:

- هل تعلمين بأنّ الحرمان عامل قويّ الأثر في حياتك؟ ودافع فعّال لصقل شخصيتك، وتفتّح موهبتك؟

تأوّهت وهي تقول:

- لقد بنيت الكثير، ولا أزال.

- لا تسرفي في الحزن لما يعترض حياتك من شئون، وشجون، فالإسراف مضيعة للوقت، ومجلبة للقلق، كوني قوية النفس، جريئة وصبورة، على ما عسى أن يحدث لك من متاعب ومصاعب، وفي ذلك الخير لك، انظري إلى مستقبلك في عزم وحزم وإصرار.. على فكرة: أرسلت إليك (العبرات) و(النظرات) هل أعجباك؟

- أجل، واستغرقت وقتاً طويلاً في قراءتهما.

- ما السبب في إعجابك بهما؟

- لأنهما يخاطبان أعمق المشاعر الإنسانية، وأقوى مشكلاته، يستمدها المنفلوطي من واقع المجتمع، وبشكل بائس.

أطرقت برهة، ثم قالت:

- هكذا حياتي يا معلمة، رحلة مع المتاعب والعواصف، أصارعها وتصارعني، عشرون عاماً ما أكاد أمدّ يدي على أمل وقرار حتى أجدني تتقاذفني التحدّيات، وتبعدني عن الأمان، ولا أقدر أن أفرّ من هذا الخضمّ العاصف، وبيأس هزّت رأسها وقالت:

- أنا بنت، والبنت تتحكّم بها الأعراف والتقاليد، التي تكبّل الأيدي والعقول معاً.

- اصبري.

- صار الصبر عادتي.

- يمكن التغلب عليها، بالمجاهدة فتتغيّر حياتك.

- هل يأتي التغيّر من نفس مقهورة، كدرة، أظن أنه لا يكون إلا من نفس صافية.

- الإيمان والمثابرة على العبادة، يساعدانك.

كان الصيف يفرد جماله على الطبيعة، فيجمع بين لطافة الجو، وجمال المنظر، ويقف المرء مشدوهاً أمام مشاهدها الخلاّبة، التي تخطف الأبصار.. فشعرت "سناء" بالأنس والألفة مع المعلمة هيفاء، وزال حاجز الخجل بينهما.

قالت لها:

- أراك كثيراً عند الشاطئ.

- عندما ينتابني سأم الحياة، وأراها على وتيرة واحدة في المنزل، أريح نفسي عند البحر.

- حدثيني كيف تريحينها؟

- يكفي ما أجده من دغدغة نسيم البحر، فأملأ صدري به، وأرتاح من الألم، وأغرق عنده همومي.

ضحكت هيفاء، وهي تقول:

- ويبتلعها القرش، والحوت.. أكملي..

- أرى صفحة البحر في الصيف في منتهى الروعة، حين تنقش الريح على وجهه صوراً عجيبة، تنافس الرسامين بأقلامهم.. والمويجات تنفث برقّة رذاذاً، وزبداً يتطاير بلا ريش، وأجنحة وتنثرها أنغاماً وشجى.

- أنت رائعة، وماذا بعد؟

- ما أروع المشي فوق رمال شاطئه الناعمة الصفراء، رسمت فيها الأقدام صورها.

- بم تشعرين تجاه ما تشاهدين.

- أشعر بسرّ الحياة.. حياتي التي أنشأها البحر، واستودعها أسراراً في صدري، عند ضفة شاطئه أرى الحياة جميلة، فأتساءل بحيرة: هل خلق الله الحياة للإنسان؟ أم خلق الإنسان للحياة؟

- ألم تقرئي قوله تعالى في سورة الرحمن: (والأرض خلقها للأنام)؟

في هذه اللحظات، كانت أمّ تجري خلف طفلها، تسبقه، ويسبقها، ويضحكان معاً.. التفتت "سناء" إليها وقالت:

- تذكّرني ضحكة هذه الأم مع طفلها، بضحكة أمي معي، وأنا دون الخامسة من عمري.

- ذاكرتك قويّة، وخيالك واسع.

- أنا كذلك، أعيش في خيالي كالملائكة فوق السحب.

- هل قرأت (الأجنحة المتكسرة) لجبران؟

- قرأتها، وبشغف شديد، وفتنت بما فيها من خيال، فكان الأسى يسري في نفسي، ويلهب النار في صدري.

قالت لها هيفاء برجاء:

- من اليوم فصاعداً، لا تهربي منّي.

- ليس لي الخيار.

- هذا ليس خياراً، بل موافقة.

أثناء الحديث معاً، قالت لها هيفاء:

- أراك حاقدة على الأعراف والتقاليد، وبأنها تكبّل المرأة وتقيّدها.. نرى الكثيرات يطالبن بالمساواة، لتفتح المرأة بعد الاستعمار، ولنضجها بالتعلّم، وقصة المساواة قصد قديمة، يتمناها الكثيرون، إن كانت المساواة الاجتماعية أو المساواة بين الرجل والمرأة.. كان هذا التفكير بسبب الجهل بأحكام القرآن، فالله سبحانه وتعالى كرّم المرأة، وأعطاها حقوقها كاملة، وما تحسّين فيه من اضطهاد فبسبب الظروف التي تعيشين فيها.

تنهّدت "سناء" وهي تقول:

- إن قدّر الله سأقف إلى جانب المرأة البائسة المضطهدة.

سألتها هيفاء:

- ماذا تريدين من هذه الحياة؟

ابتسمت وهي تقول:

- كل ما أريده منها، قلباً يخصّني بالمودّة والحنان، وحسبي ذلك في مسار عمري.. هل هناك أسعد للمرأة من القلب الودود، بجانبه يهون أي كسب مهما كان ضئيلاً، ولا يشغلني مال، أو ترف.. ماذا ننتظر من الحياة؟.. الحياة مهما طال مكوثها، سترحل.

ثم استطردت:

- يراودني هاجس قويّ، لتحقيق وجودي الإنساني، وتأكيد حقي في الحياة الكريمة.

- ستجدين صعاباً، وتحديات غامضة، ومفاجآت، ولكن لا يمنعك ذلك من البحث عمّا تحلمين.. وإن سعيت من أجل تحقيق حلمك، فإنّ الحيّ كله سيطاوعك لتحقيقه.

- ولكن..

- ماذا؟

- عندما نحبّ، نكون أفضل مما نحن فيه، بالحبّ والإيمان نستطيع أن نواجه مصيرنا.

وضعت هيفاء كفّها برقّة عل كتفها، وبابتسامة هادئة، قالت:

- علينا المسامحة، فالمسامحة من شيم المؤمنين، وتمنحك الهدوء النفسيّ، والله سبحانه غفور رحيم.

عندما اجتمعت مع أختي هيفاء، بلهفة سألتها:

- أتظنّينها موهوبة؟

بانبهار قالت:

- إنها موهوبة بشكل عميق، كان قلبها وهي تحدثني، ينبض مع الطبيعة وينفعل، ويتدفّق بالحياة، بكلّ ما فيها من عمق، ومعنى، ويتعانق في داخلها حس الطبيعة بقسوتها.

- يقول أبي: إنّ البحر يفتّق المواهب، وينشئ المفكرين، والفلاسفة.

- لذا غالباً ما يرى، وفي يده القلم والورق، تحت مظلّة واسعة عند الشاطئ.

ثم قالت:

- أرى الرابطة متينة بينكما.

- هي من أعز صديقاتي، وأبي يشجّعني على صحبتها.

- وأنا ألم أشجعك أيضاً؟.. وأرسل معك كتباً ومجلات إليها؟ إنها ابنة فخرية التي رحلت، بعد أن تركت آثاراً لن تنسى، من خلق، واستقامة، وفهم، فكانت ابنتها أمانة في أعناقنا.

كنّا نجلس إلى مائدة العشاء، ورغم الهدوء الظاهري لهيفاء، كانت تبحث عن وسيلة لتعلم والدها عن وضع سناء.. سألها:

- ما الأخبار؟ هاتي ما عندك.

كانت فرصة سانحة، وسرعان ما قالت:

- اليوم التقيت بسناء، رغم هربها الدائم مني.

- هذا داب البنات، يتجلجلن أمام المعلمات في الطريق، ويتهربن منهن، حدثيني ماذا جرى بينكما.

- إنها تعيش بالخوف في البيت، وتفتقد الأمان، وأحياناً تشعر بالإحباط والسأم.. ثم ارتسمت المرارة على وجهها، وهي تحدثه بشأنها مع زوجة أبيها، فقالت:

- يبدو أنّ التناقض بينهما سيبقى قائماً، وآخذاً في التعمق يوماً بعد يوم، لاختلاف الاتجاهين، فأثر القرآن، والقراءة كانا واضحين في تغيّر شخصيتها، وأم خالد هداها الله جامدة في تصرفاتها، تدفعها الغيرة، والجهل، وحبّ السيطرة، لم تراعي مشاعر "سناء" وصباها، وظروفها، بحرمانها من أمها، ثم من أبيها.. أمور أدّت إلى رفع وتيرة الصراع بين المرأتين.. وتملّك أم خالد للبيت كان دافعاً آخر للصلف، والغطرسة، ويبدو أنّ في ذهنها فكرة إبعاد سناء بإهانتها شبه يومية لها، واستنزاف طاقتها في أعباء البيت، وإلزامها القبوع في البيت.. ورغم غريزة البقاء، والمقاومة لدى "سناء" فلم تزل تتخبّط في التحديات المتواصلة، ولم تستطع أم خالد تحطيمها نفسياً، إذ تولّد في داخلها تمرّد، ظهر في إقبالها على كتاب الله، وتثقيف نفسها بالقراءة، حتى أخرجتها من التخلّف الذي أرغمت عليه.

قال أبي:

- أعلمني الشيخ عبد الله أن نساء المسجد يتنبأن لها بمستقبل جميل.. صمت قليلاً ثم قال:

- فمن رماد الألم ينبثق النجاح.

أردفت هيفاء:

- كان ختمها للقرآن، مفاجأة لزوجة أبيها، وأفزعها بلا مبرر سوى استرجاع لصورة ضرّتها، التي تسمع عنها، ولم ترها.. ولم تزل "سناء" تعاني من القيود المفروضة عليها، والقمع المتواصل، وهي تقاوم، وتحاول الانفتاح على الطبيعة، من خلال نافذتها، وعند الشاطئ، وفي المتنزه، ونبقى في اتصال معها، رغم المنع منها.. وأحياناً استمرار العداء الذي تواجهه من زوجة أبيها، يدفعها إلى الانكماش، أو إلى الدخول في محاولات للدفاع عن نفسها.. ولكن سرعان ما توقف الجدل، فلا تريد أن تزيد النار اشتعالاً، وتلجأ إلى زاويتها الضيّقة.

أخرجتُ ورقة من جيبي، وقرأتُ ما كتبت "سناء" من خواطر:

ركني الضيّق هذا فسيح

أطير فيه بلا ريش، أو جناح

أحلامي نور في سفر

أرحل فيه مع القمر

ثم.. كي أستريح

فوق غيمة

مع نجمة

قد أتيه

في رحيل بعيد

أبحث عن أمي

قد تجيء بلا موعد

مع الفجر، والديك يصيح

فهل أعاتبها؟.. لا

اللقاء يختصر العذاب

والعتاب..

وينشر الشوق بين الأحباب

وأقول:

حتى أمس، كانت دمعاتي تفور

واليوم، بفرح بسماتي تزهو

ثم أصحو

من الذهول، والانتشاء

وتستيقظ معاناتي

وأهدهد جراحاتي

ويلدغني الاصطبار والانتظار

وعيناي تتسلقان أرقام النجوم

في تفاؤل جديد

تخترق السحب

لترى القمر

وتسرق منه السفر

قال أبي:

- إنها خواطر جميلة.. ثم ارتسمت المرارة على وجهه، وبدت في صوته، وهو يقول لأختي:

- هل أنت واثقة مما تقولين؟.. أقالت لك هذا بنفسها؟.. أوشك ألاّ أصدّق ما أسمعه، أيمكن أن يصدر من امرأة مثل هذه القسوة؟.. وغالباً ما تعرف المرأة بالحنان والمشاعر الرقيقة.

طافت على وجهي ابتسامة حزينة، فقلت:

- إني أعلم عن "سناء" أكثر من أي شيء في الدنيا.

صمت أبي برهة، ثم قال:

- للأسف لا نستطيع إحضارها إلينا لأسباب قد تسيء إليها. وبلهفة واضحة قال:

- سنجد لها الحلّ المناسب، ابقيا في صلة معها.

في هذه اللحظات، كانت "سناء" متكورة في ركنها، لم تشعل فتيل المصباح، فالقمر تمتد أنواره إلى مالا نهاية، تحت أضواء النجوم، ويلقي منها على جوّ الغرفة من خلال النافذة.. ففي العتمة يزداد صراخ نفسها، وتستيقظ مشاعرها، وتسكب في روحها أسراراً، وأسراراً، فهي مملكتها الشاسعة، مسكونة بالانتظار، تستعيد فيها ذكرياتها، فتزفها وتمرّ في حلقها كلمات.. ثم تتعثر، وتنفرط، وتسكن.. كانت كثيراً ما ترى أمها تخرج من جمر الذاكرة، بوجه شاحب، أحزنه الفراق.

تذكّرت الموقف الصعب، حين رجوعها هذا اليوم من الشاطئ. كانت زوجة أبيها تنقضّ عليها كالصخر، أو الصقر، فتجرحها، وتؤلمها، وتستقر في ذاكرتها الجراحات.. ثم تصمّم أن تنسخ هذه الذكرى الأليمة من قلبها، وتنسج لها المبررات، وتقول بحزم: يمكنها أن تفعل أي شيء إلا حرماني من الخروج إلى الطبيعة.

في ضحى اليوم التالي، كانت تتمشّى في طرقات المتنزه المشجّرة، وعيناها تجولان في الأمكنة، تبحث عن المرأة المسنّة، الحكيمة، وحين التقت بها، سألتها:

- هل تعاستي يا خالة، تأتيني من ظروف خارجة عن إرادتي، وسوء حظّي السبب فيما أعانيه؟

بوقار أجابتها:

- الناس يا ابنتي يلقون الفشل على سوء الحظ، وهؤلاء أناس سلبيون، عليك أن تتغلّبي على هذه الظروف.

- إنها أقوى مني.. أحاول بالتحدّي والصبر.. ثم.. إنني لا أحبّ أن أكون في الخلف، أكره الكدر والمنغّصات، وأحبّ السلام.

- السلام يا ابنتي لا يأتي بالكره، والأحقاد والعنف، ولكن يأتي بالمحبّة والتفاهم.

نهضت "سناء" قفزت الكلمات إلى فمها، وهي تبتعد عن المرأة، ثم همست:

- لقد مضت سنوات طويلة، بعد أن غادرت طفولتي برحيل أمي، وأرى حياتي تتوالى في شتاءات لا تحصى، فمتى يستيقظ ربيعها؟

في طريق العودة، قريباً من البيت، رأت قطتها منزوية عند جدار الحارة، متكوّرة بين الأحجار.. أسرعت إلى "سناء" تموء بنغمات حزينة، تشكو القسوة التي لحقتها، بطردها من البيت، بعد أن أمضت فيه طفولتها، وشبابها، مسحت على رأسها تواسيها، ولسان حالها يقول: اصبري مثلي، تعوّدي على الحياة الجديدة.. يبدو أن مصيرنا سيكون واحداً.

*   *   *

ذات يوم، قلت "لسناء":

- سنزور امرأة في الحيّ، كانت صديقة لأمك.

نظرت إليّ بدهشة، وبرقت عيناها من المفاجأة، وبحيرة تساءلت:

- أكانت صديقة لأمي حقاً؟

تهدّج صوتها قليلاً وأردفت قائلة:

- إنها مغامرة، أخشى أن تعلم زوجة أبي.

ببرود أجبتها:

- لا تخشي شيئاً، تحمّلت الكثير، آن لك أن تتعرّفي على بعض الجارات، وخديجة هذه واحدة منهن.

أحسّت بالانشراح، فقالت:

- ما ألطفك يا صديقتي.. أشكر الظروف التي كانت السبب في صداقتنا، ولقائي المستمر بك، لولا وقوفك بجانبي، وإصغاؤك لهمومي، فماذا كان مصيري؟

- هذه وصية والدي، تدفعني إلى مصاحبتك.

كان منزل خديجة قديماً، ذا غرفة واحدة، بنافذة عالية، تطلّ علا الزقاق، وله أرض حوش، تظلّها السماء، وكان مدخل البيت مزداناً بأصص الورود البلدية والياسمين المتسلق على الجدار.. غمرت "سناء" فرحة وحماسة في التعرف على هذه الأسرة، وكأنها تتنفس الهواء الذي تنفسته أمها، وتلمس قدماها الأرض التي مشت عليها وتصافح عيناها الأوجه التي أحبتها.. سمحت لهذا الإحساس أن ينتشر في صدرها، ويظهر في وجهها.

كان اللقاء بخديجة حاراً، ضمّت "سناء" إلى صدرها بحرارة أشدّ، والدموع تطفر من عينيها، وهي تقول:

- كنت ملاك أمك الصغيرة الجميلة.

كانت لحظات مميزة، استعادت فيها خديجة ذكرياتها مع الأم فخرية، وكيف كانت فاطمة ابنتها، وسناء تلعبان، وتتقاذفان الكرة، وتتنازعان الدمية، وتذهبان معاً إلى الشيخة بدرية.. غصّت بدموعها حين ذكرتها، وترحّمت عليها.. أيام مضت يا ابنتي كانت كالحلم، ومن أجمل الأيام، قضيناها معاً.. مسحت دمعات عن خديها، وهي تقول:

- لم يكن في البلدة أحسن منها خلقاً وذكاء، وتلاوة لآيات القرآن، ثم ابتسمت وهي تقول:

- وأيضاً، كانت ذات موهبة، تقول الشعر وتلحنه، وتنشده.

بلهفة سألتها "سناء":

- هل حفظت منه شيئاً يا خالة؟

ضحكت وهي تخبط على جبينها:

- أف.. الزمن أنساني كل شيء.

- وأبي، حدثيني كيف كان معها؟

بعد برهة صمت، قالت:

- لا داعي كي أحدثك عن قسوته، رحمه الله، والمحنة التي مرّت بها، إلى أن تحررت منه.

تسمّرت عيناها في وجه "سناء" وكأنها تستعيد ذكرى لصورة بعيدة، وبعجب قالت:

- سبحان الله، لشدّ ما تشبهين أمك!

- يقولون ذلك، ولكن أملي أن تكون حياتي أفضل.. وماذا أيضاً يا خالة؟

- إنها في لبنان.. وقبل سفرها أسرّت لي، بأنها ستعود.. ولكن..

- حتى الآن لم تعد.. الجارات عندما يزرن زوجة أبي، يهمسن بأخبارها.

- أكثرها تخمين.

أومأت "سناء" برأسها، وقالت:

- هذا ما يحيّرني.. وأتساءل: لماذا أرادت الانفصال عن أبي بهذه السهولة؟

بحزن أجابتها:

- أمك كانت متعلّمة، حصلت على السرتفيكا، في زمن، النساء المتعلمات فيه كنّ قليلات.. كثيراً ما حاولت أن تقنع والدك بالتخلي عن عمله، وتحويل الدكان إلى مكتبة، والاهتمام بمظهره.. لم تكن أمك تحلم بشيء لنفسها، بل كان طموحها موجّهاً لصالحه، لا لصالحها، ولكن مسعاها كلل بالفشل.

- هل كانت مغرورة.. وأنها؟..

- بل متواضعة جداً، ولطيفة مع الجميع، وخاصة مع البائسات، وتتمتع بعلم، وفهم..

ثم هزت برأسها، وهي تقول:

- للأسف، لقد خسرتها البلدة.

- هل تظنين أنها ستعود؟

- أملنا كبير، على الأقل من أجلك أنت.

خيّم الصمت برهة، وهبّت نسمات صيف رطبة، تحمل معها عبير الياسمين، والورد الجوريّ والزنبق.. وسرت في جسم "سناء" انتعاشة لذيذة ثم أحسّت بكفيّ تربت على ظهرها برفق، وبهدوء قلت:

- هيا، لنعد، قبل أن تفتقدك أم خالد.

بلهفة قالت:

- هل يمكن أن نبقى وقتاً أكثر؟

- لا، لا نريد أيّ مشكلة لك.. خروجنا هذا مغامرة، أو هذا ما يبدو لي على الأقل، ولا داعي لأن تخبري أم خالد بذلك.

- أشعر بحاجة إلى المزيد من الأخبار عن أمي، وكأن الخالة خديجة تخفي عني أسراراً.

في البيت حصل الويل، واجهتها زوجة أبيها قائلة:

- أين كنت يا فلتانة؟

- فلتانة؟.. ماذا تقولين؟.

التزمت الصمت..

- أجيبي عن سؤالي.

- كنت في مشوار قصير مع صديقتي.. أرجوك لا تفقدي السيطرة على أعصابك.

- هل زرت أحداً..

همست "سناء" في سرّها، تبتهل إلى الله أن ينجيها من لسانها، وبطش يدها.

- أجيبي..

- هل زيارة إحدى الجارات جريمة، أعاقب من أجلها؟

أسرعت إلى غرفتها، وأوصدت الباب من الداخل، كيلا يصلها شواظ الغضب.. أخذت تعاتب نفسها بصوت متوتر النبرات:

لماذا خفت وتهربت من الحقيقة؟

لم هذا الرعب الدائم منها؟

من حقي عليها أن تتولى رعايتي منذ زواجها من أبي، كبديل لأمي، وأيضاً لتعزّيني عن مقتل أبي.. توقّفت عند هذه الكلمة (مقتل) كان انطلاقها بشكل عفوي.. واقتنعت بأنها قتلته بمشاحناتها المستمرة.,. والآن تحاول قتلي أيضاً، يبدو أنها رسمت صورة أبي وصورتي في ذهنها، بعد أن تملكت البيت والدكان، وكأنها نوت القضاء علينا، يقولون: وقع اللسان أنكى من وقع السنان.. هل تنتظر الفرصة السانحة للقضاء عليّ؟

أصابتها رعدة من هذا الخاطر.. ردّته إلى خزانة الخواطر..وأوصدتها بتذكر الحديث البهيج الذي جرى بينها وبين خديجة، عند الورود والياسمين، فعادت إليها البهجة، فالكلمات لم تزل تدغدغ مشاعرها بلذة.

حدّثت والدي عن زيارتنا لخديجة، وعن إلحاح "سناء" بالأسئلة عن أمها، وفي الطريق قالت بأنها تفكّر في التحدّث مع أختي هيفاء بشأن مستقبلها.

كان الكون يتنفّس صباحاً، ويبدي جماله صراحة، ويفتّح الأشياء برشاقة، ويستدعي المشاعر للخشوع، ويفتّح القلوب لهذا الكون المنير، بالتوحيد والتوقير للخالق المبدع، ويدلّ على قدرته وعظمته، فأرى آياته في نفسي وفي كل ذرّة من ذرّات الوجود.

كنت في صفاء جلستي، وأنا في علياء السطح، أتأمل ما حولي من طبيعة ساحرة، في بحرها وجبالها وغاباتها.. وروحي تلتقط إشارات إيمانية، وتتفاعل في داخلي، فتملؤه سكينة، واطمئناناً.. قلت: قد يكون الزمن صديقاً للإنسان، يحبّ ليله، ونهاره، وقمره ونجومه وشمسه، وهكذا أحببت الطبيعة بكل ما فيها، فلا تملّ مني، ولا أملّ منها، وتنتشلني من أيّ ضياع.

من ذا العلوّ، وأنا أمرّر عينيّ على الأزقة الرمادية الملتوية بين البيوت، لمحت "سناء" تمشي بحذر شديد، تساءلت: إلى أين تذهب يا ترى؟ راقبتها، ثم لمحتها تتجه إلى بيت خديجة، هبطت الدرج بسرعة، وفي لحظات كنت بجانبها، بادرتها:

- إلى أين؟.. قد يكون هذا تطفلاً مني.

- إلى الخالة خديجة.. منذ التقيت بها، وأنا اشعر بالارتياح والرغبة في التحدّث معها ثانية.

- تبدين متعبة.

- كنت أرقة، أفكّر، ونفسي نهمة إلى الاستزادة عن أمي.

- لا بأس.. هل أكون معك؟

- بكل سرور.

كان استقبال خديجة بمنتهى الحبّ، لم تستطع أن تمسك دموعها عن الانهمار، رجتها "سناء" أن تمدّها بمزيد من الأخبار.

- سأسرد عليك كل ما أعرفه عنها، إنها لا تشبه أيّ امرأة أخرى.

- إنك تبالغين يا خالة.

أومأتُ برأسي وقلت:

- وهذا رأي أمي، وعماتي أيضاً.

بعد أحاديث متفرّقة، نهضنا، ونحن لا ندري أنّ الأقدار تضحك منّا، وتخفي لسناء مفاجآت.. انحرفنا إلى طريق هادئ، بعيد عن ضجة المارين، ولنخليه إلى عربة يجرها حمار، قلت:

- أتدرين أن هذا الحمار يقود صاحبه الأعمى؟.. سنون تلو السنين وهما في هذا الحال، وكأنّ الحمار عين صاحبه، التي يبصر بها، لم أعلم بذلك إلا من أيام، أخبرني أبي بهذا.

- عجباً، كيف يكون ذلك.

- إنها الألفة والمودة بين الاثنين، صاحبه يعامله بإحسان يعطيه من حبّه، ورعايته، يمسح على رأسه وظهره، ويطعمه بيده، ولا يهينه بضرب، أو شتم، حتى صار هذا الحمار، يعرف الطريق موقفاً، موقفاً، ويقود صاحبه إلى السوق دون أن يضلّ.

- سبحان الله! الإحسان في المعاملة تبدو في تجاوب الحيوان مع الإنسان، فكيف إذا كانت من إنسان إلى إنسان؟

- هيا قبل أن تعود زوجة أبيك من زيارتها.

وجدتها تنطلق بسرعة، ثم سمعت من بعيد فتح الباب وإغلاقه، تبعه صوت أم خالد يزمجر، ويرعد، ويكيل الشتائم، رغم المسافة التي تفصلنا.. اقتربت، كانت "سناء" ترجوها أن تخفض من ارتفاعه.. يمكن يا خالة أن نتفاهم بهدوء.

- سألتك، أجيبي، أين كنت؟

- مع صديقتي في مشوار قصير.

- لمحتك وأنت تخرجين من عند خديجة.

بصوت هادئ سألتها:

- لم تراقبينني؟.. لم أعد طفلة.. هل من سبب يحرمني من زيارتها؟

في حالة عصبيّة رهيبة، أخذت تصرخ، وتقسم، وتتوعّد.. هربت "سناء" من أمامها اتّقاء غضبها.

بعد أيام، سألتها عمّا حصل، قالت:

- غضبت مني غضباً شديداً، ولكني أتساءل: يا ترى على ماذا أقسمت، وبأيّ شيء توعّدت؟.. لا أدري، لم أفهم شيئاً، كانت مضطربة جداً، وتتلعثم بجواب القسم.

بابتسامة وببرود قلت وأنا أربت على ظهرها:

- لا تهتمّي.. اتركي الأمر لله.

في صباح أحد الأيام، صحت "سناء" على ضجيج إخوتها، فما كادت تستيقظ حتى فتح باب غرفتها، ودخلت زوجة أبيها غاضبة، تؤنّبها على تأخرها في النهوض.. باستعطاف قالت لها:

- لقد أرقت هذه الليلة لمغص ألمّ في بطني، وها أنا أفيق لمساعدة إخوتي، رغم شعوري بشدة الحاجة إلى الاستراحة.

- وأنا أيضاً أرقت، لأنني لم أدر الجواب على سؤالي.. لماذا تعرّفت على خديجة بنت أم مصطفى؟.. هل دار بينكما حديث حول أمك؟

- تبادلنا أحاديث متفرقة، كان فيها ذكر أمي.

أرادت "سناء" تغيير دفّة الحوار، بلهفة قالت:

- إخوتي بحاجة لمساعدتي.

كان اهتمام أم خالد اهتماماً خاصاً، بتعرّف "سناء" على خديجة، قررت أن توالي تحرياتها، وتشتدّ في مراقبتها لها.

بحيرة تساءلت "سناء": لماذا قطعت صلتي بالجارات بهذا الشكل المريب؟.. نظرت إلى شعاع الشمس المتسرّب من النافذة، يلامس وجهها، كأنه يحثّها على الإسراع في إعداد إخوتها.. بابتسامة ساخرة، قالت:

- مهما كان أمر هذه المغامرة وما يتبعها من عواقب، وعقاب، سألتقي بخديجة المرّة، تلو المرّة، وقد رأيت من خلال شخصها شخص أمي..

ولكن.. ما لبثت أن أحسّت برعدة تسري في بدنها، وإحساس بتلجلج في صدرها، لم تدر إن كان من خوف أو قلق، أو من الوعيد المؤكد بالقسم.. تسمّرت في مكانها، وبدهشة تساءلت: كيف علمت بصلتي بخديجة بهذه السرعة؟.. هل كانت حقاً تراقبني؟ أم هو نوع من أساليب المراوغة للإيقاع بي؟..

حاولت تركيز تفكيرها، فيما ينبغي أن تفعل، لو تكرّر الموقف والوعيد.. فهل تلجأ إلى خديجة؟

لم تعلم كم مضى عليها في تلك اللحظة.. خيّل إليها أنّ الزمن قد توقّف، أو أنه يمر بسرعة هائلة.. تنبّهت من ذهولها، على غمغمة أصوات إخوتها، خرجت إليهم تضمّهم بشوق، وهي تحرص ألاّ تجعل الارتباك يبدو على وجهها.

ارتفع صوت أمهم من المطبخ، تقول لهم:

- لماذا تتصرّفون، وكأنّ الدنيا عيد؟.. وأنت يا بنت هل هيأتهم للخروج إلى المدارس؟

- كما أمرتني.

بعد ساعة اقتربت منها، وقالت:

أين مفتاح الباب؟

هلعت "سناء" فسألتها:

- لم؟

- كي لا تخرجي إلا بأذني.

ثم أردفت بلهجة آمرة:

- شيء من اثنين، مكوث في البيت دائم، أو خروج منه إلى الأبد.

- يعني أنك تحرمينني من دروس المسجد، ومن التنزّه عند الشاطئ.

- افهمي كلامي كيفما تشائين.

نظرت "سناء" إلى السماء، تبتهل إلى ربها بحرارة، وأن يجعل لها من بعد الضيق مخرجاً.. أخذت تلملم ما بعثره إخوتها، وتنظف وتغسل، وفيما هي كذلك، إذا هي تتعثر بالقطة، أثناء تمسحها بها، وهي تموء بصوت رخيم، استطاعت أن تختلس فرصة فتح الباب، لتمرق بسرعة وتختفي بين الأصص.. كررت أم خالد طلبها:

- قلت لك هاتي المفتاح.

- أرجو أن تسمحي لي بالخروج إلى المسجد، فالدرس لا يحتمل أيّ تأخير.. ثم ابتسمت وهي تقول:

يمكننا أن نذهب معاً، يا خالتي.

تذرّعت "سناء" بالصبر، تنتظر الردّ، ولكن سرعان ما تذمّرت أم خالد، وأظهرت عدم انسجامها مع نساء المسجد.. استدارت "سناء" لتدخل ركنها، كي تقصر الحديث معها.

في أصيل اليوم التالي قابلتها في الطريق، وهي في حالة اضطراب، سألتها:

- إلى أين؟

أنسيت أن اليوم الاثنين؟.. إلى المسجد، ثم لأشمّ الهواء عند البحر.

- لم تبدين مضطربة.؟

- سأشرح لك فيما بعد.

أخذت المفتاح من جيبها، وقالت:

- إنّ هذا سيسحب منّي.

- لا داعي للقلق، إن حصل حقاً، فسيكون لديك مفتاح غيره.

- ماذا تعنين؟

- ستعلمين فيما بعد.

بعد الهبوط من درجات المسجد، سألتها:

- أتفضلين التمشّي عند الشاطئ أم العودة؟

- أرغب بنزهة قصيرة جداً، لا أضمن سكوتها عني، وعقابها الأليم، فقد خرجتُ دون إرادة منها.. آه، قصتي معها، ذات شجون ومفاجآت.

- ولذا أنت اليوم في أشدّ حالات الارتباك.

- أجل.. لقد عرفت بزيارتي لخديجة.. كيف؟.. لا أدري ادّعت أنها لمحتني.. اعترفتُ لها.. أكره الكذب.

بهدوء، قلت:

- ليس الأمر ذا بال، حتى يستحق منك هذا القلق.

- ولكن.. توعّدتني.

- بالطرد، وإلى الأبد، أليس كذلك؟

ضحكتُ، وأنا أقول:

- إن الأمر يبدو مزاحاً.

- بل إنها الحقيقة.. دعيني أسرد عليك ما حصل.

وهي تقصّ عليّ، قاطعتها قائلة:

- أصدّقك في كل ما قلته.. قبل الفرج، يحتلك الموقف، ويشتد.. على فكرة: هل شعرت بالانشراح عند خديجة؟

- جداً.. امرأة طيبة، محبة لأمي، في صدرها ذكريات كثيرة عنها، وتعلم أسرارها مع أبي.

توقّفت عن الحديث بقلب خافق، وبلهفة نظرت إليّ، أحسست بما ينتابها، بابتسام قلت:

- اطمئني، لسوف نكون معك في محنتك.

- أليس من الأفضل أن أفكّر فيما ينبغي أن أفعل إن نفّذت وعيدها؟

- هذا صحيح.. ولكن كل شيء في أوانه، لا تتعجلي الأمور.. هل عثرت على قطتك؟

- أخبرتك أليس كذلك.. تسللت إلى البيت خلسة.

- إذاً، هيا، ابتسمي، عادت إليك أليفتك.

ضحكنا، ونحن نتجه إلى الشاطئ، وأقدامنا تغرز صورها في الرمل الناعم، ثم أتانا صوت هيفاء، ترسله مع ضحكة خفيفة خلفنا، استدرنا، كانت عيناها تبرقان بالبهجة، وهي تنظر إلينا، قالت لنا:

- آسفة إن كنت أخفتكما.

ناولتنا لفافات خبز مدهون بزيت الزيتون والزعتر، وهي تقول:

- أعلم أنكما جائعتان، فأحضرت لكما ما يسكت صراخ المعدة.. زادت اللفافات من بهجتنا، وأثارت لدينا شعوراً لذيذاً بالمتعة، ونحن مع جمال البحر، ورقة النسيم، ومع عينيّ هيفاء اللتين تتألقان ببريق جميل.. زال الاضطراب من نفس "سناء" وتناست الموقف الأليم الذي ستفاجأ به لتأخرها.. تحسست المفتاح في جيبها، فازدادت هدوءاً.

كانت قوارب الصيادين تضرب في عرض البحر، وهم يردّدون أغاني الصيد، ويلملمون شباكهم، فتتبعهم أعيننا. بمزاح سألت:

- هل يغنّون ليوقظوا السمك النائم، أم ليجذبوه بنغمات أغانيهم المحبّبة؟

- يقولون: إنّ السمك لا ينام مثلنا، حتى يضرب المثل به، الصيادون يغنون لينشطوا أجسامهم، ويسلوا أنفسهم بهذه الروح الجماعية.

قالت "سناء":

- أراني سأضع أحلامي في سلة، وأرميها في البحر.

- إذن، سيصيدها الصيادون.

كان جماعة من الأطفال يناطحون الموج، ويتصارعون معه، قالت هيفاء:

- رحلة حياة الأطفال تبدأ متألقة، يقظة، وسرعان ما يجنح بعضهم نحو العناء، يقتلهم المرض، أو يندفعون برعونة نحو البحر، وقد يبتلع بعض الضعفاء منهم.

كانت الموجات صغيرة، ولكنها لا تهدأ، ولا تقرّ، و"سناء" في صمت، سألتها:

- ما بك؟

قالت:

- أتأمل المغيب، وهو غريب، يمكث قليلاً، ثم يرحل.

قالت هيفاء:

- انظرا إلى أبي تحت المظلّة، إنه يلملم أوراقه، ليذهب إلى الصلاة في المسجد، ثم إلى البيت.

انطلقنا إلى الطريق، بعد أن استردت "سناء" رباطة جأشها، وهدوء أعصابها، وهي تضحك بابتهاج، فالبحر قد غسل اكتئابها، وطرد الهواجس من ذهنها، مع علمها بتحفز الأفعى للانقضاض عليها، متى سنحت الفرصة.. قالت بتأثر شديد:

- آه، لو لم يسجل أبي ما ملكه باسمها، لانتهت متاعبي إلى الأبد.

أجابتها هيفاء:

- النفس الطموحة، تكون مسكونة بأحلام الحياة الفضلى، عليك أن تناضلي من أجل ذلك، ولا يثنيك استلاب حقك، أو اضطهاد.

تحسست "سناء" المفتاح، كأنها تناغمه بلمسات رقيقة، وحال نفسها يقول: هل هي لمسات الوداع الأخيرة؟

عند وصولها إلى البيت، بسرعة خاطفة فتحت الباب، وصارت في أرض الحوش.

- من؟

- اطمئني، أنا في خدمتك يا خالة.

بوجه مقطب، قالت لها:

- يحسن بك أن تأتي مبكرة، الشمس أوشكت على المغيب.

- كنّا نتمشى بتمهل، أنا، وصديقتي، والمعلمة هيفاء.

كان الغضب يقطر من صوتها، ولكنها تتمالك نفسها، ما كادت "سناء" تبتعد عنها لخطوات، حتى استوقفتها، استدارت، فوجئت بها والعصا في يدها، تندفع نحوها، لتضربها، جرت "سناء" إلى غرفتها، وأقفلت الباب وراءها.

كلما حاولت "سناء" أن ترفع صوتها، وتعري واقعها، تعمل زوجة أبيها على إخماده، وتدفعها إلى تغييبها في وكرها،... ثم سمعت صريخ صوتها... كانت قد اصطدمت بالجدار... وانكفأت على وجهها، ساد المكان فزع رهيب، أسرعت "سناء" إليها، تفرك جبينها، وتجلسها برفق على الحشية، وترعاها بمنتهى الإنسانيّة، والرحمة.

قبعت في البيت لأيام عدة، تهتم بخالتها، وبإخوتها، وأم خالد تلوي عنقها بانكسار، وندم وكأنها تغوص في أعماقها، كبلت الصدمة يدها، ولسانها، والقطة تجري في مرح، وتقفز من مكان إلى آخر، وتلتف حول سناء، وهي تهزّ ذيلها، كأنما أدركت بغريزتها أنّ الأمور قد أصبحت على أحسن حال.

قالت "سناء" في نفسها: الحالة تبشّر بخير.. فلأنتظر وأرى، إن كانت ستستمرّ إلى النهاية.

بعد أن برئت، بدأت "سناء" ترتاب في أمرها.. لا تدري لماذا؟.. صمّمت أن تحتفظ بإحساسها هذا لنفسها.

في ضحى يوم من أيام الجمعة، و"سناء" مرهقة من أعباء البيت، أمرتها زوجة أبيها بإحضار الماء من بئر الحيّ، رفضت طلبها، وقالت:

- يمكن أن يحضره خالد.

بتهكم قالت لها:

- ماذا؟ تريدين من ولدي حبيبي أن يحضر الماء؟

- لم لا؟ قد يكون عنيداً، ولكنه يقدّر المسئولية.

رفعت يدها لتضربها.. دفعتها عنها، وهي تقول:

- بمعاملتك السيئة هذه، تكشفين النقاب عن سرّ مظلم في داخلك، عرفته من دون أن تعرّفيه لي.. للأسف، الأمر لا ينصلح معك أبداً، بل أراه يزداد سوءاً.. أتمنى ألاّ نصل إلى هذا الحد.

- أيّ سرّ تعنين؟

- السرّ الكامن في نفسك، وراء كل الأحداث والمواقف المتتابعة.

دخلت إلى زاويتها، فتحت النافذة، صرخت، امتزج صراخها بعويل الريح، وعواء الكلاب، امتصّه الخواء في الخربة المهجورة، ثم بهمس تساءلت:

هل مات قلبها إلى الأبد؟

هل تسلّط الوحش المفترس داخله؟

هل تريدني أن أغادر البيت، وتهجّرني منه؟

بصمت حاد، أجابت نفسها:

لا أستطيع أن أفعل شيئاً الآن، وأنا في اضطرابي، وألوك أحزاني.

نظرت حولها، جلست تتصفّح كتاباً جديداً أحضرته لها.. كانت الكلمات تمرّ أمام عينيها، من غير معانيها.. سيطر عليها الحزن والأسى، تذكّرت محطّات حياتها:

أول محطة للأسى، كانت في رحيل أمها، وما زالت في الخامسة من عمرها، كان رحيلها صدمة قوية، لا تدري وقتئذ ماذا جرى.. ولا أين رحلت.. ولا كيف سيكون مصيرها.

ثم جاءت المحطة الثانية، بوفاة أبيها، بعد أن أضاء بحنانه ورعايته جنبات نفسها ثم اختفى.. فكأنّ شيئاً من وجودها قد اندثر.

ضاق صدرها بالهواجس والخواطر، أخذت القلم، وذرفتها على الورق:

كنت أحترف الصمت

وفي داخلي بركان، ولهب

صمت أرتديه يوماً

بعد يوم

مللته

خلعته

تمرّدتُ على طقوس القسوة

مزقت المعاناة واللوعة

ولكن..

ليس كل يوم

قد أعتلي القهر، بالصبر

قد أعلك أشواكه

بنداوة المطر

في ظل القمر

مع الوحدة

مع العتمة

وعند جذوع الشجر

وفوق أسوار النجوم

والقمر..

وعند صخور البحر

ثم أمسح عنّي

غبار السفر

هل تعلم أمي عني الخبر؟

ليتها تعلم ما الخبر

أم قلبها صوّان من حجر؟

شملتها راحة نفسية، بعد أن أفرغت مكنونات قلبها للجماد.. جاءها هاتف من الأعماق:

آن لك أن تمضي في طريق منفصلة.

هبّت مذعورة من هذا الهاجس، صرخت، وإخوتي، أحبابي مكاني هنا معهم.. لا لا أستطيع فراقهم.

أخفت وجهها بكفّيها، لم تقدر أن تكتم الآه، ممزوجة بعذاب الحبّ.. أغلقت النافذة، استرخت فوق الفراش، تستجدي الهدوء والنوم.

*   *   *

عند الشاطئ الرملي، الممتد بلا نهاية، المطل على البحر، جلسنا جميعاً، قلت "لسناء" وأنا أتفحصها جيداً:

- لاشك أنك أخبرت زوجة أبيك قبل مجيئك إلى هنا.

- نعم، لكنها سكتت، لم تردّ بشيء، وهذا ما يحيّرني، فصمتها يدلّ على سرّ كامن في نفسها، يتبعه أحداث ومواقف.

- لقد خرجت من مغامرة الزيارة إلى الخالة خديجة، بأعصاب قوية، أو هذا بدا لي على الأقل.. أومأت برأسها، وهي تقول:

- ولكن رأيت من أذاها الشيء الكثير، فقد فقدت السيطرة على أعصابها حينئذ، ولكن سرعان ما جازاها الله بفعلها، ولو كنت أوثر الحقد لما سامحتها. ثم استطردت قائلة:

- إنها الآن مشغولة بأمر ابنها خالد، الذي ترك الدراسة والتحق بدكّان أبيه.

قلت ساخرة:

- ليكون حذّاء؟

- أجل، تصليح الأحذية في هذا الزمن، مهنة رابحة، بسبب الفقر.

ثم خطر لي أن أسألها:

- هل أنت متأكدة أنّ أباك قد ملّكها ثروته، أم أنها إشاعة تروّجها زوجة أبيك لغاية في نفسها؟

- لقد أرتني الوثائق التي احتفظت بها في خزانة مقفلة.. سامحه الله.

- لا يحقّ له ذلك.. ظلمك بفعله.

أثناء الحوار، قرصتني هيفاء بيدي، وهمست بأذني كي أكفّ عن هذا الحديث.. أرادت أن تغيّر دفّة الحوار، فطرحت على "سناء" مجموعة من الأسئلة:

- لقد تعلق قلبك بالمسجد، وفيه حفظت كتاب الله، ماذا يعني لك القرآن؟

بابتسامة أنارت وجهها أجابت:

- إنه غذاء لروحي، لا أستطيع أن أستغني عنه لحظة من ليل أو نهار، وإن أمكنني الاستغناء عن الطعام والشراب.

- وماذا تعني لك القراءة؟

- هي مفتاح سعادتي، وحياة قلبي.

- والأخلاق؟

أطرقت برهة، ثم قالت:

- أرى الأخلاق والإيمان متلازمين، فالأخلاق ثمار شجرة الإيمان، ولا خير في خلق لا يرتكز على أساس من الإيمان الصادق.

أردفتُ:

- عندما سئلت عائشة رضي الله عنها، عن خلق الرسول صلى الله عليه وسلم قالت: كان خُلُقه القرآن.

قالت هيفاء:

- إنّ زوجة أبيك، لا تؤكّد إنسانيتك، وتنتهك حقوقك لابتعادها عن القرآن.

- إنها أميّة، كثيراً ما دعوتها إلى حضور دروس الدين، لكنها ترفض، لا تريد أن تسمع إلا صوتها، أما صوتي فتعمل على إخماده.

- هداها الله، هي في جهل، لا تؤاخذيها على تصرفاتها.

- أصبر، رغم أنها كثيراً ما تغيّبني في زاويتي القصيّة في البيت، مما يدفعني أحياناً إلى الانكماش.. وقد أدخل معها في محاولات هوجاء للدفاع عن نفسي، ولكن دون جدوى.

- سببه الاختلاف والتناقض فيما بينكما.. لذا تعاملك كإنسانة هامشية على وشك الخروج من عندها.. هيّئي نفسك لمثل هذا الموقف.

قالت، وشفتاها ترتعشان:

- كنت أحاول أيضاً أن أصلح ما يحدث بيننا من خلاف، قبل أن يستفحل، ولكني كنت كمن يكتب على الماء.. حتى كثرت أحلامي في النوم، وتجيئني مشوّشة وبلا موعد، وأحياناً تكون كالإلهام.

في المنزل، انتصبت زوجة أبيها أمامها فجأة بضخامتها وابتسامة غامضة تغطّي وجهها، وهي تشير إلى باب الغرفة.. كانت كمن تحدّث نفسها بصول عال، وابتسامتها الغامضة تتسع شيئاً فشيئاً.. هلعت "سناء" رأتها كخفّاش ليلي أعمى، تعصف بجناحيه الريح، ويرتجف خوفاً من حصى الأطفال، وصرخاتهم، بهلع سألتها:

- ماذا تريدين يا خالة؟

- فقط ادخلي إلى غرفتك.

ما إن دخلت، حتى حبستها، صارت "سناء" تطرق الباب كمن يدقّ جوانب نعشه في فزع، مما أثار حيرة إخوتها، وابتعث دهشتهم.. سكنت.. ثم قالت:

إنها سحابة صيف تمر، ويصفو بعدها الجو.

نظرت إلى المرآة المعلقة على الجدار، بشوق عميق، كمن في حالة انتظار، تساءلت في قرارة نفسها:

هل أنا أنظر إلى المرآة، أم هي تنظر إليّ؟

أأنا أتكلم معها، أم هي تكلمني؟

كان بينهما إشارات، ومزاح وضحك، والصوت ينعكس على صفحة المرآة، ويرتدّ في صمت خافت.. ليس يبدو سواهما فيها.. والخواطر في نفسها تلملم أجزاءها، فتضمّها "سناء" في نشيد عذريّ حزين، يدقّ على أحلامها.. فتحت النافذة، كان القمر غارقاً في صفيحة زرقاء، ابتهجت، وقالت:

- إذن لست وحدي، أنا مع القمر، والنجمات، فلأتأبط أحلامي، وأسافر في الفضاء الواسع.

سمعت من وراء الباب، صوتاً هادئاً، في نبرات حزينة يقول لها:

- سأفتح لك..

- وأمك؟

- خرجت، لا أدري إلى أين.

سألتها ليلى:

- لماذا حبستك أمي، أصحيح أنك..

- لا تصدقي كلامها، فقط كنت في نزهة مع صديقتي، وتأخرت قليلاً، هذا كل ما في الأمر.

- نحن نحبّك، ونتضايق من معاملة أمي لك بهذه القسوة.

- حبيبتي، وأنا احبكم.

رفعتها إلى صدرها، ضمتها بحنان، والدموع تتساقط من عينيها، وهي تقول:

- لا يمكن أن تكره أخت إخوتها مطلقاً.

اعتكفت "سناء" في البيت لأيام عدّة، كانت تختلي مع نفسها في ركنها، وتسبح إلى جزيرة الذكريات، التي تتكاثر وتتسرّب ببطء إلى داخلها، تطلّ حيناً بجراءة، وتتلاشى حيناً آخر، وتتلوّن بألوان وخصائص، يستدعي بعضها بعضاً، ويتكرر سؤال في ذهنها:

إلى أين ستقودني هذه المواقف وقد تجاوزت الثانية والعشرين من عمري؟

هل تؤدي أعمالي المتواصلة في البيت، والاهتمام بإخوتي إلى لا شيء؟

كانت الوحدة والعتمة والوحشة، تساعدها على لملمة الذكريات، وتراها تزداد بسرعة، فتتساءل بحيرة:

لماذا لا تتلف مع مرور الزمن كأيّ شيء؟

لماذا لا تنفسخ وتريحني من الأرق؟

ضحكت ساخرة وقالت:

توقّفها علامة توقّف حياتي، أنا أفكر فأنا موجودة.

قد تتراجع الذكريات أمام هدير أصوات إخوتها كالموج.. يلعبون، أو يتشاجرون في أرض الحوش، ثم تخرج إليهم وفي داخلها ثورة مكتومة، ورغبة ملحّة، في تغيير واقعها، وبأن تعيد صياغة حياتها.. هذا ما كانت تشعر به، وكأنها امتلأت وعياً يحركها، ويثوّرها، للتغيير إلى الأفضل، والمواجهة المظفرة مع خالتها.. شدّت يديها في الهواء بانفعال، كأنهما جناحا كطائر، وقالت:

- كرهت الانعزال في الماضي، والتعامل معه للحاضر.. لا أهرب من الحاضر، بل أريد أن أحيل الماضي إلى قوة نشطة دافعة للحاضر في علاقته بالمستقبل.

هدأت، وهي تحاور نفسها، قائلة:

لقد كبر إخوتي، يمكنهم الاعتماد على أنفسهم، عليّ أن أشقّ طريقي.. لم تتح لي زوجة أبي الفرصة لذلك، أشياء تنقصني.. وضعت كفّها على صدرها، خفق قلبها.. من يسكنه؟. ومن يمزج مشاعره مع مشاعري؟.. هل أبقى مجرد خادمة، ومحرومة مهن العطف؟.. إن عزائي الوحيد أنها زوجة أب، وليست أماً لي.

غامت عيناها بالدموع، وهي تستكين إلى تالات شجرة النارنج، لمستها بكفّها برقة، وقالت بصوت خافت:

سأبحث عن أمي.

سخرت من هذا الخاطر.. أبحث عن أمي.. أين؟.. كمن يبحث عن إبرة في كومة قش، وبما يشبه القسوة، قالت:

أمي هي المسئولة عن تفقّدي.

تضايقت من إحساسها هذا، وبدا لها أنّ قلبها بدأت القسوة تستولي عليه.. لا، لا، سأبقى في انتظارها في فرصة واعدة.. ستأتي مهما حلكت الظروف.

جلست تتصفح كتاباً كنت قد قدمته إليها منذ أيام.. ألقت جسدها فوق الفراش.. فركت جبينها غير أنّ حديث النفس ظلّ يثير أعصابها، شعرت بحاجتها الشديدة كي تتنفّس الهواء المنعش بعيدة عن البيت.. ولم تبال بتحذير ووعيد.

في المنتزه تحت ظلال شجرة الصفصاف، جلست على المقعد الخشبي، كانت نسمات تهفهف، تتخللها برودة لذيذة، تسري إلى جسدها.. ومن بعيد لمحت الضباب يحجب رؤية الأشياء.. أراحت الجلسة الهادئة أعصابها، ثم أحسّت بيد تلمس كتفها، وصوت هيفاء يناديها:

- أهذه أنت يا سناء؟.. لم أرك منذ زمن طويل، يبدو أنك تحبسين نفسك.

- ليس بيدي حيلة، خرجت بإرادتي، وليس بإرادتها، لا أكتمك، أني أتوجّس الخوف، وسوء العاقبة.

- لا داعي للخوف، لسوف تنتهي الأمور على خير.. ثم إنّ قضيتك ليست اليتيمة في البلدة، بيئتنا تحوي الكثير من المنغّصات، السبب هو..

- أعلم.. الوازع الديني قد أصبح ضعيفاً في النفوس.

اقتربت هيفاء منها، وهمست:

- بدرية وحليمة العمياوان، طردتهما زوجة أخيهما بعلم منه، منذ سنوات.. أحالك أصعب، أم حالهما؟

- أعلم أنهما تسكنان معاً بلا معيل في بيت قديم، في الحارة، وتعملان على كسب رزقهما، بنقل الماء من البئر إلى السكان.. أف، لماذا أصبح المجتمع بهذا الشكل المخزي؟

- ظروف صعبة، تمرّ بها أمتنا بعد الاستعمار، ولم تزل تتعثّر في النهوض، ويحاول المخلصون تدارك الوضع وترميم الصدع.

- لقد حمّلتني هموماً فوق همّي، مأساتي الخاصة ومأساة الوطن عامّة، مرّت لحظات صمت، ثم هزّت هيفاء برأسها قائلة:

- الشيء الغريب أن تتعذّب امرأة بيد امرأة أخرى.. نعرف أنّ حكاية المرأة المعذّبة تكون جراء تسلّط الرجل في مجتمعنا العربي، وليس العكس.. لقد تغيّرت الموازين، وأصبحت الحياة كالموت، ومن هنا يأتي ألم المرأة.

ثم قالت "سناء" وهي تنظر بعيداً:

- انظري إلى الضباب ما أكثفه!

- إنه كغيمة رمادية، هبطت من السماء نحو الأرض تمازحنا، وتحجز عنّا رؤية الأشياء.. ثم تتلاشى رويداً رويداً، في صراع مع شعاع الشمس والريح.

كانت الشمس تظهر ثم تختفي خلف الضباب، نهضنا، نسير في طريق تحف الأشجار على جانبيه، نتّجه داخل الحيّ، ونحن نتحدث بشتى الموضوعات.. ثم تسلّلت "سناء" من مدخل المنزل إلى ركنها خلسة، وتفكر بالأحاديث التي دارت مع هيفاء.. آثرت العزلة، ثم الاستسلام لليل من النسيان، أو ما يشبه النسيان.

في صباح أحد الأيام، استيقظت مع أنفاس الكون، تتسلّل إلى صدرها، انتشت الحياة في جسدها، امتدت عيناها إلى الخربة المهملة، تراقب المكان، وتتأمّله، كأنها تراه لأول مرة، النباتات البريّة، تختلط خضرتها، بهشيم الأشواك، ونحلة تمتص رحيق زهرة، وهرّتان تتناجيان بصوتين رخيمين، سرح خيالها، وفي انعتاق خلوتها همست:

مشاهد تستجيش المشاعر، أليف يناجي أليفه، في جانحي قلب يرفرف، وحسّ رقيق، يبحث عمن أبثّه أشجاني، في فرحي، وأحزاني.. رحلت عيناها إلى صفحة السماء، تبحث عن قمرها، ولكن قد غاب في تموجات الأنوار، وأحضان النجمات، متدثراً بضياء الشمس، ثم ليعود مع الليل هزيلاً، قد أضناه السفر، كان الهوى يثور بين جنبيها، تأملت نفسها في المرآة، تسلّل إليها شيء من الإعجاب، أحسّت به هاجساً ممتعاً، تضافر مع الحنين، والتفاؤل.

كانت وتراً يبحث عن صنوه في أعماقها، ونجمة تائهة، تفتقد قمرها في مدارها، ومسراها، ومن عمق الوحدة والوحشة، والقيود تكبّلها، سكبت من إحساسها في كلمات تحملها خواطرها.

حنيني عذاب وألم

وشوقي لهيب وحمم

ووحدتي ضياع وسقم

ونفسي تموج بالهمم

ترى:

ماذا بعد الانتظار؟

هل مرارة، ثم انهيار؟

يا زمن:

لا تكن معي في خصام

انتشرت الأنوار، والدفء في كل مكان، فصعدتُ إلى علياء السطح المطلّ على البلدة، كان الهدوء يحمل شقشقة العصافير، وأمام عيني البحر يمتدّ بلا نهاية، وزوارق الصيّادين تلمع تحت أشعة الشمس، كنجمات هوت من السماء في صفحته، وأخرى تسرع نحو جزيرة أرواد، كنت أتأمّل ما يحيط بالبلدة، من جبال تنحدر من قممها الشلالات، وغابات داكنة من خضرتها، وطيور مختلفة الألوان، والأشكال، تجول في الأجواء، ثم تحطّ على ذوائب الأغصان، ضامّة أجنحتها، مترنمة بألحانها.. كنت أتجول فوق السطح الواسع، وأتنقل من جانب إلى آخر.. وقد اقترب إلى الجهة المطلّة على البيوت المتراصّة، ينقل الهواء بعض أحاديث كأنها لم أدر كم مرّ عليّ من الوقت، وأنا في تجوالي وتأمّلي.. من خلال السكون، والمتعة والمناجاة، انبعث صريخ، وأنين روّعا متعتي، وخدشا سمعي، كان يصدر من بيت أم خالد، شاهدت منظراً مريراً، "سناء" متقوقعة كالسلحفاة في أرض الحوش، تخفي رأسها بين يديها، تحميه من ضربات القبقاب الخشبي.. ثارت غيرتي وصمّمت أن أدفع عنها المهانة، والألم، في لحظات صرت في بيت أم خالد، كان قلبي يجف وينفطر ألماً، ولسان حالي يقول: آن الأوان الذي ننتظره.

بأسى قلت:

- انهضي يا "سناء" لا بأس عليك، بشفقة ضممتها إليّ، تدلّى رأسها فوق كتفي، ودموعها تنهمر بغزارة، ونشيجها يتقطع بصمت.. سوّت شعرها المنتفش من جور اليد الظالمة عليه، وبصوت خافت، قلت لها:

- دافعي عن نفسك، اجهري بصوتك.

ثم التفتّ إلى أم خالد، التي وقفت مبهوتة من مجيئي المفاجئ، وعقدت الدهشة لسانها، كانت نظرتي إليها مزيجاً من اللوم، والكره قلت:

- "سناء" قد غدت شابّة، ولم تعد سهلة الانقياد، ولا تستحقّ هذا الضرب المهين.. اتقي الله يا خالة، إنها تحتاج إلى رعايتك وكلمتك الطيّبة تجبر كسر نفسها وإلى حنانك، ألا تعلمين أنّ امرأة دخلت النار بهرّة ظلمتها، فكيف إن ظلمت امرأة قادرة يتيمة محرومة كسناء؟.. مهما كان فعلها، فلا تستحقّ مثل هذا العقاب الأليم.

- "سناء" تكلمي، قولي شيئاً.

شرقت بدموعها، ثم قالت:

- عقابها لي بسبب اعتراضي على إحضار الماء من بئر الحارة، يمكن لأحد من إخوتي أن يقوم بهذا العمل.. خالد شاب يمكن الاعتماد عليه، و..

قاطعتها أم خالد، وهي تلوّح بيدها:

- مستحيل، هذا أمر مستحيل.

وبتساؤل ساخر، قالت:

- ولدي، يحضر الماء؟

قلت:

- إنها كائن بشري، يحق لها التعبير عن رأيها... ثم لا أظن خالداً يعترض.

بإصرار قالت:

- إذاً، لسنا بحاجة إليها... الأمر قد انتهى..

سألتها "سناء":

- ماذا تعنين يا خالة؟

- افهمي ما أقول.

- لقد فهمتُ، ولكن لا أريد مغادرة البيت.

برفق قلتُ:

- لم ينته الأمر يا خالة، يمكن إصلاحه، أليس كذلك؟

- بل انتهى، يمكنها أن تغادر البيت.

كانت "سناء" ترتجف من الألم، نظرت إليها بذهول، وقالت:

- لم تخبريني صراحة يوماً ما، بأنك ستبعدينني، ولكن تصرفاتك معي دائماً كانت تشي بذلك.

بدهشة قلتُ:

- أحقاً ما تقوله "سناء".. يا خالة؟

- ....

ارتجفت "سناء" وهي تواجه هذا المصير المحزن، وتلمسه حقيقة في وجه زوجة أبيها، إذ كانت جادّة في قرارها، وكانت "سناء" تعيش هذا الوعيد، ولا ترتاب فيه، وبمرارة قالت في نفسها:

- هل أخسر كل شيء في لحظة غضب، من هذا الزمن؟

تمالكت نفسها، وقالت باستسلام:

- سيكون الله في عوني... لن أضلّ أبداً، وسأعيش حياتي، يوماً بعد يوم.

كان إخوتها مجتمعين في الليوان، يراقبون الموقف بتأثر بالغ، وقتئذ، هربت ليلى إلى الغرفة، أخذت تضرب السرير بيديها، وتصرخ، لا نريد أن تتركنا "سناء"، لا نريد...

قالت لي "سناء" بصوت خافت:

- صدّقيني، يصعب عليّ فراق إخوتي.

قلت:

- هراء، هذا هراء،

- سأفتقدهم، يمكن أن أسامحها على كل شيء، وأتحمل الألم من أجلهم، لا أقدر على فراقهم أبداً.

حاولتُ أن أهدئ الموقف، فلم أفلح، ثم سمعتها تقول باستعطاف:

- هل تجبرينني حقاً على مغادرة المنزل؟

- أجل.

- ستبقى صلتي مع إخوتي، إن سمحت...

ثم نظرتْ إليّ تسألني:

- ماذا أفعل؟.. أشيري عليّ.

ضغطتُ على يدها، وقلتُ:

- أن تغادري، خير لك من البقاء في ذلّ، ومهانة.

- آه، إنني في حيرة، بين صوت الحرية، وأنا في العذاب، وأصوات إخوتي... الموقف صعب كما ترين.

- إني أحسّ بترددك.

بلا مبالاة قالت أمّ خالد:

- لملمي أشياءك، واخرجي.

- إلى أين؟

قلتُ بعصبية:

- كفي عن الجدال معها، لا جدوى من ذلك، أنا متأكدة أنك ستحصلين على ما تريدين من الحياة، وأنت بعيدة عن هذا المكان.

اتجهت إلى ركنها، خفق قلبها وهي تنظر إلى النافذة الأثيرة لديها... كم ناجت منها القمر، وسمرت مع النجمات، وسافرت مع الأحلام!!.. ألقت نظرة وداع تجلب إليها خدر النوم، والرؤى، لملمت ذكرياتها من الأشياء، كان من بينها منديل أمّها، يعبق بالذكرى، ضمّت إليه أجزاء من لحاء شجرة النارنج، نقشت عليها كلمات، وتصاوير... أشياء تنبض بالحياة، والوفاء... توقفت عيناها عند زجاجة المصباح، كانت تتشح بالسواد، كأنها ترتدي ثوب الحداد على فراقها.

غمرتها فرحة وحماسة، لم تخل من ضيق، وغادرت دون أن تودع إخوتها... لا تريد أن تبكي، فربما تلاقوا، ولكنها ستتحسر على الأيام التي ضمتها معهن، وعلى كل الأشياء التي تعلمتها، وترجو الله ألا تشعر بالندم.

أسندت رأسها إلى جدار في الحارة، سكنت كسكون الموت، خافت من المجهول.. قلت:

- لقد كنت ضائعة، مشوّشة الذهن.

- علمتني التجارب أن أتخذ قراري.

- أراك متعبة.

- أشعر بدوار، لا أستطيع أن أتحكم بالألم... آه: كم كان أبي مغفلاً حين طلّق أمي، وتركها ترحل!

كانت تنظر إلى موقع قدميها بذهول، تغوص في أعماق الصمت... فجأة فتح باب البيت، وأطل خالد، وبيد مرتجفة، وعينين قلقتين، قدّم لها تالة شجرة النارنج، وفي تهدج مؤثر، وكلمات مرتبكة بين شفتيه قال:

- أختي سناء، أحبك، والله أحبك.

كان خالد في تصالح مع نفسه، في لحظة ود، ونقاء فطري طوتهما الضغوط، وتراث من الخوف... انبهرت أنفاسها، فأوشكت على البكاء... وفي لهجة صافية، ندية، قالت له:

- وأنا يا أخي أحبّك، والله أحبكم جميعاً.

كان وقع الكلمة على نفسها عذباً، إنها المرة الأولى التي تسمع فيها كلمة أختي، من قلب سليم، لم تحفر فيه الأحقاد،لم تدر بعدها ماذا قال لها، وهي في قمة التأثر، ثم لا مست أذنها كلماته، يتباهى فيها برجولته، وهو يتحسس بأطراف أصابعه زغباً فوق شفته. وبصوت خشن، يثنيها عن الرحيل، بهدوء قالت:

- إنّك يا أخي تفكر بقلبك، وليس القلب حكيماً دائماً، ولكنّه بين الحين والآخر، يدفعك لأن تقول شيئاً رائعاً... الرجولة يا أخي ليست بالشارب المفتول، والصوت الخشن، والعضلات القوية، هذه ذكورة.

باستغراب سألها:

- وما الرجولة؟

- هي قيم، وأخلاق، وشهامة، واحترام للمرأة، وفضائل في تراث إسلامي بعيد عن الجاهلية... وصيتي لك أن تلازم دروس الشيخ عبد الله المجذوب في المسجد، تتعرف من خلالها على معنى الرجولة، كما جاءت في القرآن الكريم، وسيرة سيد المرسلين.

تراخت يدها من يده، جاشت عيناها بالدموع... ثم توقفنا نتحاور، أطرقت صامتة، تفكر في وسيلة تنقذها من الموقف الصعب، لكن الانفعال مازال يستولي عليها... رأت في الفراق شيئاً من معنى الموت... ردّدت كلمتين تحملان فيضاً من المشاعر: أختي، أخي وقالت: ما أعذب وقعهما في القلب، وهما تفيضان بصدق المحبة، في لحظة احتضار الوداع، ستبقيان زاداً في حياتي... كثيراً ما كنت أستجدي هاتين الكلمتين، وأستجدي معهما شيئاً من الحرية.

هززتها من كتفها، وكأني أوقظها من غيبوبة، قائلة:

- لا ترحلي بعيداً مع تصوّراتك... هيّا معي إلى بيتنا.

بحدة قالت:

- مستحيل، أنسيت الرجال في بيتكم، أباك، وإخوتك، وأعمامك.. لا أريد أن أعرض نفسي لعلاقات مرتبكة، تسيء إلى سمعتي.

- بلى، أنت محقة، وبلدتنا تتحكم فيها التقاليد، ونعوذ بالله من شر خالتك، وسوء ظنها.

هاجت في ذهني فكرة، فقلت:

- عند خديجة، بيت بلا رجل، نساء ثلاث فقط، خديجة، وأم مصطفى، وفاطمة... أسرة بلا مشكلات، حب، وئام، وأمان.

بسرعة قالت:

- موافقة.

- تمشينا قليلاً، قبل أن نصل إلى غايتنا، قلت:

- بيت خديجة لا يتعدى الغرفة الواحدة، مع فناء صغير.

- سبق أن شاهدته، مساحة صغيرة في زاوية الغرفة تكفيني.

كان ترحيب الأسرة حاراً، بشوشاً، كن يتوقعن مجيء "سناء" بين يوم، وآخر. كانت ألفاظ خديجة تقطر بالمحبة، وتقسم إنها وفاطمة ابنتها سواء بسواء، وتأخذ بيدها قائلة:

- يسرنا أنك جئت، انظري، لقد هيأنا لك المكان الملائم. وتمسح على رأسها، وتضمها بحنان، وهي تدرك مدى العلاقة التي كانت مع فاطمة، علاقة حميمية، مرت بطفولة واحدة.

بامتنان، قالت "سناء":

- لجوئي إليكن يشعرني بالأمان، والقوة، والثقة بنفسي.

سيكون كل شيء على أحسن ما يرام.

ثم بلهفة سألتها:

- كيف تقبلت أمر الطرد؟

- كما لو أنه فنجان سم.

- انسي كل شيء... لا بد من لملمة شتات حياتك، والتخلص من القلق، وستبقى الحقائق في طيات الكتمان، وأروقة الصمت.

تأوهت وهي تقول:

- لقد نلت نصيبي من المعاناة... كنت أبكي كطفلة، كانت جلفة جافية، بعيدة عن الإنسانية في تعاملها معي، صبرت كثيراً، أما الآن فأنا في وعي، ولم أعد مغلقة على نفسي.

- أمثالك كثيرون يا ابنتي، إن ما تفعله زوجة أبيك ليس عيباً خاصاً بها، إنها عيوب اجتماعية عامة تقريباً، والهموم تؤرق الكثير من البائسين، والبائسات.

- حدثتني المعلمة هيفاء بذلك، وكلما اندفعت في التفكير بالبائسات أراني أفكر في مساعدة من كانت مشكلتهم كمشكلتي.

- هكذا هيفاء، تبحث عنهن، بتوجيه من أبيها، لتخفف عنهن.

كانت عيناي تجولان بينهما، ثم نظرت إلى "سناء" بجزل قائلة:

- أعتقد أن اللون قد عاد إلى وجهك، بعد أن زال منك الدوار.

- أجل..

كانت الأيام تمضي في هدوء، مع الأسرة الصغيرة، و"سناء" تشعر باطمئنان.. قالت لخديجة:

-  تصوري يا خالة مدى امتناني لك، إنك طيبة جداً.

- فضفضي عما في نفسك.

- سأخبرك بأمنيتي... أريد أن أعمل، وأكسب، كي لا أكون عالة عليكن... لقد طويت صفحة الماضي، وأرى أن العمل والنشاط يعطيان حياتي معناها، ويؤكدان الإيمان الصحيح في بيتك الصغير، ستنفتح أمامي الآفاق المغلقة، التي أتطلع إلى تحقيقها منذ زمن بعيد.

برفق قالت لها:

- أنت هنا بمأمن، وستجدين الرعاية والتشجيع.

كانت أم مصطفى عجوزاً حكيمة، تراقب وتسمع الحوار، بوقار قالت لسناء:

- إنّ التجارب تعلّم الإنسان شيئاً مهماً، فحواه أنّ في العالم لغة يفهمها الجميع، استخدمها الإنسان لتطوير حياته، وهي لغة الحماسة، ولغة العمل الذي يؤديه بشغف واندفاع، لتحقيق نتيجة يتمنى بلوغها، أو نتيجة يؤمن بها.

تساءلت "سناء":

- هل كلّ من يعرف حلمه، يسعى لتحقيقه يا ترى؟

*   *   *

كان الشتاء قد جرّح كفيّ أم مصطفى، صار ملمسها كعيدان القش الخشنة، الحقول في الصيف تحتضن الحصّادين رجالاً ونساء، يحنون رؤوس السنابل، فتستسلم للمناجل الحادّة، كانت "سناء" تنظر إليها بشفقة، ورأفة عجوز تحمل السنين العميقة على كاهلها وفي صدرها تجارب جرحى، ومواسم الحصاد تدور، والمناجل فوق أكتاف النساء كالرجال، وجفونهن مقرّحات بغير دموع، يمسحن الغبار الكثيف عن وجوههنّ بعرق الحياة، يسيل من جباههنّ كاللآلئ، يهيّجه شعاع الشمس، بمرارة تساءلت:

- أهذه هي الحياة، أم هو بؤس الحياة؟

يزدن الغنيّ غنىً من معاناتهن، ونصيب أسرهنّ من فضلات الحقول، وحفنات من الليرات.

بلهفة اقتربت من خديجة قائلة:

- أريد الحقيقة عارية، حدثيني بها.

بلطف أجابتها:

- لا ترهقي ذهنك بكثرة التفكير.

- أحاول أن أتصوّر.. ولكن لا أتصوّر شيئاً.

كانت الرغبة تلحّ عليها، وتدفعها لمعرفة شيء عن حياة هذه الأسرة، نساء بلا رجل.. بهدوء أخذت خديجة تحدّثها عن ماض أصبح ذكرى:

كان "صدّيق" والد فاطمة من الجنود المغاربة، المرتزقة في الجيش الفرنسي زمن الاستعمار، عزّ عليه أن يحارب أهل ملّته، فكان مع الذين ينسلّون ليلاً من الثكنة العسكرية إلى البلدة، ليعلموا المسلمين بأخبار العدو، وخططهم، حتى إذا أوشك أمرهم على الانكشاف، انضمّ "صدّيق" مع إخوانه إلى المجاهدين، وشاء القدر أن يستقر بالزواج مني ثم لتتم الأسرة بفاطمة.

قطع حديثها غصّة، ثم قالت:

- لم تطل حياته معنا، فقد توفاه الله.. هذه حكايتنا.

- وبعد ذلك؟

- اضطررنا أنا وأمي للعمل، لنربي فاطمة، ولشراء هذا البيت.

كان صوت ابنة فاطمة يمزّق سكون الغرفة، ويحلّق في فضاء البيت، تنادي أمها بصوت متلهّف، وقد اقترب موعد مجيء فاطمة لتأخذ الصغيرة معها إلى منزلها.

قالت "سناء" بأسف:

- الحياة لا تخلو من المتاعب، نقهرها بالأحلام، فالحلم جنين الواقع، وثورة على المعاناة، نسعى به للوصول إلى غايتنا.

سرحت بخيالها بعيداً، سألتها خديجة:

- بم تفكرين؟

- بالعمل، كيف يمكنني أن أتدبر الأمر؟

التزمت خديجة الصمت، ثم قالت:

- أنت محقّة، العمل سيمنحك لمحة جميلة في حياتك، فيه كسب، وتغيير في نفسك.

- إنه أفضل من تضييع الوقت، ككثير من النساء، بالثرثرة مع النارجيلة، وفنجان القهوة، وأسخر حين أرى البعض ينفقن أموالهن على المظاهر الخادعة، يستجدين الجمال، فالجمال يشع من داخل النفوس.

سألتها خديجة:

- أي نوع من العمل تهوين؟

- لديّ هواية في خياطة الثياب، تحتاج فقط إلى أدوات بسيطة، ووقت فراغ، وصبر وإتقان.

ثم بابتسامة أردفت:

- بحيث لا تثنيني عن تغيير مساري، عن الخط الذي نهجته لحياتي، ففي ذهني أحلام أسعى لتحقيقها.

- سيكون لك ما تريدين.

ازدادت ثقة "سناء" بنفسها عن طريق العمل، وجعلها ترتبط وتتواصل مع البيئة، وتتكيّف معها، وتتعرف على الكثيرات من النساء ولم تعد تحسّ بالغربة والعزلة، أمور أشعرتها بالجذل وهي في بيت خديجة.

كانت المعلمة هيفاء تزورها بين الحين والآخر، تراقب حالها عن كثب، سألتها في إحدى المرات:

- بم تحسّين وأنت مع ماكينة الخياطة؟

بثقة أجابتها:

- فيها منفعة، وهي وسيلة اتصال مع الآخر، وتشعرني بإنسانيي.

تأملتها هيفاء وقالت:

- لقد ورثت الكثير من صفات أمك.. كانت متميزة بذكائها وإقبالها على العلم، وعلى التعرف على البيئة المحيطة بها.. هذه صفات تجعل الإنسان قادراً على تطوير نفسه.. ألا تزالين تقبلين على القراءة، أم شغلك العمل؟

- العمل وسيلة، كما أشغل وقت فراغي بالقراءة.. على فكرة، أقرأ في هذه الأيام لنازك الملائكة، في مجلة الآداب التي قدّمتها لي، وأنا معجبة بشعرها.

- ما سبب الإعجاب؟

- شعرها يختلف عن شعر الآخرين، فيه تفجّع على الوطن، وينبض بالألم والقلق، والمغامرة وكونها امرأة شاعرة بين الرجال. ثم علا وجهها الحبور، وهي تقول:

- وأنا مثلها أعشق الليل والقمر.

- أمك كانت أيضاً تقول الشعر، وتطلع والدي عليه.

- أخبرتني خديجة بهذا، وبأنها كانت تلحّنه، وتنشده بصوتها الجميل.

قبل أن تنصرف سألتها:

- أراك تهتمين بزيّك ومظهرك، وهذا شيء حسن.

- مظهر الإنسان وجوهره عنصران متمّمان لشخصيته وتقوية صلتك بهم.

ابتسمت وهي تقول:

- ويبقى اتصالي بنساء المسجد الأقوى.. القسوة والحرمان دفعاني للارتقاء نحو عالم القسوة والحرمان، وأيضاً الشعور بالغربة في بلدتي.. أودّ أن تشركيني بنشاط اجتماعي.

- بكل سرور، سيكون لك يوم لمساعدة المحتاجين.. هل لديك الاستعداد للتواصل مع الأختين الكفيفتين، بدرية وحليمة؟.. إنه عمل إنساني تؤجرين عليه.

- موافقة.. ولديّ أيضاً رغبة تراودني منذ حفظت كتاب الله في تعليم الأطفال التلاوة كالشيخة بدرية رحمها الله.

أين المكان؟

قام خيال "سناء" بملء الفراغات، وظلّت الفكرة تغزو تفكيرها فثمّة شعور فطريّ يربطها مع الأطفال، وتتساءل: هل الواقع يئد حلمها؟

قالت هيفاء:

- لا تفكّري كثيراً، سأدبّر الأمر قريباً.

 بعد انصرافها، سرحت قليلاً، والبشاشة تغمر وجهها، سألتها خديجة:

- هل بك شيء؟

- أفكر بمعاملة الناس لي بطيبة شديدة، كانت أمنيتي أن يكون لي مكانتي بينهم، حين كنت أبحث عن مغزى حياتي، في الماضي والحاضر.. لقد شاء القدر أن تقدم لي هيفاء وأختها، بدراية أو دون أن تدريا دوراً هاماً في إنقاذي من الظلم، ثم تنهدت وهي تقول:

- الحياة من غير حب جافة، كأرض قاحلة، لا ماء فيها، ولا مطر، ولا نداوة.

- الفضل يعود إلى  والدهما، الذي يوجههما نحو ذلك، ويبالغ في تصوير دورهما.. كنا نخشى عليك دائماً، فما كنت تخرجين من حفرة إلا لتقعي في حفرة أخرى.

- هل صحيح أن هيفاء ستتزوج، وترحل عن البلدة؟

- اسأليها غداً.

في الغد سألتها، فأجابتها:

- ما رأيك يا "سناء" لو وجّهت إليك نفس السؤال؟

- موافقة ولكن..

- ماذا؟

- يصعب عليّ رحيلك، الفراق مرّ.. متى سيتم الزواج؟

- بعد شهرين تقريباً.

اختلطت الفرحة مع الحزن، تهدّج صوتها، وهي تلقي برأسها بين كفيها، قائلة:

- رحيلك سيذكّرني برحيل أمي.

- دعي التفكير بما لا يجدي، وتابعي التقدم في تغيير حياتك، ولا تيأسي.

ثم لوّحت بيدها:

- سأراك لاحقاً.

في الليل كانت "سناء" تتأمل صفحة السماء كبحيرة زرقاء، يتلألأ فيها القمر والنجوم، أحسّت بالرهبة، وتداعت التساؤلات في ذهنها:

أيّ إدراك لعظمة الخالق الذي أبدع هذا الكون؟!

أين نحن منه؟

لماذا لا تسقط النجوم على رؤوسنا؟

ظلّت نفسها في حيرة، خلفتها حيرة ثم تساءلت:

إلى متى وأنا أرتاد الفضاء بخيالي وتفكيري؟

ثم فتّق الأمل نفسها بأمنيات ووعود، أخذت تقتفي آثارها في جوف الليل، وتطير بأجنحة، في آفاق بعيدة المدى.. تحاول أن تبعد الأرق، ولكنه كان عصياً، ثم غفت وفي صدرها حلم يجول.. نهضت في الصباح على طموحات، اقتربت منها، وعدها بها الخيال.. استهزأت حين تذكرت ناطحات السراب التي بناها الليل، ثم يأتي النهار ليمحو ما بناه.

أعطاها العمل المال الكافي، وعرّفها على رؤية القسوة المؤلمة، وجدت أن قسوة الحياة لم تكن من نصيبها وحدها، أصابت الكثيرين، ولكن رأت أن الفقر في معظمه كان من نصيب المرأة، وقد تتعرض للموت بسبب تردّي الرعاية الصحية، وانخفاض المستوى الاقتصادي.

آمنة التي تعرفت عليها، كانت ظاهرة للفقر، متكررة، كان هيكل جسدها يوحي بالجوع والحرمان، جعلت منها شأناً محزناً، تتقرح منه الجنون، وترنو إلى ثغرة فرج تبلل الشفاه الظمأى، وتملأ البطون الخاوية، وبقي الأمل يراود الجميع بمستقبل يحمل البشرى، بعد رحيل المستعمر الذي أهلك الحرث، والنسل، وبقيت آمنة ومثيلاتها أمانة في صدور الغيورين على أعراض الأرامل، يأملون في نهضة، تقهر الذعر، والفقر بعد أن أصبح الموت زائراً يومياً للبائسين.

بمنتهى الأسى قالت خديجة:

- بالأمس، قضى السلّ على جارتنا أم عبده.

باستغراب قالت:

- منذ أيام شاهدتها تغزل الصوف بالمغزل، وحولها صغارها.

- كانت تعمل لتعيلهم، بعد استشهاد زوجها.

- وماذا يفعل البكوات، والأغوات بأموالهم؟

- يشيدون القصور، والحدائق خارج الأحياء القديمة.

- الألم ينغرس في صدور المتألمين، ويركن إليها.

صار للبيئة امتدادها النفسي لدى "سناء" وفي ضميرها، ووجدانها، حتى صارت كهفها تجول فيه مع هيفاء، وبدونها هي غصن ذابل فصل عن أصله.

قد تسأل "سناء" الغادين، والرائحين عن أمها، عسى أن تلتقط خبراً، أو إشارة تسرّها، ولكن الكلمات تبقى متعثرة في معانيها.. وقد يلحّ عليها خاطر مجنون في سفر، وبحث في الدروب، تهتف باسمها، ثم يرتد الخاطر مخذولاً.

في أحد أيام الصيف، والمناخ يغري بالتنزه، انطلقت "سناء" إلى الشاطئ، كان أولاد يعلّقون فتات الخبز بطرف السنارة، ويلقونها في فجوة بين الصخور، يرصدون حركات السمك المغفّل وهو يدور حول الطعم بنظرات متردّدة، يبدو في حالة جوع شديد.. ما إن اقتربت سمكة تنهش الخبز حتى التقطتها السنارة، أخذت تضطرب، وتحاول الفرار، وأنّى لها ذلك، فالخيط بيد الولد يجرّها إليه.

كانت "سناء" تراقبهم، فالبحر عندها وسيلة للمتعة، والتأمّل، وعنده تقوم برحلة غامضة عبر السنين، تراه يلغي المسافات والأزمنة، وتبحث عن هدف، ومستقر فتتساءل:

- أهو العمر ينفرط فيه الوقت، وتسقط حباته كهشيم الرمال، وتوحش الأمكنة؟

كان الرمل يوشك أن يحترق من الشعاع، والطيور تهرب باحثة عن فضاء جديد، فتتساءل:

أين تفرّ الوجوه، والقلوب الحزينة وهي تراجع أحزانها؟

هل كانت أمي طيراً شارداً ممعنة في الهرب إلى مستقرّ جديد؟

آن لها أن تستريح من العذاب الذي كان يطاردها.

هل أنا امتداد لهمومها في الغربة؟

أتراني سأبقى واقفة في درب الانتظار؟

إني أتهشم أمام هبوب أفكاري، وأتساءل: إلى متى..؟

بدأ الصيادون يلملمون عند الأصيل ما تناثر من الوقت والصيد، ألقت نظرة وداع، وهي تقول:

إنها الحياة متماوجة، متشابكة، ليت الفرح يعود للعيون والقلوب باللقاء!

قبل الانطلاق سمعت هيفاء تقول:

- جلسة لطيفة يا "سناء" أرجو ألا أعيقك عن التفكير البهيج فيما حولك.

- إنّ الطبيعة جزء من كياني، أجري إليها كلما سنحت الفرصة.

- رغم الراحة، والاطمئنان عند خديجة، لم تفلتي من قبضة التفكير المضني بأمك، أليس كذلك؟

- أجل، وينبعث فيه خيالها، وفراقها يبقى هاجساً أليماً، يهزّ وجداني، وتكرّ الذكريات نشطة بين المشاهد.

- حدثيني ببعضها.

- راودتني ذكريات الطفولة وأنا أجري خلف بنت فاطمة، تذكرت أحاسيسي ومشاعري القديمة، وأنا في حجر أمي، تمرّر أصابعها خلال شعري، وتحكي لي حكاية جميلة، وتذكرت الألم الذي كان يستحوذ عليّ حين تبتعد عني، وكلما نظرت إلى طفل، استولت عليّ أحاسيس الدهشة، والعفوية.. أحملق في براءته، يلاحق فراشة ملوّنة، أو نحلة تطير فوق الأزهار.

- لمّ الله شملك بأمك قريباً.. أنصحك أن تحرصي على أن تكوني واقعية في حياتك، وأن تغوصي في تضاريس الواقع بصبر، لتنسي متاعبك النفسية.

- الفراق شبح يطاردني بلا نهاية، حتى صرت أتمنى أن يضرب الجفاف قلبي.

- هكذا سيرة الحياة، اتصال وانفصال.

كانت الشمس توشك على المغيب، عندما اتجهتا نحو الحيّ، و"سناء" هادئة لا تخشى تأنيباً أو ضرباً يصبّ عليها صباً، سألتها هيفاء:

- هل شاهدت بدرية، وحليمة؟

- رأيت بدرية تتجه نحو البئر، تحمل صفيحة الماء، كانت حافية القدمين، تسحب ذيل ثوبها وراءها، كالريح تسحب التراب، ثم تتحسس الحبل بكفين متشققتين، جذبته لها، وأعنتها على حمل الصفيحة، كما تفقدت حليمة في البيت، واشتريت حاجياتهما.

- بارك الله لك، إنه عمل تؤجرين عليه.. لديّ نبأ مفرح.

- ما هو؟

- هيأت لك مجموعة من الأطفال، برضى أمهاتهم، والمكان في المسجد.

أشرق وجه "سناء" ورقصت الفرحة في عينيها، وتعلّقت الدموع بأهدابها، كانت هيفاء تتفحّص ردّ الفعل لديها، قالت:

- لاشك الفرحة ستغمر كل طفل يكون معك.. ابتسمي، فها هي بعض أحلامك تتحقق.. الدعوة إلى الله أشرف مهنة يقوم بها المسلم، لأنها رسالة الأنبياء، وستكونين صديقة، وأختاً لكل طفل تعلّمينه، وإن كنت لم تعرفيه من قبل، وستستقيم لغتك العربية، اللغة لسان القلب، وما فيك يظهر على فيك، درّبي نفسك على الصبر معهم، وضبط النفس، وابدئي عملك ببشر وأمل وتفاؤل، ولا تغضبي إن بدا من أحدهم تصرّف طفولي.

كانت ابنة فاطمة تملأ البيت صراخاً وضجيجاً وأمها في حيرة من أمرها، وفي توتّر أخذت تضربها، اقتربت منها "سناء" قائلة بلطف:

- آسفة إن تدخلت بنصحي، لا تستخدمي الضرب مع الطفلة كوسيلة للعقاب، والتأديب، فهذا يؤدي إلى زرع الخوف في داخلها، وبالتالي قد تفشل عندما تكبر في مواجهة أية مشكلة.

قالت وهي تضمّ الصغيرة إلى صدرها وتقبلها، قبلات اعتذار بمحبة:

- إن ضغط العمل في المدرسة يجعلني غير قادرة على تحمّل المزيد.

أمضت "سناء" أياماً عدة في العمل، أحسّت بالإرهاق، ورأت أنه لم يعد في مقدورها أن تفعل شيئاً، آثرت أن تقضي وقتاً في التمشي، وجدت نفسها تنطلق في خارج الأحياء القديمة، حيث البيوت الحديثة، متناثرة فوق الجبال والسفوح والسهول، تحيط بها الحدائق.. كانت النسمات ترفّ برقة، وعذوبة تدعوها إلى التوغّل أكثر فأكثر وفجأة أحسّت بحركة وراءها، استدارت مسرعة وهي تضع يدها على صدرها من الخوف وهنا رأتنا نقول لها في هدوء:

- مصادفة أن نلتقي هنا.

- إنها المرة الأولى، أتمشّى في هذا الطريق.. مجرد تغيير للمكان

جليسنا على سفح هضبة فوق العشب نستمتع بالهدوء، ومنظر أنوار الشمس تتسلل رويداً رويداً، نحو الأفق الغربيّ، كان الجو لطيفاً يستدعي خروج الشباب، والشابات والاستمتاع بالتنزّه، عند اقترابهم منا، كنّا نسمع أحاديثهم، ونبتسم ونحن نراقبهم، وكأنهم قد أتوا من عالم غير عالمنا، يتحدثون بلغة غير لغتنا، باستنكار قلت:

- نرى الحرية المطلقة في هذا الحيّ من كل شيء، ومن كل قيد، فالمرأة بسفورها ترمقها العيون، والبعض يبتعد، ويغيب خلال الشجر.

أجابت هيفاء:

- الفرنسية انتشرت في المجتمع، بوجود الاستعمار، واستمرّت بعد رحيله، وهي بزعمهم لغة جميلة، جميلة جداً، وكأنّ اللغة العربية صارت عادة، يتعامل معها المرفّهون بعداء شديد، ففي ذلك الزمن، أصبحوا مطالبين بابتلاع ألسنتهم، والإقبال على الفرنسية ورغم رحيله، فلم نزل نعاني من وطأة الإرث الاستعماري، ومن الشرخ اللغوي، واللساني الذي غرسه فينا عن عمد.

ثم أردفت:

- لقد كان تجهيل شعبنا أهم أهدافه.

باستغراب سألت:

- ما هدفهم من وراء ذلك؟

يعتقد الكثيرون أن فرنسا المستعمرة، كانت تعمل على طمس العربية، وفي ظنهم أنهم بتحطيمها، يخفّ إقبال المسلمين على قرآنهم، وبالتالي يقضى على الإسلام.

كنّا نلقي سمعنا إلى هؤلاء، وهم يلوكون الفرنسية بتباه، بضيق قالت هيفاء:

- إنّ الفرنسية تزاحم لغتنا العربية، وتجرح كبرياء تاريخنا، والناس سكارى في الجديد، وفي غفوة عن القديم.. ليت لتاريخنا مرايا تعكس أضواء الحضارة الإسلامية، وتوقظ المغفّلين.

صمتت برهة، ثم أردفت:

- نحمد الله أن الكثيرين في صحوة، يردّون الشاردين إلى حظيرة العروبة.

قلت:

- لا يزال ركام المستعمر يمتدّ في المدارس، والدروب يمحو تقاليد ويرسخ أخرى.

- أجل، لقد فرض علينا أشياء جديدة باسم الحضارة، وأخذنا بها، حتى تجاوزنا فيها الحدود، إذ لم نقتصر على ما هو ضروريّ، مفيد، لا غنى لنا عنه في العلم، فذهبنا إلى أمور أخرى، تتصل بعيشنا، وسلوكنا أمور تحمل الضيم على تراثنا الإسلاميّ.. باسم الحضارة جاءوا يحملون شعارات مغرية، يخفون وراءها نواياهم السيئة.

ثم استطردت:

- اللغة العربية تتعلق بذاتنا، وتعبّر عن عمق انتمائنا، وعمق هويتنا، وعن أفكارنا ورغباتنا وعواطفنا، لا يمكن أن تغني عنها أيّ لغة أخرى، وهي مستودع تاريخ أمتنا وثقافتنا.. لقد عانت أمتنا من المستعمر الأمرّين، ومزّقتها شرّ ممزّق، واستهدفت تاريخها في الماضي والحاضر، وجغرافيتها وثرواتها ودينها الذي يدعو إلى الوحدة والتسامح والعدل.

قلت:

- العربيّ المسلم، يرفض الاستعباد، ولا ننسى قول عمر بن الخطاب رضي الله عنه: (متى استعبدتم الناس وقد ولدتهم أمهاتهم أحراراً)؟

- إذاً نحن مدعوون للصحوة أكثر من ذي قبل، والأخذ بأسباب القوة، وهذا أمر ربّاني، فالصحوة تجمع ما مزّقه المستعمر، ولا تفرّق، والماضي يحرّك الطاقة الكامنة في أمتنا.

باستغراب، سألت:

- لماذا نسحق ثقافتنا، ونلحق بالغرب؟.. ألم يكن تدخّله في شئوننا تطفلاً وإذلالاً لنا؟.. إن كان قد ولّى مدحوراً، فظلاله بقيت تخيّم علينا.

وجمت "سناء" ثم قالت:

- أمرهم يحار منه العقل، وكأنه ضرب من الخيال.

بلهفة قالت هيفاء:

- عندنا أنباء مدهشة للغاية.

- ما هي؟

- إنّ الغيورين المخلصين يجهدون أنفسهم لتبقى العربيّة هي الأصيلة، عملوا على وضع خطة محكمة، طويلة النفس، بعيدة المدى، ذكيّة المنهج، للحفاظ على الهوية العربية، ونضارتها، وهم يبثّون الوعي لدى الشباب، ويكشفون عهن المؤامرات المدبّرة لتنسف العربية.

أغمضت عينيّ وطفت مع الأحلام كالغيمة التي تحمل الأمطار، وكالريح تحمل حمائم السلام، سيأتي الزمان متجدّداً بأجيال زغب، سيكبرون ويحملون القناديل، ويصحو النائمون وستجري بنا الأحلام في جداول رقراقة، ويسحّ المطر على نغمات إيقاع الريح، ستغدو أوديتنا وحقولنا مخضّلة مزهوّة.

- أنت متفائلة جداً.

- وأقوى من التفاؤل والأمل، بالمحبّة والتعاون، نكون يداً واحدة.

ابتسمت "سناء" وهي تقول:

- هيّا بنا نعد إلى حارتنا.

الخندق الأثري يحيط بالأحياء القديمة والقلاع، يلملم حكايات التاريخ، وعبق بطولة المسلمين الفاتحين، ومسجد بلدتنا لا يزال شامخاً بمئذنته الباسقة، يتحدّى كل ارتفاع، ولا يزال الزمن ساهراً، يترقب خنادق وقلاعاً جديدة، ومساجد ومآذن، ترتفع نداء التوحيد، ستبقى شمس العروبة والإسلام ساطعة، مشرقة وستظل الأجيال تبني من بقايا تاريخنا تاريخاً آخر متوهجاً.

نهضنا، ونحن بشوق إلى بلدتنا القديمة، فقد ضقنا ذرعاً من رطانة الألسنة، ومن النساء الكاسيات العاريات، يلفقن التهم على الإسلام، وينسبن إليه انحسار حريّة المرأة.

عندما اقتربنا منها، شممنا عبير الياسمين، والفلّ وأنواع الورود وكأنها تتسرّب إلينا لأول مرة، وتجوّلنا بين مساكنها، كانت جنّات ململمة على الرياحين والأزاهير، تعتني بها الأمهات في أصص فخارية، متناثرة، في أفنية البيوت، وعلى حواشي السلالم الحجرية، وأطراف النوافذ وفوق الأسطح فإذا زارتها الريح النديّة برطوبة البحر، سالت معها سكباً من العطور، ونشرتها في الأجواء، تنتشي لها القلوب.

سهرت "سناء" والليل، تستعيد ذكرى النهار، تسري في الكون تجول في الظلام، وتسافر في رحلة بعيدة.. ثم يجري وراءها الفجر، تتنسّم من أنسامه، وأندائه المشعشعة بعطر الزهور، يلمس روحها بلطف، ويهمس في قلبها برقّة، فتّق لديها مشاعر الشوق والحنين لرؤية إخوتها.. بينها وبينهم حبّ تحسّ به، تأوّهت وهي تقول: لو تركت لي زوجة أبي الفرصة، لكان بوسعي أن أحبّها.

كان الفجر يلقي شباك أنواره عليها، همست:

لِمَ تجري وراءنا يا فجر؟

دعني والليل نسري، في طمأنينة، وأنس إلى من أحبّ.

تساءلت:

- بالرغم من تخلّصي من الأحداث المؤلمة الكثيرة، إلا أنّ تداعيات الشوق والحنين ملازمة لي، تفقدني الشعور بالسكينة أحياناً.

*   *   *

في خضمّ ألم الفراق، لم تنس صباها الذي ترعرع وسط إخوتها، فثمّة رغبة ملحّة تدفعها إلى رؤيتهم.. هل تزورهم، أو تذهب إلى مدارسهم؟.. تتصورهم قد أحاطوا بها، والشوق يعبّر عن نفسه بينهم، وما لبث أن عادوها خوف قديم، فانتفض قلبها كحمامة ذبحت لتوّها، فتراجعت عن هذا التفكير.. وقفت حيرى، وكأنها محاطة بأسلاك شائكة.

شبح الفراق يطاردها، ابتعاد عن البيت وطرد بلا ذنب، ولا جناية.. هل تخدع نفسها حين تظن أنّ زوجة أبيها قد تغيّرت، فتستقبلها بسلام؟.. أم هل تبقى صلتها بإخوتها منقطعة إلى الأبد؟.. ماذا عساها أن تفعل والحنين يستحوذ عليها، واليد القاسية غيّبتهم عنها؟ رأت الأمل ضوءه ضعيفاً، وسط أوهام مظلمة.

كانت تخفّف من آلامها عن طريق تعليم الأطفال التلاوة، ومساعدة البائسين، والتعرّف على نساء الحيّ.. ويبقى الكابوس ضاغطاً على صدرها، يقطع أنفاسها، ولم تتجرأ على الاقتراب منهم، تخشى من ذلّ آخر يلحق بها، وما أصعب الحنين، مصحوباً بالحسرة حيناً، والألم الغاضب حيناً آخر.

أمضت "سناء" زمناً تحاور نفسها، تحاول كتم الحوار، ولكنه يتواصل برعونة.. في أحد أيام الخريف انطلقت عند الظهيرة باتجاه مدارسهم، عسى أن تلمحهم، كان الهواء نشيطاً يحمل رذاذ المطر، ويضرب أغصان الشجر، فتتساقط الأوراق، ثم تنجرف إلى جانب الطريق، كان كتاب تدحرجه الريح، تقلّب صفحاته بنغمات لذيذة الإيقاع، لحقت به، تناولته، كان شبه ممزّق، تراكمت فيه شخبطات، وتصاوير بقلم الرصاص ومن بينها، قرأت اسم أحمد أحد إخوتها، ضمّته بشوق غمرتها سعادة، قبلت الاسم بمحبّة، بصمت تأوهت، وتساءلت:

ترى كيف حالهم؟

أهم في صحة وسرور؟

ماذا حلّ بكتبهم المهملة؟

تذكّرت كيف كانت تحافظ عليها، وتقرؤها في ركنها، بعجب قالت:

أهذه هي الحياة؟ حبّ، شرّ، فراق، عذاب؟.. لا يعلم ذلّ الفراق إلا من ذاق طعمه.. حمّلت صدمتها الشديدة زوجة أبيها، فالإخوة إخوة، بغضّ النظر، من أمّ واحدة، أو أكثر.

كانت تسير في الطريق المرتفع عن مستوى البحر، وأمواجه تعلو، وتصخب والعواصف تزداد، وتلطم وجهه، دعاها المشهد إلى تصور ألوان العذاب لإذلالها، واستحضار الأحقاد ضدها، والزعم بأنها شؤم ونحس.. ارتبكت حين وقفت الأحداث أمامها بصدق، وصراحة وبصوت عال نثرته الريح، قالت:

لماذا لا يرسخ في الذاكرة إلا كل ما هو مؤلم ومريع؟

سأنال حقّي في الحياة بفضل الله شيئاً فشيئاُ، رغم عناد وصلابة الظروف.

الذكريات تلغي الأزمنة، والمسافات، وشعور "سناء" بالغربة يشتدّ، فلا يأتيها من أخبار إخوتها إلا اليسير، كانت تحسب أن التغيير في حياتها ينسيها ما بها، ولكنه في الظاهر ليس إلا تماسكاً مصطنعاً، يتهشّم أمام أدنى هبّة تذكّر، وحنين يعصف بها.

لمحت هيفاء الارتباك في وجه "سناء" سألتها:

- لمَ أراك في حال غير ما تركتك عليه؟

- بالفعل.. لقد استحوذت عليّ الذكريات، وغلبني التفكير، كنت أظن أن الأحداث التي صهرتني جعلت مني إنساناً آخر جديداً، لا ينهار بسهولة، فتشبّثت بالحياة بقوة، وتغلبت على المعاناة ولكن أراني أعود لمواجهتها ثانية.

- أنت لا تصنعين نفسك، قدرك هو الذي يصنعك، وهو الذي يسيّرك تبعاً لظروفك الحياتيّة المختلفة.

- رحلة معاناتي قد طالت.

باستغراب سألتها:

- وأنت في أمان عند هذه الأسرة الطيّبة؟

- معاناتي في داخلي.

- اصمدي، لا تليني، ولا تنهزمي، مهما سقطت الآلام في أعماقك.

صمتت برهة، سألتها هيفاء:

- هل من شيء؟

- أفكّر بالفراق الطويل، إنه ذلّ وظلمة، قد أتفاءل في لمحة ضوء في الظلام.

- اتركي الأمر للظروف.. سأراك فيما بعد.

كانت غيمات تغزو ساحة الفضاء، تساءلت بحيرة:

أيهما يسبق في الهطول، دموعها أم دموعي، وأيهما أكثر تدفقاً؟

هل الدموع والأحزان مبدأ متأصل في الإنسان؟

كانت أسراب الطيور، تحلّق في زخم على ارتفاع شاهق، تبحث عن فضاء جديد، تبدو كبقع من ظلمة الليل المتناثرة في ضياء النهار، أو كنقط نقشت في السماء، تمتد بكثافة إلى أعماق الآفاق، بلا زاد من ظلّ، أو ماء، وتطير إلى الجنوب فوق البحار، والقفار، تقطع المسافات الشاسعة ولا تضلّ طريقها، تعرفه بغريزتها لا تخطئه، ثم تغيب في الأمداء، تصغر، تصغر، وتتلاشى في رحلة بعيدة ولكن تعود إلى أعشاشها في الربيع التالي، هذا موعد هجرتها من كل عام في الخريف.. سرحت "سناء" مع الخيال الطائر وفي أعماقها هتاف:

لماذا حاسّة العودة إلى الوطن ومن المهجر، ضعيفة عند الإنسان؟ نحن بحاجة إلى مثلها، قلوبنا تتحرّق شوقاً إلى من هاجروا وهجرونا.. كل طير مهاجر سيئوب إلى موطنه، وأمي رحلت، ولم تعد، ألا من شيء يدفعها إلى العودة؟.. أم أنا التي تبقى متخبّطة في التجارب.

رؤية الطيور المهاجرة، أيقظت في داخلها فجأة رحلة يخالطها قلق، قلق الشتات، صرخت بألم:

إلى متى الشتات؟

إلى متى، إلى متى؟

متى اللقاء بعد الفراق؟

نظرت إلى المنارة عند الشاطئ، كانت قد تعرضت لشيء من الإهمال، وانطفأ ضوؤها بعدما كان ينتشر في الأجواء.. وأصبحت مرتعاً للطيور الغريبة، ومحطة انطلاق للهجرة.

اتسع معنى الفراق في ذهنها، ضاقت من قلقها، القلق يوشك أن يخمد روح الطموح لديها، وجال فيه حوار:

ألم أتفق مع نفسي لأغيّرها؟

ما بالها اليوم ترحل مع أسراب الطيور، تلاحقها بين أسراب الغيوم؟

هل كانت أمي طيراً شارداً ممعناً في الفرار من الواقع؟.. من الأرجوحة التي كانت تؤرجح حياتها؟

نامت العواصف على أكتاف الشتاء، وارتحل بها إلى أراض بعيدة، أخذت الحياة تتنفّس بيسر وابتسام، وإيناس ودود نديّ، والوجود الغافي يستيقظ رويداً رويداً مع الربيع، وكأنّ أنفاسه مفاجأة، وكأنّ تفتحه ابتهال.

اعتاد أهل البلدة القيام بنزهة جماعية إلى أحد الأحراش القريبة، يعلن عنها مسبقاً، حتى إذا جاء اليوم الموعود، بدأوا بالزحف مع خيوط الفجر.. كان في الجوار باب قلّما يفتح، إن سمعنا صريره، ذهبت عيوننا داخله، يأسر حوشه انتباهنا، كان أشبه بلوحة فنيّة، ليس كمثله فناء، ذو صخور متنوعة الأشكال، والألوان، تنهض من حواشيها الزنابق والورود يتسرب عطرها إلى الحيّ، ويأخذنا العجب من صاحبته (خضرة) الضريرة، فابنتها (نوال) تعمل في مصنع التبغ سحابة نهارها، وخضرة هي التي تزرع وتنسق بطريقة تثير الدهشة، معتمدة على لمساتها وحسّها المرهف، قد أدخل مع "سناء" إلى بيتها، فتقودنا في ممرات متعرجة بين الصخور، تحذّرنا من ليّ عنق زهرة.

خرجت خضرة لتشارك بقدوم الربيع، تتكئ على ذراع ابنتها، والسعادة تغمرها، ونوال ترسم في مخيلتها أبعاد الطريق، وصور الأشياء مقترنة بما يصل إلى سمعها من شقشقة العصافير، ووشوشة أوراق الأشجار، وما يملأ خيشومها من أريج الورود، ونداوة النسمات.

يقع الحرش فوق تل واسع، تظلل جوفه الأغصان المتشابكة، تتخللها أشكال ذهبية، صاغتها الشمس من شعاعها، ونثرتها فوق الأرض، يحركها النسيم الخفيّ.. وعلى مقربة منه غدير صغير يتدفق من ينبوع.. يجري ماؤه رقراقاً فوق الحصى، يروي الماس والحقول.

كان ثمّة طريقان فرعيان يبدتئان من الحرش، ويلتقيان عند بحيرة تجمّع ماؤها في فصل الشتاء، واتسعت في الربيع، بسبب ذوبان الثلوج من أعالي الجبال، تنثر أنغام خريرها في الأجواء، وحولها حقول القمح الزاهية بخضرتها، وأشجار البلوط يقبع فوق إحداها كوخ لفلاح سقفه من القش.

مشاهد شتى توزّعت هنا وهناك، فالزهور البريّة، تترنّح على الأغصان، تؤرجحها النسمات، تلألأت على أوراقها لآلئ الندى، وتغرق الأولاد في كل مكان، فمنهم من يجري وراء الفراشات، إن اصطاد منها أسرها بربطها بالخيط، ومنهم من يحتال على صيد طير النفّج الذي يتخفّى بين السنابل في الربيع، ومنهم من كان يلعب لعبة الحرب يجعلون من الأغصان سيوفاً، ورماحاً، يأتمرون بقائدهم، يصعدون الهضبة طوراً وتارة يهبطون وادياً.. وقد تعقد الرقصات الشعبية ويبدو شيخ طاعن في السنّ، يتوكأ على عصا، استخفّه الطرب، فوقف وسط الحلقة، يردّد الأهازيج بحماسة الشباب.. كانت نظراتنا تتابع المناظر، والضجيج يذوب في أسماعنا.

هكذا الحرش في الربيع، فيه بهجة الحياة، بعيداً عن شئون البلدة، نسرح فيه مع أحلامنا، وتدعونا الطبيعة إليها بمفاتنها الرائعة ولولا الربيع الزائر، يختال بوروده وجداوله الجارية، وشجره المزهر وسرابه المترجرج من بعيد، لما أحسسنا بمتعة الجمال، الذي يخلب عقولنا.

بعد تجوال وجدت "سناء" تجلس عند جذع شجرة، برفقتها كتاب، تقلّب صفحاته، قد آثرت الوحدة والانفراد، ومن حين إلى آخر تصوّب نظراتها نحو الأطفال، يصخبون بأصوات تتسم بالغرابة، كأنها في بحث دؤوب عن إخوتها، ترغب رؤيتهم، لمحت حزناً في ملامحها،فعرفت مدى اشتياقها إليهم.

هيا نتجول عند ضفاف البحيرة، فلربما التقانيهم.

 كان المكان يضم جناحيه على حشد من المناظر، ذات الألوان، والأنواع، والظلال، تلمس شغاف القلب، وتوقع على أوتاره شتى الإيحاءات بقدرة الله تعالى.

كنا ندقق بوجوه الصبيان، والبنات، ثم باستياء قالت:

أظن أنهم قد تغيروا، سنتان مضتا لم أرهم خلالهما.

لقد جئنا لنمرح، ولننسى مآسينا.-

كانت تخفي أحزانها وراء قناع من السرور، سألتني.

-هل سأنفق عمري تائهة، كالبحار وسط المحيط، في بحث متواصل؟

لا يزالون يسكنون مخيلتي، أعيش كلماتهم... لم أودعهم، إذ قلت: سنتلقي.

كانت ظلال الأشجار، تسري فوق الأرض، والطيور ترف بالتغاريد، وألم الفراق يزحف بجنون في صدر سناء، ويبقى الحلم هو الملتقى.

بابتسام، قلت:

-الحياة هنا، بنسماتها الرقيقة، وشذاها، وجمالها، تدعوك لتحبيها بكل جوارحك، وكيانك، فلا تعذبي نفسك، دعيها تبتهج، وتفرح، هكذا يهمس لنا الربيع، لا تجري وراء سراب، ووهم لقاء.

 استرخينا فوق سفح هضبة، نفترش العشب، وتناولنا اللفافات اللذيذة، ثم شربنا من ماء الغدير الصافي، ونحن نتأمل السهول المزركشة، وننشد الألحان، ونخال صدى أناشيدناٍ، تصل إلى كل زهرة، وحمامة شادية، كانت أقدامنا على الأرض، ولكن روحينا ترفان في السماء، ويبقى الجسد، والروح متصلين، لا ينفصلان.

اتجهنا إلى شجرة صفصاف، نستظل تحتها، كان عش تنبعث منه زقزقة فراخ طير، والأم تزقمهما ما تحمله بين فكيها، قالت سناء وهي تبتسم بحنان:

- الطبيعة يتوالد منها الشجر وترويها الجدوال التي تجري فوق صدرها، والطيور التي تترنم بتغاريدها وقلت:

- نحن والطبيعة توأمان.

ثم فجأة قلت:

- انظري، هذه ليلى مع الأطفال، استلقت على بطنها، تتحدث إلى الضفادع، وهذا أحمد يجري وراء الجراد، والفراشات،صاحت "سناء بصوت، حبسته بين جانبي كتفيها:

- ليلى.. أحمد

اندفعت ليلى تجاه الصوت، يلحق بها أحمد، ضمتهما بحب شديد، وعيناها تدوران في كل اتجاه،تبحثان عن البقية،.. ثم أقبلوا إليها مسرعين متلهفين، وانضم إليهم خالد بوجه مشرق، تبدو عليه الرجولة، ويثب بثقة في حديثه..لم تدر ما حدث بعد ذلك، فقد انفجرت بالبكاء وهي تقبلهم بشوق لا ينضب.. وبكلمات متقطعة تقول لهم:

- سنتان يا أحبابي لم أركم، كنت أذوب شوقاُ إلى لقياكم.. أثناء الحديث،  كانوا يدفعونها نحو جوف الحرش، دون أن تدري، ثم فوجئت بأمهم أمامها، بهتت، تفجرت ملامحها بالألم، ونهضت الأحزان من سباتها، وبتفجع صامت تساءلت:

لم ابتعثت آلامي وقت الفرح؟

أرى الأشباح تطل من عينيها.

رمقتها بطرف خفي، وحاولت أم خالد أن تخفي نظرتها الخبيثة بابتسامة ماكرة، وإخوتها يدعونها بإلحاح كي تعود إليهم، وخالد يمسك بيدها، ويتوسل ويحاول أن يعيد الثقة بينها وبين أمه، لكن العلاقة كانت مهلهلة، يصعب رتقها.

بعد أن استعادت هدوءها، قالت لهم:

- تعالوا نلعب لعبة الصياد خارج الحرش.

هللوا من الفرحة، وخرجوا متمسكين بتلابيبها. قالت لهم:

- أنا الصياد، و..

- نحن العصافير.

- أنتم تجرون،وأيديكم ممدودة كالأجنحة،وأنا أجري، لأصطادكم.

تخلل اللعب صخب، وضحك، يطيرون حولها، وتصطاد واحداُ تلو الآخر، تحجزهم خلف الشجرة. حتى إذا ما انتهت اللعبة، جلسوا فوق الأرض، لاهثين. ثم أشارت إلى نحلة قائلة:

- انظروا،ماذا تفعل؟

بأصوات متشابكة، صاحوا:

- تطير منذ الصباح،من زهرة إلى زهرة، لتجمع الرحيق، وتصنعه عسلاُ.

- إنها تحب العمل، والكفاح، أترون جناحيها القصيرين، لا يهدآن، ولا تعرف الملل، وتكره الكسل.

اقتربت ليلى، وسألتها:

- متى تتفتح الزهور؟

- بعد الفجر، تفيق من نومها على أنواره0

قالوا:

- نحن نحب الربيع كثيراً،

- إنه يجعل الدنيا كأنها في عرس، تتزين بالألوان، والأزهار، يجعلها فاتنة بحسنها.

كان صوت أم خالد يدعوهم بشدة، ليستعدوا للعودة.

تساءلت في نفسها:

- أهكذا بعد أن التقينا، وشملنا الحب، يبعدنا الصد عن بعضنا ثانية؟ .. صدري يموج بدفء حبهم، ولكن الزمن يتمادى في الصدود.

قبل أن يعودوا، نقش كل منهم بحجر على الصخر، اسمه، كذكرى لأسعد يوم.

كانت غيمة على المدى البعيد، تفرغ دموعها، وتراوغنا، بتردد برقها، ورعدها في الفضاء الواسع، والشمس تنحدر نحو المغيب، كسفينة على الشاطئ الوردي، نظرنا إليها بألق، وقلوبنا تلهج بالإيمان.

غسلت النزهة الجماعية في أحضان الطبيعة أحزاننا... ستكون على مر الزمن ذكريات تتداعى، فالتفكير يبعث ما كان منسياُ، كانت فرصة من العمر، لا ندري إن كانت ستتكرر، أم ستصبح هاجساُ، يصعب لقاؤه، بسبب الأرزاء التي تباغت الإنسان؟

ألقينا سلامات الوداع على ما حولنا، ونحن في طريق العودة، وفي نفوسنا أمنيات جذلة، تسكن في خفايانا.

حين أقبل المساء، بكرت البلدة بالهجوع، وسكن الليل، وغرقت "سناء في تأملاتها، تذكرت نظرات خالد المتأسفة، معتذراً عما بدا من أمه، ورغبة إخوتها في الرجوع إليهم... اضطربت، بين حنين غامر، وألم مرير، ثم أخذ النوم يهدهدها بتناغم، ليبعدها عن ذكريات الأحزان، وخواطرها تسيل في كلمات:

عسعس الليل في جانحي

فاستفزني مذعورة

ينكت الآلام في صدري

قد كنت منها مدحورة

ضقت ذرعاً بآهاتي

كفاني يا نوى مقهورة

ضمني يا ليل واهد لي

فأنا في إيماني مأسورة

أسفر الصبح باسماً

فأنا في أنواره مبهورة.

قررت ألا تذعن لرغباتهم، فلن تعود إلى مناخ الخوف، والقلق، ولكن سيبقى حبها لهم آسرها، مهما جاء عليها الزمن، ولن يطرق اليأس قلبها بلقائهم.

هتفت بلهفة:

هم إخوتي، أنا منهم، وهم مني.

...................

لم تزل "سناء" ترتقب عودة أمها، هكذا وشى إليها الصبر، ولم تشك بأنها قد شابت، وهرمت، ردّت هذا الخاطر، وهي تؤكد أنها لم تزل فوق حدود ظنها، ووهمها... أخرجت صورتها من بين الأشياء، تأملتها، أحاطتها بشيء من التغيير، وتساءلت:

هل يمكن أن أعرفها، أو تعرفني إن عادت بعد غيبتها الطويلة؟

أخشى أن بكون الزمان قد ذهب بجمالها، وتفردت بأنينها الفراقي.

وهل تشتكي للقمر تصاريف الأقدار، أم هي مشغولة بأمور لا أدري عنها شيئاً؟

قد تعيرني الطيور أجنحة من نور، أسري بها في الفضاء، بيني وبين القمر ودّ منذ طفولتي، يتوغل في أعماقي، ويهمس في قلبي همسات وإيحاءات، ويغسل أحزاني، وتلتصق عيناي في السماء، وتشغلني الكواكب والنوم لدي مفقود، وأرى الحياة خلالها جميلة، وتمور بي الأحلام، فأحاورها ، وأتمنى عودة أمي من النوى، والشتات... لم يتطرق اليأس إليّ، هكذا يهمس لي الأمل ، ثم لا ألبث أن أتساءل:

أتبقى دنياي الحزينة في أحشائي، وعيناي تجريان بالعبرات؟

أأبقى غريبة عن دنيا أترابي؟

ألهن حياتهن، ولي الموت؟

مسحت دمعتين تدحرجتا على خديها، وحمّلت الكلمات شكواها:

آه من وحشتي، وغربتي

خان أنيني ما استتر

خذني إلى سماك يا قمر

وارحمني، كغيري من البشر

كان الليل يضم بغشائه كل شيء، ويخفيه، ولكن يوقظ مشاعرها، وذكرياتها، وآلامها، وأحزانها، وكأن الليل عالم آخر، غير عالم النهار.

لمست هيفاء الأحزان في نفسها، فقالت لها:

- لست غريبة في البلدة، الحياة لا تعاديك، ولا تريد موتك، فأنت تحيين في نفوس الناس، لكن أفكارك المتشائمة تميتها، أرويها بالبسمة، وتلاوة القرآن، والعمل، والنسيان.

- أنا في حيرة، خيال أمي يردّد كلماتها، وحكاياتها، كلما قلت نسيت، عادت الذكرى نشيطة، لا أدري، أيدوم ظلها مشتتاً؟

- قد تظهر في حياتك فجأة، وتعيد إليك البشاشة.

خفف العمل من أرقها، وبدد من مخاوفها، ولكن الذكريات تثب إلى ذهنها، عندما تجتمع مع خديجة في ثرثرة لا تنتهي، فالذكرى تتبع الذكرى، وخديجة تحدثها عن زمن سعيد عاشته مع صديق زوجها، فقالت:

- كان كثيراً ما يبكي في الليل، وهو يغطي وجهه بالوسادة، كي لا نسمع نشيجة، وإن سألته أجابني: لأنه الشوق إلى أمي التي تنتظرني مع إخوتي في المغرب، أفكر بالسفر، ولكن البحر واسع، والطريق طويل كما أني لا قدرة لي على فراقكم.

- وتسأل بلهفة:

- ألم يعلم عنهم شيئاً؟

- أبداً، لا صلة بينه، وبينهم، حتى خطفه الموت فجأة.

ثم بتحسر قالت:

- كان حنوناً، كريماً، محباً، حلو الشمائل.

شعرت "سناء" أثناء الحديث، بأن خديجة لم تزل رهينة ذكرياتها، ولا تزال تعتقلها حيثما كانت.

في ضحى اليوم التالي، والشمس ترتفع مبتعدة عن الأفق الشرقي وهي في أبهى تألقها، وتسرب إلى الأجسام دفئاً، ناعشاً، أحست "سناء" بحاجتها لنزهة قصيرة، تروح فيها نفسها عن أرق الليل، وهواجسه... استكانت بجوار صخرة ناتئة عند الشاطئ، تتأمل بنظر واع، استجاش المشهد وجدانها، وخشع قلبها، وتحركت روحها، نحو قدرة الخالق المبدع، فتعانق حسها، بجمال الوجود، ترفع عينيها إلى السماء، ثم تغرزهما في الشاطئ الرملي المبسوط في مداه، وصخور تبرز منه بأسنتها، يضربها الموج، ويستدرج السمك إليها... كان شعورها يغرق في هذه التأملات فتتنفس براحة، راحة السجين الذي أعتق، ونال حريته.

تخلل السكون أصوات ممجوجة، استدارت، رأت كهلاً يتلوى في مشيته كالثعبان، بيده قارورة يرتشف منها بين لحظة وأخرى، منظره أرعبها، رأت أن ترجع قبل أن يقترب منها، وقتئذٍ واجهت هيفاء، أخذت تهدئها، وتحدثها عن أبي "بدر"، هذا الرجل الذي ٍأرهقه الانتظار، لعودة ولده من المهجر، ثم يكتشف بعد عناء كبير أن ابنه قد غرق في عالم مليء بالبهجة، وصار الانتظار مجرد ذكرى مهينة، مزقت قلب أبي بدر، وغرق في كؤوس الخمر، ظاناًُ أنها قد تعيد إليه إحساسه بالحياة، فجعلته يترنح في الطرقات، ويتحدث مع خيال ابنه، وكثيراً مايرى نائماُ على قارعة الطريق، غارقاً في بوله.

باستنكار قالت سناء".

- الحضارة في المهجر، أفسدت ما فطر الله الإنسان عليه،... منظر هذا الأب يثير الشفقة.

- امثاله كثيرون، يعيشون على أمل عودة أبنائهم، محملين بالذهب، صمتت برهة، ثم قالت:

- إن الهجرة تشي بمرارة الشتات في أصقاع الأرض، فالسعادة في الوطن صار يشوبها القلق.

بحدة قالت" سناء":

- أرى في الهجرة خيانة لحب الوطن، ووفائه.. من خلال اندماجي في البيئة، اكتشفت حاجة الناس إلى بعضهم، لا إلى تفرقهم.

- والأعجب من هذا ، أن الكثيرين من أبناء الوطن المهاجرين ينسلخون من انتماءاتهم تحت تأثيرات الحضارة الغربية، ويستبدلون هوياتهم العربية، التي هي على تراثنا بأخرى.

- ما الأمور التي ترغمهم على الهجرة؟

- ظروف اجتماعية، واقتصادية قاسية،

- لا شك أن الاستعمار قد غير الموازين، ودفع إلى الهجرة، بالإضافة إلى الأخبار السيئة، والكئيبة التي تصلنا باستمرار، وتطاردنا في كل مكان.

بعد أيام، والنهار صافٍ أتيت بيت خديجة، وبصوت خافت قلت:

- هل علمت يا " سناء" بما حصل لزوجة أبيك؟

ثبتت نظرها بوجهي، وبخوف سألت:

- هل حصل شيء ؟ أخبريني .

- بكل أسف، استحوذ عليها المرض، وأدى بها إلى الشلل.

استبعدت "سناء" الأمر، واستغربته، كأنه شيء لا يكاد يكون.. أبعد هذه القوة، والطغيان؟

قلت لها :

- أنا مثلك، أوشكت ألا أصدق، حتى رأيتها بأم عيني.

- أهذه نهايتها؟ وهل يمكن شفاؤها يا ترى؟

- يقول الطبيب غير ممكن.

بقسوة قلت:

- ماذا كانت تتوقع؟ لقد سرقت شبابك، ومالك.

- تعيدني الذكرى إلى سنوات خلت، حين طردتني طرد الكلاب.

أما الآن، فلا أريد أن تستفزني الأحقاد، سأذهب لزيارتها كي أخفف عنها.

- إنك طيبة جداً، طيبتك نابعة من إيمانك.

- أنظر إليها بائسة كغيرها من البائسات، تحتاج إلى المساعدة.

همست لها قائلة:

- عودي إلى إخوتك هم بحاجة ماسة إليك.

- لا أقدر.. سأطل عليهم بين وآخر، وأدربهم على العناية بأمهم.

- لماذا؟

- لا أقدر أن أستكين للمألوف ثانية، فذلك يجعلني مستغرقة في هموم جديدة.. إن اكتفيتُ باجتزاز نفسي ذبلت، وضعفت وقصّرت في تأدية رسالتي نحو نفسي، ونحو بيئتي.

ثم ابتلعت لسانها، ودهمتها غصّة، سألتها:

- ما بك؟

- خالتي التي تفنّنت في ظلمي منذ صغري، لا يمنعني من تقديم المساعدة إليها.

أحسّت لشوق طفولي إلى البكاء، إحساس طفلة شاحبة، غريبة تستجدي العطف، يهاجمها الحزن الآن، ويقتحم أعماقها، يحملها في زورق مليء بالدموع.

سألت نفسها:

أأذهب إليها بعد الذي كان؟

أجابتها:

أجل، من أجل إخوتي، أحبّهم، رغم ما كان.

التفتت إليّ قائلة:

- لن أثير الماضي، سألقيه ورائي، وأتعامل معها بفطرتي النقيّة، ولا يمكن أن أستهين بإخوتي.. هل أنسى نظراتهم المحبّة؟ لا أقسو على أمهم، أو أنتقم منها أبداً، فليس في خلقي هذا، مهما علت عداوتنا.

بلهفة قالت لي:

- هيا نزرهم، وبيدي هديّة لخالتي.

*   *   *

في البيت الذي ترعرت فيه "سناء" نظرت إليها خالتها بعينين مكسورتين، فمشت مشاعر الرأفة في قلبها، وأقبلت عليها بوجه بشوش، وعبارات حانية، وأصلحت من شأنها، ليس لأنها تحبها، فقد مات الحب بينهما، ولكن شفقة ورحمة، وسهرت الليل بجانبها. في الصباح سألها إخوتها:

- أيمكن أن تبقي معنا؟

هزّت برأسها قائلة:

- آسفة، ليس بي رغبة، سأكون عندكم كل يوم لساعات.

الوضع الجديد جعلها في توتّر، تعالجه في الهرب إلى أحضان الطبيعة البكر، فهي في حنين دائم لها، تفرغ عندها آلامها، ترى فيها إيقاعات متنوّعة، تلمس وجدانها لمسات رقيقة، تنبثق من مشاهدها، وتخلع على قلبها إيحاءات، وأسفاراً، تتساءل بعجب:

هل بين قلب الإنسان ومشاهد الكون لغة سريّة، تغور في أعماق المشاعر؟

وهل ثمّة صلة بين روحه وبينها، في تجاوب، ومناجاة بغير صوت؟

إحساسات عندها، تشعرها بالأنس في الحياة، وتوقظ قلبها لينطلق إلى هذا الكون.

تقابلنا عند درجات المسجد، سألتها:

- كيف حال أم خالد؟

- غفر الله لها، لا هرب من قدر الله، لكل قدر حكمة.

- التجارب تتساقط عليك بكثرة.

- إنها أفادتني، ومنحتني قوة واعية، وإدراكاً أفضل لذاتي، وأبعدتني عن توافه الأمور.

- شعورك هذا لنيلك حريتك.

- وبإقبالي على كتاب الله فقد نمّى قدرتي تجاه التكاليف والواجبات.

سكتت برهة ثم أردفت:

- كنت أشعر أحياناً بالإلهام في داخلي، فأخشى أن أتصرّف ويكون تصرّفي فيه خطأ، فأسأل من هم أعلم منّي، فتنجلي الغشاوة عن عيني.

- إنّ البلدة تنظر إليك باحترام، يليق بك.

ضحكت وهي تقول:

- من رماد الكارثة، يكون النجاح، والفضل لكتاب الله، معانيه نبّهت مشاعر اليقظة والتقوى في أعماقي، سأظل قريبة منه، أهتدي بهدية، وأستضيء بنوره.

- إنّ لدينا قدرة، أودعها الله فينا، واستعداداً نفسيّاً للتغيير نحو الخير، فهداك الله إليه، وأيقظ فيك هذا الاستعداد.

*   *   *

في اللحظات الهادئة، والبيت خال، أدارت "سناء" آلة الخياطة، تخيط ثوباً لطفلة، ابتسمت بشوق وهي تسري بحلم بعيد، في عشّ تحيط به الرياحين، ويفوح منه عطر زهر النارنج، مع طفلة تلاعبها يشاركها حبيب، لم تتبيّن ملامحه، يجريان بين الأشجار، ويقطفان من الثمار، استسلمت لتداعيات الخيال، وامتزج ماضيها مع حاضرها في تناقض، وتضارب بين اللذة والألم، وأزيز الآلة يملأ سمعها، وينساب في كيانها، إن توقف الصوت غمرها سكون المكان. واحتضنت الثوب بحنان.

كان صمتها كبحر في يوم صائف، ساكن السطح، هادر الأعماق، وفي الشتاء يثور مع عواصف الطبيعة، آخذاً بها إلى مسرح الذكريات الهوجاء، في بيت هجّرت منه، وفي الربيع تغمرها السعادة منتشية من عطر زهر النارنج، يعيدها إلى عهد الطفولة الرقيقة.

لم يكن من السهولة أن تنفض عنها رداء الذكريات المتشبّث بكيانها، وأصبح جزءاً منها.

نظرت إلى الآلة وتساءلت:

هل يبقى مستقبلي رهيناً بهذه؟.. أم يتحقق الحلم الذي يراودني؟

العمل يرضي بعض رغبات نفسي، ولكن لا يشفي غليلها.. ففي أعماقي حشرجة، أحاول أن أتغلّب عليها بالمكتسبات الجديدة.

وتبقى في حيرة، وترى الوضع المهين للنساء البائسات، وتتساءل:

ألا من ثورة تمور في أعماقهن؟ لماذا يظللن مخنوقات بالقهر والحرمان والألم، والصبر؟ من ينقذهن ويأخذ بهنّ إلى عدل الإسلام، بعد أن سرقت منهنّ حقوقهنّ؟ أليس من العار أن يتنعّم الجاهلون ويرمين في ظلام الظلم؟

من سيعلن الثورة باسم حليمة، وبدرية وآمنة وخضرة وخديجة، وأخريات من البائسات؟

أما معاناتها فكانت تطويها في كبرياء أنثوي، وكرامة شخصية.. وتنقلها الذكرى إلى أبيها، كم كان فظاً، جلفاً، جافياً مع أمها غير قادر على التواصل الإنسانيّ معها!.. فانقلبت ضدّه وثارت، وأبغضته وهجرت المكان.

أمور بصّرتها بالواقع، فجعلتها متحرّرة من التقاليد المنافية لدينها، واعية بشخصيتها، مستفيدة من التجارب.. كانت كثيراً ما تنكفئ على ذاتها، وتتوحّد معها، وتسبر أعماق نفسها المتمرّدة تارة، فتستسلم لليأس، ثم ما تلبث أن تنطلق بوله إلى الأجواء العليا في أحضان الطبيعة، تبثّها شكواها، وأحاسيسها المتضاربة، وتصغي إلى وشوشاتها وكأنها صدى لما في نفسها، وتمتدّ روحها في صلة إلهية، لا يضاهيها صلة أخرى.

*   *   *

في صباح باكر، كانت طيور جميلة غريبة تحوم في صحن الدار، تقترب من "سناء" مرفرفة، ثم تبتعد، وهي تنثر ألحاناً بإيقاعات كأنها عبارات من كلام، استشعرت "سناء" وكأن شيئاً محبّباً سيكون.. ما هو؟ لا تدري.. فسرّه الإلهام.. جرت إلى أشيائها، أخرجت صورة أمها، تأمّلتها، تساءلت: أيمكن أن؟.. أنا غير متشائمة.

قلت ببرود، وهي تحدّثني بما شاهدت:

- ألا تزالين متمسّكة بهذا الحلم، وبماض بعيد؟ زمان أمك غير زمانك، هي في شغل عنك بعالمها.

- لا يهمني ما تُشغل به، وما تفعل هي، يهمّني ما أفعله أنا.

كانت تضغط على ورقة وقلم في كفّها، سألتها:

- أريني ما تكتبين.

بهدوء قالت:

- أرسم خواطري ومشاعري بالحروف، والكلمات قد تكون تافهة بنظرك ولكنها عميقة في نفسي.

بصوت مرتفع أخذت أقرأ:

إلى متى تخدعني الأماني؟

وأطمع في لقاء أمي

فقلبي من شوق يذوب

وأغدو في شغل وهمّ

كفاني ما أقاسي من عذاب

ونفسي تموج في سراب

فهل أبقى في الودّ وحدي؟

وعمري يمضي عاماً بعد عام

فغربتي ليس يشغلها شبابي

ولكن ذكريات تمر كالسحاب

بانبهار قلت:

- لم تخذلك الكلمات.

- لأني أحبها، أليس القرآن من هذه الحروف؟

ثم بسخرية ضحكت وهي تقول:

- أراني أجترّ مشاعري، وأذيبها في كلمات.

- وتطوين عمرك باجترارها، في عالم من الهمّ والحزن.

بعد برهة سألتها:

- هل تذهبين إلى زوجة أبيك، وتتفقدين إخوتك؟

- باستمرار، فقط يوم أمس لم أقدر، ولكن وجّهت أختي سلمى للعناية بها.

بعد صمت قالت:

- يبدو أن حالتها ميئوس منها.

- سأخبرك شيئاً، فلا تجزعي، لقد وجدت هذا الصباح ميتة.

هلعت، وبنبرة حزن قالت:

- إنه خبر مخيف، حقاً.

- وأهلها الآن في بيتها.. توخّي الحذر أثناء وجودك عندهم، وتمالكي نفسك، وتصرّفي بتعقل.

- هذا ما سيكون.. آخر مرة كنت بجانبها طلبت مني السماح فرجوتها أن تهدأ وتطمئن.

*   *   *

كان القمر قد تلا الشمس بنوره اللطيف، يترقرق، ويوقظ الودّ في القلب، وينساب برقّة في العيون، ويسري في سماء زرقاء بغير حدود، تتناثر فيها النجوم، والكواكب، أسرارها غامضة، تسبّح البارئ الذي أوجدها، وأمسك السموات والأرض كي لا تزولا.

كانت "سناء" كلما ضغطت عليها الذكريات، سهرت الليل كتلك النجوم، وتتساءل: هل براها الحزن وسهّدها الهمّ مثلي؟.. تجد مشاعرها معها في صعود، وهبوط تتناهى بالبشر والأمل تارة، ويعود إليها البكاء تارة أخرى.. تتردّد بين نجاح في شيء من تحقيق الحلم، وأخرى مع الفشل.. ويهبّ نسيم الليل يلفحها، فتتصور خيال أمها، تضمّه بين جانحيها، ولا تدعه حتى يتبعثر بعد زوال النسمات.. فالصمت في الليل يسرقها من صخب الآلة، وضجيج الناس، وهدير الأمواج، إلى كهف الذاكرة، يحاورها، لا تنقده، ولا ينقدها، هما صريحان، ينزع الخوف من أعماقها، ويبث فيها الاطمئنان.

في يوم صاف، نديّ الهواء، ناعشاً أوراق الشجر، توقفت عند الظهيرة في منعطف الطريق سيارة، نزلت منها سيدة تناهز الخامسة والأربعين، بدت مرهقة، تختلف في زيّها عن نساء البلدة، ولكنّ السمة كانت واحدة.

أخذت تتجوّل في الأمكنة، وهي شبه مقفرة، تستغرب من التغيّر الذي طرأ عليها، تبحث عن معالم صورتها في ذهنها، وعند مدخل القنطرة، تردّدت نبضات قلبها بشدة، انحدرت في الزقاق المتعرج، كانت روائح الأزهار البلدية تنتشر من أحواش البيوت، فتنتشي منها، وتستدعيها إلى الاسترسال مع ذكريات ما قبل عشرين عاماً.

عاد إليها شعور الصلة قوياً، بينها وبين الأشياء، فرجّع في نفسها حنيناً ممزوجاً بفرحة لقاء واعد، مرتقب.

كان السكون يغمر الأمكنة، إلا من مواء قطط، تتقاتل حيناً، وتتناغم حيناً آخر، ومن رفيف طير يحمل بين فكّيه غذاء فراخه، ومن ثم تخنقها الدموع، عندما تطلّ على الحيّ الذي جمع ذكرياتها المتأصّلة مع طفولتها وشبابها.

كانت ترى نفسها كسمك السلمون الذي وضع بيضه في موطنه الأصليّ، وعبر بحاراً، استغرقت عمره، ثم يجرفه الحنين والوفاء ويعود إليه، ليموت بين سربه.. وجف قلبها من هذا الهاجس. رفضته، همست في سرّها، كيف أموت هنا، وأولادي في وطن آخر؟

عبق القدم يثير أشجانها، وهي في الأحياء.. وأمام باب زاد الإهمال من تفاريجه توقّفت، جمعت أصابعها في بطن كفّها لتطرقه، تردّدت، انتابها ضيق، وحذر، ثم ارتأت أن تتجه إلى آخر، طرقته بلهفة الشوق، ومن ثم أطلّ وجه طيب الملامح، فيه تساؤل حائر، شيئاً فشيئاً اتّضحت الصورة الغائمة، وخفقت الأفئدة، بلهفة بادرتها خديجة:

- فخرية؟..

- خديجة؟..

كان اللقاء حاراً، طوى دهراً مديداً في لحظة آسرة.

- ما خبر ابنتي؟

جذبتها خديجة بيدها إلى داخل الغرفة، وفي فمها بسمة هامسة، وهي تشير إلى سرير، ترقد فيه صبية كغصن البان قدّاً، وكالوردة نضارة وفي وشوشة قالت:

- هذه "سناء" يا فخرية.

وقفت الأم الولهى مبهوتة عند أقدام السرير، وسألت:

- أفي حلم أنا؟

- بل هي الحقيقة.

صحت "سناء" على نشيج بكاء، وقفت صامتة، ذاهلة، تسارعت الصور في مخيلتها، وانبعث من بينها صورة أمها، أقبلت عليها تمسك بيدها، وتلمس وجهها، وبحب منهمر، ضمّتها، وهي تقول:

- طال غيابك يا أمي، عشت رهينة الانتظار مع خيالك في كل سكنات وخلجات حياتي.

ألجمت المفاجأة الأم، وانفجرت الاثنتان بالبكاء.. كان الشوق يجمع بينهما، كلقاء الأرض العطشى إلى الغيمة الممطرة، وتجول بينهما الأسئلة، وفي أجوبتها الصدق والصراحة، تبتلّ منها عروق نفس "سناء" وتخلع عنها رداء الشكّ، قالت:

- كنت أتصوّرك دائماً، حتى رأيتك حقيقة، فكرت بك كثيراً، وأفنيت أيامي، وأنا أتحدث إلى خيالك في ذهني، وفي صورتك، والآن وأنا في غمرة الفرح باللقاء نسيت مآسي الفراق.

- اعذريني يا سناء، كانت حياتي في البلدة ضنينة، فهل أكون فيها متسكّعة، اضطررت للرحيل مع أمي وإخوتي إلى لبنان، ثم شاء القدر أن أتزوج ويكثر أولادي، وتكرّرت مأساتي بموت أبيهم، وهم صغار، وبتنهيد قالت:

- كان الشوق يعربد في صدري مثلك، ويخاطب خيالك، لم يشغلني عنك شيء، ولو للحظة من عمري.

- آه يا أمي، ذكرياتي معك، عشت أحتضنها وأخشى عليها، وحين ترى فخرية غزارة دموع ابنتها، تغرّيها بقرب انفراج حالها، وإصلاح ما مضى، وتقول لها:

- إنك تحيين في قلبي، وتملئينه بالشوق، والتفكّر بك، من أجلك احتملت وحشة الليل، أفرّ إليه من دنياي ومشاغلي لأحيا مع طيفك في البيت الذي ترعرت فيه، وعند شجرة النارنج التي زرعتها يوم مولدك، ومع خصلات شعرك أسرّحها، ومع مرحك، وجريك مع قطّتك، ووراء الفراشات أتذكر كل لحظة عشناها معاً، وأنت تكبرين في ذهني يوماً بعد يوم.

- كنت في الليل أنسى النهار، وأفرّ من دنياي مع القمر، والنجوم، أحمّلها رسائلي إليك.. أضحك، وأنا أتذكر الأجنحة النورانية، تحلّق بي في الفضاء، وأتساءل: هل في القمر زرع وشجر، هل طيور تطير فيه، وجداول تجري على سطحه؟ إذاً لسكنت فيه مع خيالك، لا أبرحه، وأترك قلبي يحلم، وينسى الهجر، والمعاناة.. ثم لا يلبث الليل أن يعدني بلقياك.

- كنت إذا نظرت إلى طفلة ناديتها، وتأمّلتكِ في وجهها ثم أغرق في همومي.

- لك منّة في عنقي بإرشادك في صغري، سيّر حياتي وعلّمني الصبر، ونما معي.

- الصبر يعلّم الإنسان أشياء كثيرة، ما أروعه، وما أجمل العدل وهما يلتفيان، إنهما نابعان من أصل الجمال، من الجمال ما هو محسوس تدركه العين، ومنه ما تتحسسه النفس المرهفة، ويدركه العقل، كالقيم والأخلاق الفاضلة.

دمعت عينا خديجة، وهي تراهما، وتسمع تحاورهما، ثم غمر "سناء" صمت وذهول، فسألتها:

- ما بك يا "سناء" وأنت في غمرة الفرح باللقاء؟

نظرت إلى أمها، بعينين دامعتين، قائلة:

- أرجعيني طفلة يا أمي، واغمريني بحكاياتك، وتوجيهاتك، أن تكوني أمي، هذا الشيء الوحيد الذي أفخر به، لقد ضمّدت جراحاتي بمجيئك، كنت أعاني الأسى والحرمان.. الله يعلم ويشهد الليل، والبحر والقمر كم كنت أبكيك، وأشتاق إليك، بعد أن تركتني طفلة، بأيد قاسية لا ترحم. و..

- ثم طردت من بيت أبيك.

- كان طردي رحمة من الله، فيه انفكاك أسري، فألجأني إلى هذه الأسرة الطيبة.

بهمس سألتها أمها:

- ما مصير الأشياء التي تركتها في بيت أبيك؟

- أحضرتها معي، إنها تبهجني جداً، كنت أضمّها بشوق، وأجد فيها ريحك، وما كنت أتوقف عن البكاء، وأنا أقيس الثوب تلو الآخر، وأراه مطابقاً على جسدي، وأنا حينئذ غير قادرة على شراء ثوب.

- هل تعلمين بأني قد تركتها، لتتذكريني دائماً؟

- لا تقولي ذلك، لأني سأعود إلى البكاء ثانية.

أرادت فخرية أن تغيّر دفّة الحديث، سألتها وهي تعانقها بنظراتها:

- كيف كنت تقضين أيامك؟

سردت عليها تفاصيل كل شيء، ثم قالت:

- .. وإن شعرت بالسأم، أو هزّتني مواقف، أنا في غنى عن مواجهتها، انطلقت بنزهة في أحضان الطبيعة.

- أنت محقّة، ساعة في ظلال الأشجار، أو فوق صخرة عند الشاطئ دواء لهمومنا التي تتراكم فينا رغماً عنّا.

ثم أردفت:

- ما أجمل هذا النهار، وما أروع الأصيل! أنوار شمسه شفّافة في الأجواء، لوحة فنيّة كبرى، هيا بنا.

كانت فخرية تمضي مع "سناء" نحو الشاطئ، وروحها مثقلة بركام السنين، والغربة تجتاحها في بلدة ليست هي بها غريبة، وفي السماء تلوح بعض الغيوم، ولا مطر فوق الأرض.. كان الأولاد يلهون والصبايا يمرحن كالأطفال، و"سناء" مع أمها تشعر وكأنها نسمة من نسمات البحر، وشعاع من أشعة الشمس.. ثم قالت:

- كثيراً ما ردّدت بين هذه الصخور صوتي، وغنائي، وكثيراً ما صفت روحي في صمت مهيب، رائع بالمعاني، كنت كثيرة الذهول، أخفي رؤاي خلفه، وروحي في صعود، تفيض بالنفحات الإلهية.. في هذه الأمكنة كنت معك، وكنت معي، حتى إذا غابت الشمس، وحان رجوعي، أودعت الطبيعة سرّي، وأنا واثقة بأنها لا تبوح به.

- نحن مشتركتان بنفس الإحساس رغم البعاد.

فوق سطح البحر، كان زورق ينساب بهدوء، متجهاً إلى جزيرة أرواد، قالت أمها:

- الزورق وسيلة للنقل، وأيضاً للتنزّه، أتذكرين حين كنت صغيرة، و..

بسرعة بادرتها:

- حين كنا معاً في القارب، مشهد الزوارق يذكّرني دائماً بها، كنت أمدّ يدي في الماء، لأمسكه بأصابعي، فينزلق من بينها فتضحكين وتقولين: مهلاً يا صغيرتي، وأنت تشدّينني إليك، كان حسّي بالدعابة في الماء بهيجاً ولذيذاً.

التقيت بسناء بعد أيام، لمحت ضيقاً في ملامحها، سألتها:

- لم الحزن وأمك معك؟ ابتسمي، ظننت أنك ستكونين سعيدة جداً.

بقلب ينفطر ألماً أجابت:

- قريباً سترحل، وستعود إليّ الوحشة.

- عليك أن تكوني أشدّ صموداً في مواجهة الوحشة.

- كان بي رغبة أن تستقرّ هنا.

- مستحيل.. أنسيت أنّ لها أسرة تنتظرها؟

- لم أنس لقائي بها كان تهميشاً للزمن، وبدءاً لآخر.. وددت لو ألقاها غير مقيّدة بأحد غيري، ولا تفكر بالرحيل ثانية..

- تزوّدي ما استطعت من حديثها وإرشاداتها.

- لقد ظنّت بزواجها الثاني، أنها على قمة عالم مستقر، فيها الحياة رغيدة، التي لا يمكن معها إيجاد ثغرة، لكنها اكتشفت أنها تعيش على الحافّة، وأنها في عين العاصفة.

سكتت برهة، ثم استطردت:

- الرجل يرى سعادته في شعوره أنه القائد في البيت، وأن نجاحه المتواصل يكون في كل متطلباته الجسدية، والعاطفية، والمالية، وهي مهمة تعني الكثير للرجل. ولكن تتناقض أحياناً مع الواقع، فيرى الرجل مدافعاً عن رجولته المهددة.

- لأنه لم يستطع أن يتسلل إلى وجدانها.

ثم قالت "سناء":

- علمت من أمي الأسباب التي أودت بحياتها مع أبي، وكنت أنا الضحية.

- تطبيق شريعة الله يحقق السعادة للرجل، والمرأة معاً.

- لندع هذا الحديث، إنه يذكرني بماض حمل المآسي.

........................

كانت "سناء" وأمها في جلسة هادئة في المتنزه، تمتد فوقهما أغصان الشجر كخيمة خضراء، تمنع عنهما أشعة الشمس، وتتسرب من خلالها نسمات رقيقة. وكانتا تخوضان في حديث مليء بالشجون، وأسى الفراق، ومرارة البعاد الجارف، قالت "سناء":

- إن بلدتنا خانها الكثير من أبنائها بالهجرة منها.

هزّت فخرية رأسها... لم تعرف "سناء" إن كانت أمها تقبل التهمة أو تنفيها، وهل كانت مقتنعة برأيها هذا، وكأنها تتهمها بالإهمال؟ أم كان سكوتها لعدم اقتناعها بما تقول ابنتها؟. ثم أردفت:

- كنت أتذكرك مع هجرة كل واحد من بلده.

- الهجرات لن تتوقف، لأنهم يكتشفون أنهم غير قادرين على مواجهة الفقر في بلدهم، وقد يكون العجز في كسب المال، أو في قلة الحيلة.

- أهكذا نبقى مشتتين؟

- لا تزيدي يا ابنتي من ألم روحي، فهذا الشيب يعبر عما في نفسي من قروح.

فشلت فخرية في إقناع "سناء" بالذهاب معها إلى لبنان، خافت على مصيرها، وحين ترى انهمار دموعها، تعزيها بقرب انفراج حالها قائلة:

- أبكي حزناً على فراقك ثانية، وأبكي من ترددي، وحيرة رأيي سأشتاق إليك.

- إذن تعالي معي.

صمتت برهة، ثم قالت:

- لا أدري إن كان الله كتب لي قدراً فيه الفرج، أم أنه سبحانه وتعالى يدعوني أن أختار لنفسي بين الرحيل معك، والبقاء هنا.. ماذا أختار؟ لست أدري.

- دعي الحيرة يا ابنتي، والتردد، ستعيشين مع إخوتك، هم متشوقون إلى رؤيتك

أخذت "سناء" تقارن بين البلدة التي نشأت فيها، والغربة التي ستحياها في أرض غريبة بعيدة، حاورت أمها قائلة:

- بلدتي هي أرضي، وسمائي، أأهجرها إلى أخرى، وأرمي جسدي في أحضانها، وتبقى روحي معلقة ببلدتي، وراسخة في ذاكرتي، وتتجدد معاناتي ويمضي عمري، ويتعمق صمتي، وتكثر الأماني، والأحلام، وأسجن من جديد في قفص الأوهام، ومن ثم لا أعرف سبيلاً للنجاة منها؟.. آه، الغربة قاسية لا ترحم.

لوحت بيدها في رفض قاطع، وبتصميم قالت:

- سأبقى هنا في بلدتي، ولا أتجاوزها إلى غيرها، هي كل شيء في حياتي، لا يمكن تجاهلها مهما كان.

- ولكنك تعيشن في عذاب.

ابتسمت وهي تقول:

- الفرح يولد من رحم العذاب.

وببهجة قالت:

- بلدتنا لوحة فنية كبرى، تحوي الجمال كله، أريد أحياناً أن أعبر عنها في كلمات تهمس في خاطري، فتتمرد، وتفر، فجمال بلدتنا أسمى من الكلمات.

قالت أمها تحثّها:

- لا بد من المحاولات الجريئة لإخضاعها، وترويضها.

هزت "سناء" رأسها أسفاً، وقالت:

- آه، لطالما قلت: أمي هي الوطن، ولكني أرى الوطن أغلى من الأم.

احتضنتْ فخرية رأسها بين يديها، تداري هطول دموعها، فأمامها مهاجرة بعيدة خلف البحار، والقارات، وفي حيرة تتساءل:

هل أذكر لها ذلك؟

لا، أخشى عليها من الفاجعة.

قطع صمتها قرار "سناء":

- سأبقى مع كل شيء تحتضنه ذكرياتي معك... أنا لا أعيش في فراغ... أعيش في بيئتي، تؤثر بي وأؤثر بها... أمي لِمَ خطاك عجلى؟

- هناك من ينتظرني.

- يمكنك أن ترحلي... ستذهبين الآن بمفردك، لم يبق سوى ساعة لانطلاق السيارة، لا تخشي عليّ، بإذن الله لن أضيع.

أصغت إلى أمها، وهي تسمع آخر كلماتها، التي ذابت في دمها.. رحلت فخرية، لم تستطع "سناء" توديعها، على أمل اللقاء بها.

........................

لِمَ يبق "لسناء" بعد رحيل أمها سوى الليل، والوسادة، تشكو همومها، وخديجة الحنون نهاراً، تتبادل معها الذكريات، ويزيدها ألماً ذكرى موت أم مصطفى بلدغة أفعى في الحقل.

ذات مرة، سألت "سناء":

- لم رفضت الرحيل مع أمك، وآثرت البقاء في البلدة؟

بجدية أجابتني:

- الحياة ليست لهواً، وفرحاً كلها، آليت على نفسي تفقد الكسيرات وهذا ما يشعرني بالارتياح.

رأيت وجهها يضطرم، وتوقفت الكلمات في حلقها، منعتها غصة.

- هل بك من شيء؟

هزّت برأسها حين تذكرت موقفاً، هيج مشاعرها، حدثتني قائلة:

- آمنة

بسرعة سألت:

- زوجة الشهيد عرفان، هل حصل لها مكروه؟

سأقص عليك شيئاً مؤلماً.. كانت آمنة تسير في الطريق نحو الفرن، لتعجن، وتهيء للخبز، كعادتها كل صباح، ثم لتعود عند الظهيرة، تحمل خبز أطفالها، وحفنة من النقود.. يوم أمس عند الظهيرة، أحست بخطوات رجل يلاحقها، وبصوت هامس يناديها باسمها، لم تشك بأنها المقصودة، يتبع صوته، صفير الزعران ، وعندها استدارت، رأت في نظراته الريبة، علمت نيته السيئة عند ما مد يده ليناولها نقوداً، و..

- وماذا فعلتْ، هل سكتتْ؟

- رشقته بالشتائم، وبنظرات الاحتقار، ثم أسرعت تتعثر بدموعها وأكدت لي بأنه أحد رجال الأغوات المترفين، الذين يشترون أعراض البائسات بأموالهن.

قلت بضيق:

- أين الغيورون؟... سأخبر والدي بأمرها.

قالت، وهي تتنهد:

- الحياة قاسية، والعيش مرير،... اللعنة على الاستعمار الذي استنزف الكثرة من الرجال، ونهب الخيرات، ويتم الأطفال، ورمّل النساء، آمنة واحدة من هؤلاء... أعرفت لم أفضل البقاء هنا؟ لأني أعيش حكاية آمنة، وبدرية، وحليمة، وأم مصطفى وغيرهن، قلت بأمل:

- ستبقى بلدتنا تلفّ حمانا، وتنبعث منها المعاني الجميلة، تنشدها الأجيال، وتضفي عليهم المحبة، ويرف السلام، بعد حروب طاحنة، استمرت ستاً وعشرين سنة، وستبقى المشاعر، والأمنيات توحدهم بوعي، ووجدان.

قالت:

- أحبّ الحياة فيها، ومنها تنبثق خواطري، ويبقى حبي لبلدتي حلماً وفكرة، أناجيها من خلال نظراتي لطبيعتها الجميلة... كما في حبي لها ثورة على البؤس، والقسوة، والمعاناة، أليس هذا يعني أن الحياة تناديني؟... حياتي فيها تضحية، ووفاء ورضى هادئ في نفسي، مقرون بإيماني العميق.

- الجميع يكافح ويسعى نحو الارتقاء، ولديهم الوعي المرهف للبناء، كما أن الاهتمام بالبائسين واضح جداً، بتوجيه من المسجد... بلدتنا ملأى بأهل الخير، يفكرون بمستقبلها، أمّا الفئة الباغية، العميلة، التي جمعت ثروتها في زمن الاستعمار، فهي قلة منبوذة.

قالت بحماسة:

- الواجب يدعونا كي ننسج بأحلامنا دنيا جديدة، ونثور على الظلم والفساد، فالثورة تبدأ بالكلمات.

ثم ضحكت وهي تقول:

- أعتقد أن المآسي قد أخطأت عندما اختارتني، ستندم حتماً، ربما ظنت أني وجبة لذيذة، ستتأكد بأني لست كذلك، ثم من سيخسر في النهاية، ومن سيخسر من الآخر، أنا أم المآسي.

هتفت بفرح:

- بل هي ستخسر، وتكونين الساخرة.

- من الأجدر أن تكون المآسي في البلدة نداء لوحدتنا، ليس لتشتتنا وتهجرنا... كنت أظن أن أمي ملجئي الذي تتوقف عندها معاناتي، وصبري ولكن لم يتحقق ما أريد، وبقي الليل رفيقي، فلا أتوقف عن الترنح فيه، وفي النهار أرى الهرب من كل هذا في محاولتي الاندماج في البيئة، لأنشد علاقات اجتماعية واعية، برفقة نساء صالحات، نشيطات، تؤهلني كي أكون عضوة فعالة، تملأ البائسات حياتي صخباً، بشكاويهن، وأشكالهن المختلفة، وهمومهن المتناثرة، وتكون ذكرياتي مع أمي، الملاذ في الفراغ.

بتأسف قلت:

- لم يكن الناس هكذا فيما مضى، كانوا في خير يغمرهم ويفيض عنهم حتى إذا كان الاستعمار، أفرغ حقده المتأصل في التاريخ. فوقفنا ليشفي غليله باستئصالنا، ومحو هويتنا الإسلامية، وتشويه قيمنا ونهب ثرواتنا.

كانت "سناء" جزءاً من البلدة، تمسكت بها وصورة عن الأرض وحين رفضت الرحيل، قالت: جسدي مادة في المكان، وروحي تسرح في كل مكان من بلدتي، وفي كل زمان، ماضيه وحاضره ومستقبله.

.............................

هبطت عاصفة عاتية، هطل المطر فيها بغزارة وضجت الزوابع... تحت هذا الوابل العنيف، كان الناس يهربون في كل اتجاه، والمظلات الممزقة تطير، وتهرع "سناء" إلى البيت، تحتمي تحت سقفه... تلاه ليل ساكن رقيق وسكنت المخلوقات في مآويها... ثم انكشف الضحى لينير الوجود بإشراقه وضيائه، وتدب حركة الخلق في سعيهم لاكتساب الرزق.

أحست "سناء" بحبها للحياة ككل البشر وعشقت في الحب شذاه، ففؤادها يتعذب وتضغط على صباها من أن يتلهب من الشوق، وبابتهال قالت: ما اعتدت يا ربي التنفس في الخفاء حسبي أنت تحفظني، وترعاني.

اجتاحها إحساس باحتياجها إلى لمسة حنان، وودّ ويد حانية تمسح على آلامها، وتسكب الطمأنينة في قلبها، وتهدهد روحها المتعبة، وخاطرها القلق، وتقول: أهكذا بعد غيبة طويلة تجيء أمي، وتذهب في عجالة؟

الرحيل الثاني كان أشق علي من الغياب.

لم تخفي عني شعورها وهي تقول:

- أرى نفسي أسير وراء سراب، يا لوعتي من وهم السراب!

همست في أذنها:

- تشعرين بحاجتك إلى الاستقرار مع زوج، أليس كذلك؟

- لا أنكرك ما بي، أجري وراء طيف حبيب، وروحي تعانقه في الخيال، ألست كغيري من الصبابا؟.. ألمس طيفه، أتمناه، أحبه أرجوه بلا أمل في لقياه... ألمس طيفه، أتمناه أحبه أرجوه بلا أمل في لقياه... ثم أفرغ حبي للناس، فهو ضوئي في الطريق، وعالمي الذي أحيا، وأتنفس فيه، وتبقى سريرتي في صفاء.

ربت على كتفها، وبابتسامة أمل قلت:

- سيحنو عليك القدر قريباً.

ثم أردفت، أذكرها برحمة الله بها... منذ طفولتها فقلت:

- ما تركك ربك من قبل أبداً... ألم تكلوني أشبه باليتيمة في زمن أبيك، ورعاك؟... ألم يهدك إليه، وحفظت كتابه؟... أليس لجوؤك إلى هذه الأسرة الطيبة رحمة منه سبحانه؟...لقد أشعرك ربك بالأمان، ويسر لك الغنى، وجعل القلوب تتعاطف معك.

- لله المنة والفضل في كل ما يسره لي.

- سيفرج كربك، فقط اصبري، ودعي الأمر له سبحانه.

كانت "سناء" تتهادى فوق رمل الشاطئ، والأفق يتسع أمامها، والنسمات تداعب أهداب ملاءتها، وعيناها تنغرزان في الوجود، تتأمله، وتتصل روحها بخالقها، فيتغشاها شجى شفاف، يمتزج بلوعة الفراق، ولكن صفاء الضحى، أوحى إلى قلبها الأنس، وربط مشاعرها بمظاهر الكون، وأزال منه الاستيحاش، وسرى عنها.

كان حديث صامت يجول في صدرها فيه شكر لنعم الله عليها، وتتساءل بجراءة: لم أبطأ القدر بلقيا الحبيب؟

لم تكن تدري بأن ثمة شاباً من بعيد يراقبها، يمنعه الحياء من الاقتراب، تارة يغرز نظراته فيها، وأخرى يغضها، سرت في نفسها فرحة خفية... استعادت حكاية علاء من الأحاديث المتناثرة، استدارت نحو الطريق ملفوفة بملاءتها، تغمر روحها ألفة.

طفلا علاء يفتقدان الحنان والدعاية بعد موت أمهما، ولم يجد الحي أفضل من تجربة اليتم، والحرمان.

قالت خديجة، والبشر يطفح على وجهها:

- لقد ذكرك الشيخ عبد الله، لتكوني زوجة لتلميذه علاء لأنك ذات دين وتقى.

 وبضحكة صامتة قالت:

- ولأنك نضرة كالزهرة المتفتحة.

استسلمت "سناء" بصمت خالطه الحنين، وهمست: لقد كانت أمي عجلى للسفر لو بقيت لشاركتني فرحتي.

قطع الصمت سؤال خديجة:

- ما قرارك؟.. لا سبيل للانتظار، علاء في عجالة من أمره في الليلة الموعودة بدت "سناء" وافرة الحظ من الجمال.. متألقة كالملاك تتطاير حولها الزغاريد.

دهشت وأنا أرى دموعها، سألتها:

- ما يبكيك، وأنت في أبهى لحظات السرور؟

- أبكي من الفرحة، لقد تحقق ما كنت أتمنّاه.

- إنك الآن تقتطفين ثمرات صبرك.. على فكرة، لعلاء طفلان.

- أعلم، هذا ما يسعدني، سأكون لهما أماً، وأوفّر لهما ما لم يوفّره غيري، وأنقذهما من الضياع والحرمان العاطفي.

- أرأيت القدر لم يخطئك، فالأمور تتغيّر، وتجري بسرعة فائقة.

ارتعش قلب "سناء" وهي تخطو خطواتها الأولى داخل بيت الزوجية، تنهّدت بارتياح فالحلم ملء راحتيها، والبهجة استحوذت على نفوس الناس.

قلت:

- أين هذا المنزل من الذي طردت منه؟ لو كانت زوجة أبيك على قيد الحياة، لأكلت الغيرة قلبها، بارك الله لك، منزل واسع وحديقة زاهية، ومضخة ماء فوق البئر، وطفلان كالملائكة.

غامت عيناها قليلاً، وشفتاها تترددان بكلمات الشكر لله، ونظراتها تحوم حول إخوتها، والسعادة ترقص في عيونهم.. ثم طمأنتهم بقولها:

- لن يمنعني الزواج من صحبتكم، والإشراف عليكم..

في سكون الصباح الهادئ، وفي حديقة المنزل، والشجر، والزهور على اختلاف أنواعها والأنوار تنساب على الأشياء والمكان يؤكد سكونه إلا من غناء "سناء" الرقيق الخافت، وضحكات الطفلين وهما يجريان، كانت العصافير تشدو فوق الأغصان، كأنها تقول: دعي الأرق، وانظري إلى كل شيء بسعادة.

رأت أن حياة متكاملة داخل هذا البيت، وهي تحدّث نفسها قائلة: كم كنت أفتقد مثل هذا التكامل الجميل.

سألت زوجها:

- هل أستطيع أن أنسى أمي، والأرق؟

بهدوء أجابها:

- دعي أمك تعيش حياتها كما تريد، وكوني أنت كما تريدين، واعملي على تحقيق أحلامك.

- هل تعلم ما هي؟

- حدّثيني عنها.

- التجربات صورة من مراحل عمر الإنسان، من خلالها وجدت أصعب شيء على اليتيم قهره، وكسر خاطره، وإذلاله، أتذكّر حين كنت ضعيفة غير قادرة على حماية نفسي، فرعاني الله، وأخرجني من الظلم، ثم انهمكت في العمل على ماكينة الخياطة، فكنت في تصالح دائم معها، عرفت أسرارها بدقّة، فأصادقها كأنها إنسان له جوارح، ومشاعر، هكذا كنت ولا أزال، أحاسب نفسي فأفكّها وأنظفها وأعيد تركيبها، مثلي الأعلى: حاسبوا أنفسكم قبل أن تحاسبوا، وأشكر الله أن هداني إليه، وطاوعني قلبي لما يريد، فطاوعتني جوارحي، أشعر بعقلي وفؤادي في تناغم، كل منهما يردّد صدى الآخر.. لذا آليت على نفسي أن أرعى الأيتام والبائسين ما استطعت، وأستمر في تعليم الأطفال تلاوة كتاب الله.

- إنه عمل رائع، يقرّبك من الله سبحانه.

زرتها وهي في جلسة هادئة في ظل شجرة النارنج، ترتشف قهوتها في صمت، قالت في شجى:

- هذا الفنجان يعني لي الكثير، كلما لمسته شفتاي اجتاحني اشتياق إلى قهوة أمي، أضمّه بيدين متلهفتين إليها، ألثم أطرافه، وتنبعث ذكراها في ملامستي له، فتطفر الدموع من عيني، وأتساءل: هل من لقاء آخر، والمسافات الشاسعة تفصل بيننا؟.. أعيش بين سرور دعاه الاستقرار وحزن دعاه البعاد.. لقد طالت غيبتها، وعدتني بالعودة ولم تعد، يبدو أنها استمرأت القرار في إسترالية كما حصل لخالتي في البرازيل، وآخرين في القارات المختلفة.

رأيت أن أهدّئ من أشجانها، فقلت:

- أصبحت الهجرة شيئاً عادياً، ففي صدور المهاجرين أحلام تتهادى، وطموحات تمتد، وانطلاقات من واقع متعثر.

- ألم يهزّهم الحنين إلى الوطن؟ أسئلة تتجاذبني بحيرة، لا أدري لها جواباً، سيبقى خيال أمي ماثلاً في خاطري.. أحياناً أرى أنّ من العار أن تأوي النساء المسلمات إلى بلاد الكفر، مستجديات حقوقهنّ المهدورة في أوطانهنّ، يجدن فيها الأمان، والضمان من الفقر، ويغرفن من كنوزها الموعودة.. ألم يكن الصبر أفضل من الهجرة؟

نظر إليها علاء برأفة، وقال:

- لا تشغلي فكرك في أمور لا طائل منها، يمكنك أن تحقّقي مبادئك المثالية هنا، في البلدة، دعي أمك وشأنها، لا تلوميها، هي أدرى بما يفيدها ويفيد أولادها.

بحزن قالت:

- إذاً سنبقى مشتتين.

قلتُ:

- وسنكون نحن كذلك.

نظرت إليّ بارتياب، سائلة"

- هل من سرّ تخفيه عنّي؟

- قريباً، سننتقل إلى اللاذقية، هذه رغبة والدي.

عقد الصمت الحزين في وجوهنا، لم تصدّق ما سمعت، بامتعاض قالت:

- أيمكن أن يكون ما تقولينه، وبهذه السرعة؟.. أترضين هذا؟

- أجل يا "سناء" صار الفراق لغة العصر، يمزّق الجميع، لا يصغي إلى المشاعر، هو حكيم وفيلسوف.. وينتظرني فراق آخر، ستعلمينه بعد حين.

- أهو لغز؟

لم تدري "سناء" مدى لوعتي لفراق بلدتي، ألم تقل الوطن هو الأم؟ وأنا ماذا أقول؟.. أعتبر بلدتي وطني الأصغر، ولد من الوطن الأم، إن ابتعدت عنه في رحلة، شدّني الشوق إلى بحره، وشاطئه وأحراشه، ونهره وجباله وأرواد الماسة الساحرة كقوس قزح تحت شعاع الشمس.

استفقتُ من ذهولي على بكائها، وأنا أقول لها:

- من يخفّف عن الأخرى، أنا أم أنت؟.. ليس باليد حيلة، رأيت أن تتحدث بشيء آخر، فسألتها:

- أي الكتب تقرئين؟

بفخر أجابت:

- مكتبة علاء زاخرة بالكتب المتنوعة، أتلذذ بقراءة أشعار لنازك الملائكة، وصبيحة حداد، وعزيزة هارون، شعرهن يلمس وجداني، ويتغلغل في شغاف قلبي.

- أما أنا فأغرق في قراءة القصص، في صفاء المصيف في الجبال، بين الأشجار، وقرب الجداول، فوق الأعشاب، وألقي خلفي صخب الأولاد، والذكريات تجري حولي، معزولة عن نفسي تجذبني وأجذبها..

*  *  *

رسالى إلى "سناء":

لقد مضى على افتراقنا سنتان، لا أزال أذكر أجمل أيام طفولتي معك، ونحن في صحبة بريئة، كنا نلعب عند الخالة خديجة، ونحن صغار، نجري في دائرة الحوش الصغيرة، فتتسع لنا، كان كل منا يمسك بذيل ثوب الأخرى، وفاطمة معنا.. اليوم جلسنا نذكرك أنا وإخوتي، وفكّرنا أن نلتقي ثانية، لنتعرّف على أيام حلوة قد خلت، ونستعيد الذكريات، هل ما زلت شغوفاً بالقراءة، وأي الكتب تطالعين؟

.......................

*   *   *

رسالة من "سناء":

بلغني خطابك، يصف مدى تآلفك مع المحيط الجديد، كانت كلماتك ترقص ابتهاجاً، والأحداث المثيرة لها كثيرة، منها نجاحك وخطبتك، ولكن ما آلمني هو قرب انتقالك من غربة إلى أخرى، فهل أراك في غربتك الجديدة؟.. إنّ الأقدار لا تنفكّ ترسم لنا آفاقاً جديدة، بأي لون؟ هل هو لون الأحزان أم الأفراح؟

تسألينني عن الكتب التي أقبل عليها، قبل كل شيء أتأثّر بقصص القرآن الكريم، المتناثرة في أحداثها، ومواقفها في سوره وآياته، وأستغرق في تدبّر كل قصة على حدة، ومن كل واحدة أستخلص العظة والعبر، وقد أمدّتني بشحنة من العافية النفسية.

رسالة إلى "سناء":

أجمل اللحظات لديّ، عندما أخلو بنفسي، جليسي القرآن، أو كتاب، وذكريات تلوح في الخيال، أتمثلك أمامي بقامتك الطويلة، وقد امتلأت ووجهك الطيّب وعينيك وهما تتدفقان حباً لزوجك وطفليه.

الأيام التي قضيناها بحيّنا، تزوّدني بزاد من الرؤية لنفسي، كانت أساساً لرؤية أوسع، تملأ حياتي بالإيجابيات من الأحلام، وتكشف لي جمالاً خفياً خلف الأشياء، وأستطيع أن أجعل حريتي، وفقاً لمبدئي في ديني.

فكّرت كثيراً، لماذا نحبّ الحياة، أنا وأنت فجاءني الجواب، لأنها مزرعة لما بعدها، نقطف ثمارها بلذّة، تساعدنا في أن نقتحم الأحداث الموحشة، ونحطّم الشرّ في داخلنا، وفي غيرنا.

للحياة سرّ بل أسرار، تنكشف لنا شيئاً فشيئاً، ونشعر بجمالها في نسيمها، وطبيعتها ونتلذّذ بتدبّر معانيها التي تطلق أخيلتنا إلى آفاق الكون البعيدة، لنلتقي هنالك بحبّ موصول لا ينقطع، حبنا لله سبحانه.

الإيمان سرّ خفي في القلوب، يفتّحه الوجود، ويدلّنا عليه التدبّر في صفحات الكون، وآيات القرآن.

رسالة من "سناء":

الدنيا مشاغل، وقلبي لا يتوقف عن التذكّر والتفكّر أكتفي بأن أغمض عيني في خلوتي، وأفكر في الأيام الجميلة بصحبتك، وصحبة المعلمة هيفاء، الأيام ثمينة، وهي تكرّ وتفرّ من بين أيدينا، كرمل الشاطئ حينما كنّا نلعب به، لم يخطر ببالي أن نفترق، وترحلين مع أهلك إلى اللاذقية، ثم ترحلين إلى حماة، رحيل بعد رحيل، ما أمرّ الفراق!.. هل أغبطك على التنقل من الشاطئ إلى النهر، ومن الأراجيح إلى النواعير؟.. هل تستطيعين تحمل آلام الفراق؟.. أعانك الله أنت وأمي سواء، إنّ ملتقانا على الورق، ومع الذكريات في الخيال، وسروري بأخبارك عميق.. ما أجمل الأيام، والبلدة التي نشأنا فيها! إني أستمر في قراءة ما يحلو لي من الكتب التي يختارها علاء لي، إحساسي بلذّة القراءة والاستمرار بها فوز كبير، ولم ينطفئ شغفي بها، وهي توسع آفاق فكري، ومن المستحيل أن أتوقف على حافتها، وهذا يؤكد قوله تعالى: وما أوتيتم متن العلم إلا قليلاً.

أكتب إليك وأطفالي يلعبون، ويصخبون، وأنا عاجزة عن ضبط حركاتهم وأسيرة بين أيديهم، ولطلباتهم، ولكنني سعيدة بهم، مستسلمة لهم، أنا وعلاء نعيش في سعادة، مبدؤنا الفضيلة هي أمننا، وسكينتنا، وسرورنا، ونعيش في جنّة، فأيّ مكافأة أفضل لنا في دنيانا؟

رسالة إلى "سناء":

قرأت خطابك وأعجبني ما فيه، وانتابني إحساس بالراحة، واستمتعت بكلامك المعذب فوق الورق، كأنك طير تغرّدين من حديقتك وحولك يزقزق أطفالك، تحملين عبق ذكريات بلدتنا الجميلة، وشعبها الأبيّ، وألثم ورودها وزيتونها وأعانق برّها وشاطئها.

قبلاتي إلى فخرية الصغيرة، ومحمود الصغير، أبيت إلا أن تعيشي معهما، وتحمّلين طفليك اسميهما.

رسالة من "سناء":

قرأت خطابك مرة مرتين، وثلاثاً لشدة سروري بمحتواه، أسمع صوتك من خلال الكلمات، فتملؤني سروراً لأخبارك، وكنت أجري وراء الذكريات معكم، في طريق من السنين طويل، وروحي تملؤني، ولا أراها، كنت منّي قريبة.. حصلت على قصة (إصلاح) وقرأتها، بتأن، وقصصتها على أطفالي، بما يتناسب مع أعمارهم.

عرفت لذة التمرّد ظلّ هذا الإحساس يلازمني، أشعر بحياتي القديمة تتساقط شيئاً فشيئاً، كالرداء، أو كورق الشجرة، تبعثرها الريح، ولا أبالي بها، وتبدو غريبة عنّي، كان هذا الإحساس يسعدني، وكنت أحتفل به في قلبي.

رسالة مني إلى "سناء":

فكرت كثيراً في خطابك الأخير، وفي عباراته الجميلة، فغمرني إعجاب شديد، وأحسست بروحك تصفو وتصعد إلى معان رائعة، وتدبرك في معاني القرآن الكريم، والمطالعة هما اللذان جذباك إلى الصفاء والسمو، إنها الرغبة في تطوير النفس، التي تعمل المستحيل، لم تشدّك ترهات في الواقع، ولا الشهوات والأهواء، التقينا في المشاعر المعنوية، ومن مائدة القرآن تغذّينا.

أشواقي إليكم، وروحي دائمة السفر إليكم، لا يمكن أن أنسى الحياة في الحيّ بجواركم، وحين تحنّ إليه نفسي، أزوره في الخيال، وأتفقد الجيران، لأطفئ لهب الحنين إلى الماضي.

رسالة من "سناء":

إن الحب في الله شعور سام، لا يمكن للواقع أن يضاهيه فالواقع ضيق لا يشبع رغباتنا النفسية، فيه النفاق والكذب والتظاهر والتفاخر وهذه صفات ننكرها في واقعنا الإسلامي، نحن نتطلع إلى الأسمى والأمثل... إن الحياة قاسية جد قاسية، والحياة تدوسنا وتنهكنا بالظروف المتناقضة، وتدوس أحلامنا وتمنياتنا نجري لتحقيقها برغبة، فإذا ما تحقق الشيء صار عادياً وقلّت قيمته، تظل الرغبات أحلاماً جميلة، حتى نملكها كما المال نكسبه، وننفقه ثم يصبح شيئاً عادياً.

لا أريد أن أجري وراء الواقع، الواقع متاع الدنيا القليل الفاني لذا وجهت واقعي بحيث يكون أكثر جدية، وأكثر جمالاً فتعلقت باهتمامي بأطفالي، وتوجيههم نحو الفضيلة بالإضافة إلى نشاطي الاجتماعي.

أقرأ بنهم، وآخذ حذري من التأثر بكتب منافية للقيم، فالقراءة تضيء ما في داخلي، وتمنحني الفكر والسلوك، والمطالعة المستمر تحتاج إلى الأوقات المتسعة، مثل الوجود.

رسالة من "سناء" إلى أمها:

... ترغبينني بالهجرة إلى أسترالية، فيها الثروة والعيش الهنيء، إني أفضل يا أمي أن أعيش في عش صغير، وحياة متواضعة أملكها في بلدتي على أن أعيش حياة كبيرة تملكني أشعرتني وكأنني هبطت فجأة من السماء إلى الأرض، وعدت إلى الحياة من جديد... وشعرت بموجة من السرور وأنا أقرأ خطابك، وأعدت قراءته مرات، وأغمضت عيني وأنا أتصورك أمامي واحتضنت خيالك.

...................

حين بدأت أعدّ الحقيبة للسفر الطويل، دارت بي الأرض، وكأنها تحتضنني، وأحسست بها هي التي تملكني، ولست أنا التي أملكها. هي التي تجثم في صدري، وعلى أكتافي، وتسوقني إلى حيث لا أريد، ولكن الواجب يحتم عليّ زيارة بعض أبنائي الذين هاجروا إلى أستراليا، ومعرفة أحوالهم... لكن قبل السفر انتابني قلق، أخفيت وجهي، وأنا مازلت أمضغ الضيق الذي استولى علي، وأغمضت عيني على صورة الشارع الذي أسكن فيه، وقد اخضرت على رصيفه الأزهار وأزهرت وأصغيت بسمعي إلى أنين النواعير، وكأنها تودعني بحزن... وأمام النافذة التي تناديني منها الشمس حين إشراقها والهاتف الذي يهمس في أذني بكلمات الصديقات، أحسست بذهني يصفو وروحي تهدأ وهمست بجوارحي المضطربة.. سأعود، سأعود.

كان يشدني في أسترالية التعرف على فخرية، ثم كان ما أردت وجدتها قد ازدادت وقاراً في المهجر، واحتفظت بحيويتها، وحديثها المنطقي... كنت أنظر في عينيها النجلاوين، وتلامس نظراتي تعبيرات وجهها، فأستشف منها أموراً خفية، وكانت تملاْ الوقت حديثاً ولم ترفع عينيها عن التطلع إلى الماضي والمستقبل... استغربت من قسوة الأقدار جعلتني أسألها:

لماذا تتأخر الآمال هكذا دائماً؟.. ولماذا تسقط أحياناً بعد أن يجف الزرع؟

برزانة أجابتني:

- إن شاخ المرء ومات، فإنه لم يمت فما زال يانعاً، مخضراً باقياً في أبنائه.

في حوار معها قلت:

- أرى هنا الفساد منتشراً في كل مكان، يبدو في عري المرأة، والمخدرات، وأشياء كثيرة.

- إن الفضيلة لم تمت وهي أمان الخائفين، وسكينة الورعين.

ابتسمت وأنا أقول:

- أرى الجمال في كل شيء في الوجوه، والبيوت، والطبيعة.. أعجب للفضلاء، ينتظرون أن يكافئوا على فضيلتهم بالجنة وهم هنا في الجنة.

بجدية قالت:

- جنة الدنيا هنالك في الوطن.

صمتت برهة، وعندما رفعت وجهها، رأيت عينيها مكسوتين ببريق رقيق من الدموع... ولفتني نبرات صوتها في موجة من الحزن كانت تتمنى أن تجد في وطنها ما تجده هنا، ثم أردفت:

- التغيير كان حلماً لنا.

قلت:

- الأحلام لا تموت.

- الماضي فات، والحاضر يفوت.

- والمستقبل سيأتي، ويفوت.

- والأيام تكر تباعاً في كلمة ثمينة اسمها الزمن.

- كالرمل تتساقط بنعومة.

بعد صمت هادئ، قلت:

- علمت بأنك تقولين الشعر منذ صباك، هل تسمعيني بعضاً منه:

تناولت أوراقاً، احتفظت بها في درج المكتب، وأخذت تلقي شيئاً منه، بصوت ذي نبرات متموجة، تتآلف مع المعاني كان أكثره يدور حول "سناء" والوطن، فيه رقة وحزن، وهو مفعم بالإيمان والأمل بمستقبل جميل، لم تعد تخاف من الماضي، ألقت مخاوفها في بحر النسيان وأغرقتها... سكت على مضض وأنا ألوك في فمي مئات الكلمات.

قالت وغشاء رقيق برق في عينيها:

- الشعب في الوطن طحنه الاستعمار، وبقي إباؤه وكبرياؤه.

باستنكار قلت:

- نسمع بعطف بريطانيا عليه، هل هو تنافس، أو شعور حقيقي؟

- ذلك ما يحدثنا عنه التاريخ.

ثم أردفت:

- كنا ونحن في الوطن، ننتظر انهيار الحضارة الغربية، وننعي عليها بالتردي مستلهمين، ومقلدين لما نقرأ ونسمع، نتوجس من أساليب حياتية، لم تكن في حسباننا، تتعدى على إرثنا ولم تدخل في وعينا ثم بالمقارنة وجدنا أننا بالفعل نحتاج إلى إعادة النظر فيما حولنا.

قلت باستغراب:

- من خلال وجودي في أسترالية، رأيت أن الاستعمار أرانا في بلادنا الجانب المظلم، السيء من تدمير وإفساد لقيمنا ونهب لثرواتنا ولم يرنا الجانب المضيء.

- أجل.

سألتها باستفزاز:

- هل تشعرين وكأن حياتك أرجوحة بين أسترالية والوطن؟

- أنا كغيري من المهاجرين، ممنوعون من الفرار، وشاردون في البحار، أرواحنا في أوطاننا، وأجسامنا في المهجر. فنحن في تأرجح مستمر.

قلت:

- هذا ما لاحظته وسمعته من مهاجرين، وأنا في الطائرة، إنهم مصممون على العودة إلى أوطانهم، يعملون في المهجر، ويكسبون ويبنون هناك، ويقررون الموت فيها... هل آن لك أن تستريحي في الوطن، أم تبقي ممعنة في الفرار؟ وهل يعود الفرح إليه؟

تنهدت، وبأسف شديد قالت:

- لن تهدأ الرحلات في الجو والبحر، ستبقى محملة بالمهاجرين لحكمة أرادها الله.

قلت:

- أنت لا تنتمين إلى هذه الشواطئ، انخلعي منها واستديري. شاطئنا في انتظارك، وعينا "سناء" لا تزالان تسيلان بالدموع لفراقك.

- أنا مثلها في اشتياق دائم، سأعود بإذن الله لأموت فيه، لا يعوضني شيء عن وطني.

- هل تحدثينني بالتفصيل، عن حياتك، وحياة الجالية العربية؟

نظرت إلي وهي تمرر ابتسامة امتزجت بضحكة في وجهها، قائلة:

- هذه قصة أخرى، سأحدثك عنها في وقت آخر.

وسوم: العدد 796