قصة "المتحابون"

وليد صابر شرشير

قصة "المتحابون"

وليد صابر شرشير/مصر

[email protected]

سأروي لكم كيف هلكت القرية في غمضة عين..!

**

حملق الشيخ تجاه الجلوس، زعق بكل قوة فيه دون غمضة عين.."هل تحاببتم؟" نظر الحاضرون إلى الأرض طويلاً، وأشاح البعض الآخر

في زهول، وامتعض  البعض، تردد آخرون، ونظر بعض المتدينين الذين تثقفوا

حتى عن الخطيب الإمام في زهوٍ بتطبيق هذا المبدأ العظيم..

ولكنه أكمل "قويكم بضعيفكم،خيّركم بأدناكم ،أولكم بآخركم" امتقعت وجوه المتدينين

في عدم اقتناع ولاحت لهم أن الإمام يخرف،كيف يكون الأعلى بالأدنى،الجاهل

بالمحقق الولاية والخبرة والعلم،وعلا صوت الإمام"أيها الناس لن تؤمنوا حتى تحابوا"  صخرة وسط الركود،ترددت موجات الناس, تذبذبت مشاعرهم..كلٌّ

على حسب ماشعروما عرف وما فهم وما فقه ..وما لامس..

الإيمان شرط التحابب,الإيمان بمن؟..بالله!!..يا إمام كيف ونحن لا تجمعنا إلا

هذه الصلاة الجامعة في هذا اليوم المبارك وهو يوم الجمعة في تعداد الأيام المباركة التي تجمعنا مكاناً فقط ،يا إمام..يا إمام..وراح كلٌّ تهمهم له نفسه،ويشعر كأنه يتدلى من شاهق إلى القعر..يا إمام..يا إمام......

وراح كلٌّ يتحسس ثياب نفسه،أحس الجميع أن غلالةً فقط هى كل ما على نفوسهم

كيف يحقُّ لك يا إمام أن تطوّل هذه الخطبة تلك الجمعة بتلك الطريقة؟أقصرْ يفتح الله عليك،لاترمِ ملحاً على الجراح،دع الخلق للخالق،يا أخي..أنت تعدل الكون..كان غيرك..تكلمْ فيما يفيد الناس..تكلّم عن المصالح مثلاً..هذا الخطيب لا يعرف معنى الخطابة الحقة ويتطرق إلى أحاديث موضوعة مختلقة سأشهر به..هذا الإمام ليس مكانه في تلك القرية المنحطة سيسخرون منك يا مسكين..ألا تعلم ..ألا تذكر خطبك الأخرى وهى دون تلك ولا تتطرق إلى الجراح وقد كانوا يجترحونك كثيراً ويسخرون منك..ألا تعلم وقت ان تطاولت بالكلام عن العجائز المرتادي المسجد بالنقد والنصح كيف كانوا يبعثون بالشكاوى إلى الأوقاف..أيها

الشيخ عد إلى الحسنى وإلا ستغرب بلا عودة..

هكذا أنت لا تريح ولا تستريح..أه!..أحب جاري ذلك الملعون "عرفة"أف وأنا ابن الأصول"حلمي الجزايرلي"..ملعون أبوك يا حلمي ..أحبه وأنا عرفة  لا يمكن ولو وضعوا البحر عند الجنوب والبحيرة عند الشمال أبداً..بتاتاً..فلو أُلقي َ في الجحيم لانشرح قلبي وصدري وعقلي..

يا إمام كف الأذى..أف هذا الخطيب الذي يثقل أرؤسنابما لانفهم..وأول خطبة نفهمها منه بزعيقه وطرقه الشديد كالمجنون على المنبر لا نسمع إلا هذا العته والتخريف..

البلد مكظوم أيها الرجل الطيب بالحقد والحسد والكراهية..يقول الشباب انا شابٌّ وما ذنبي وكلهم يكرهني أيها الإمام وجِّه الخطاب إلى الكبار..وجِّه الخطاب إلى الشباب..

وجِّه الخطاب إلى النهاية وإلى النساء وانتهِ وأدعو لك بالسلامة من كل لسان في القرية..

"أيها الناس،يقول الرسول الكريم.."وهنا واصفر وجهه واحتقن وكاد يقع من فوق المنبر العالي..لولا أن وقف باستماتة رهيبة.."يقول الرسول –صلى الله عليه وسلم-

:لا يؤمن احدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه...و"...يا عم انزل أراك متعباً..استرح

وأرحنا من هذا الكلام الذي لن يفيد...

"و...ما افترق قوم إلا أهلكوا..انجوا بأنفسكم بالمحبة والوئام.يقول الله تعالى في كتابه العزيز:واعتصموا بحبل الله جميعا ولا تفرقوا..وقال الرسول:تهادوا تحابوا.."

نتهادى بالشتائم والنميمة والغش والكراهية والمن والأذى،بل ليهادونا بالسكوت عن أذاهم فهو أهم إهداء لنا والله المستعان،انا معك في هذا رغم ما بيننا من اختلاف وسأوضح ذلك في نفس المسجد بعد استئذانك..طبعاً!..في الخطبة..وأعلم أنك توافق مكرهاً  ولكن في الأغلب أنك

رجلٌ طيبٌ..

"يا عباد الله إن التفرق نصرٌلعدونا ،بالحب نهزم الأعداء..بكوننا يد واحدةٌ تنهض أمتنا..نحن ضياع ضائعون، أيها الشباب يا من تنشئون على الكراهية والاستعلاء والغش والضياع والكذب والأذى والخلاعة..أحبوا إخوانكم يحببكم الله لأن الله يعلن أن من السبعة الذين يظلهم في ظله يوم لا ظل إلا ظله ومنهم(رجلان تحابا في الله)

فالحب في الله هو هذا الحب النابغيُّ القدسيُّ الذي لا تحده المصالح ولا الرياء ولا السمعة ولا الكذب..اشهدكم أني أحبكموا جميعاً في الله،فأحبوني في الله..وتحابوا في الله..صيغوا العمر لحظات المحبة في الله..ستروا الدنيا بهجة وسروراً ونصراً،لا كما الآن قحطاً وشروراً وذلاًّ..يا.." وراح يسعلُ والكل مشدود إليه بخيطٍ خفيٍّ..ضاعت فرص التفكير في الطعام والمصالح والنوم زالغزل وأخذ الحق والظلم والثأر والإعتداء، وأصبح القلب مفروغاً

ومستمداً من رحيق هذا المتكلم الذي يتكلم بصعوبة..بًُح صوت الإمام،تصبب عرقاً،تمتم..

سعل سعالاً شديداً.."أوصيكم..."

والكل تقاطرت عيونه من سحابة التعلق والقلق..بلل الدمع عشرات الوجنات الصلدة من الحقد والقسوة..ماذا توصي...؟..ما لك أيها الرجل الطيب؟..أرح  ولكن ما الوصية..سأحبك

يا عرفة ..سأحبك يا حلمي..سأحب هذا الجار..وذلك العم الظالم..

سأحب كل الناس..ساحب هؤلاء الناس..أهل بلدي..رغم علمي وتحصيلي وقدري..

إننا جميعاً عباد الله..نعم..نعم..لقد قرأت دراسات نفساويةسياسية عن أن المحبة

صنعت تاريخ وحضارة..بالحب الإلهيّ بنى المسلمون الأوائل أقوى إمبراطورية

عرفها التاربخ..بالرجوع غلى الله يتم النصر..أذكر جيداً وقت ما كنا في هذي الحرب

العظيمة حرب التحرير الرمضانيِّ..اذكر من حلاوة النصر والتكبير والتهليل أن نسينا الفطور..أن عانقنا بعضنا كلنا..أن  اصبحنا قلباً واحداً..شرياناً دافئاً بالمحبة والإيمان في النصر

والتضحية والفداء والعطاء والتسامي لدرجة الملائكة..

نعم شعرنا بالملائكة طوافة في عنان السماء المهللة بالإيمان والوحدة..وتوحّدت كلمة العرب فيها..ختم النصر..تم النصر وكادت تطاع من شفتيه هذه الكلمة فحبسها في عينيه الدامعة

وراح يُشد إلى هذا الإمام أكثر فأكثر حتى لكأنه يشعر بانهما يطيران ليتلامسا في الفضاء اللانهائيّ اللاذورديّ..

"أوصيكم بالمحبة يا عباد الله،عباد الله كونوا عباد الله إخواناً متراحمين فيما بينكم،يغتاظ منكم عدوكم،عدوكم انفسكم قبل عدوكم الجاسر الباغي..قووا شر

 أنفسكم ستنعموا صدقوني بالرخاء..والنقاء..والعدل..ستملئ لكم الديار بالبركة،

أتذكرون ذلك العهد.."..نعم نذكر لا تتكلم يا إمام..ياه لهذا العصر(الفللي)كانت القرية كلها

يدها في يد بعضها البعض،كانت البركة والقناعة والأمان والمحبة..عندما تقدم الزمان زحف الغل والطمع والصرعة والكذب والغش والقتل والعدوان والزور..

أف..لنحس والله يا إمام أننا مغصوبين من هذا العصر الرشيد،هل يرجع هذا الزمان؟..هل يرجع حلم الأمان؟..يا سلام..وانتبهَ على صرخة مدوية من فم الإمام

في قلب المسجد الذي أصبح من به كلهم نبض واحد كالموج يكون بحراً شطه المنبر ويزحف عليه لحتضنه بقوة..

"لا تؤمنوا حتى تحابوا..الفاروق..الصديق..عثمان ..عليّ..النصاروالمهاجرون..القلة والكثرة..عصر الحب..ارتفعوا بالحب..بُشروا بالجنة لهذا الود والنور..شادوا العزة بالله

فدانت لهم الدنيا،نحن بالكراهية مداسون مهانون..لا قيمة ولا معنى..بلاء..

غلاء..نار..نار..من ينقذ نفسه؟..أوصيكم بالتقوى وآخر دعواي أن الحمد لله رب العالمين ..

اللهم اجعلنا قوماً متحابين لنصرة دينك وأمتك..يا ..يا الله"

ولفظ الكل والإمام أنفاسهم في كلمة واحدة تخرج من الأعماق..من بين الدموع..

من الشفتين من الصدر..سالت..تهادت..تبخرت"آآآمـــــــيـــــــن"وهوى الإمام لافظاً أنفاسه..خارجةً روحه..إلى السماء..

          *****.

لا حول ولا قوة إلا بالله..

هرج..مرج..حب..تعاون..هلعة...هلعة المحبة..دفء..دموع..زهول عامٌّ..

"..ما..ماذا..؟"

"الإمام وقع يا ناس..!!"

"وحّدوه.."

"لا إله إلا الله" خرجت في بكاء وأنين زاهل غير متوقع،خرجت و"آمين"

لا تزال سائلة من النفوس،واراحة تعانق القسمات والصدور والقلوب،واعتلى أحد الحاضرين المنبر في سرعة بديهة وموقف،وقد كان يطلع ليخطب في جمع سابقة،

وقال ببكاء صادق وقلب خاشع:"عباد الله لقد نال الإمام ما يتمناه العبد الصالح..مات

في يوم صالح..مات بعد كلام صالح ..نرجو الله أن يكون في ميزان حسناته..ارتفع

في سماء المحبة حتى احبه الله واصطفاه إلى رضوانه العظيم،ومن أحب الله واخذه

الله فهو شهيد محبته..نرجو غسل وتكفين المتوفى الكريم،والدعاء لله ودفنه بعد الصلاة عليه..والآن ليخرج بعضنا لغسله وتكفينه..

إن الشهيد شهيد الحب يرتفـعُ                       بحب رب العلا بالخير يندفــعُ

أنت الشهيد شهيد الله ذا كـرمٌ                       وحصةٌ في العلا دامت ومنتفعُ

وانطلقت الجماهير تتسابق في صياح:"لا إله إلا الله.." بقوة ..بتنغيم وآخرون

يصيحون"محمد رسول الله" وآخرون"إنا لله وإنا إليه راجعون"

"رحمك  الله يا طيب القلب والعقل"

"هذا رجل لن يجود الزمان بمثله"

"سامحني أخي عرفة"

"أحبك يا صاحبي في الله"

"قولا أيها المتحابان بعد سماع هذه المقولة:أحبك الله الذي أحببتني فيه.."

وخرج الكل دامع..خاشع..يكاد يخطف أنفاسه بصعوبة..كـأنه يوم الحشر،إمام المحبة

قد مات..لنتحابب..لنغدوا كراماً..ستفنى الدنيا وما لنا غير الحب..الحب حب الإيمان والخير والصلاح هذا هو الصلاح والرشاد..

رحمك الله يا إمام..رحمك الله يا موصينا..وأسكنك في فسيح الجنان.

2

ويرحل الإمام وسط إجماع بالحب والجهاد الأخويّ  العميم ،وتترى الأخبار،وتصبح قصة الشيخ..وعلى الأخص خطبته  وشهادته في المحبة

هى مادة الرواة جميعاً،وكان يشجع الرواة كل الناس المبتسة بالحب،

المعششة في الرضى،المحلقة في سماء الود والوئام،وانتشرت قصة الراوي على ألسن الناس،وأصبح الذين حضروا الخطبة دعاة المحبة

للقرى المجاورة،فكان الصياد المنتقل من ظل القرية إلى قرية أخرى

يصطاد قبالتها يصيد الحب ويبتاعه ويشتريه،وأصبحت القرية تلقّب

بقرية المحبة،فالرجل يقابل الرجل قائلاً:أحبك في الله..يرد الآخر 

بفرح وسعادة:أحبك الله الذي أحببتني فيه..ويسير كلٌّ إلى وجهته بعد

أن تحددت الجهات،وأنبت الحب وأثمر وأينع وأظل،لًُقّن الطفل في المهد بهذا الحب،وبسيرة الأنبياء والصالحين،وسيرة الإمام؛فهو الذي نقل سيرة العظام

بأسلوب محبّويٍّ عظيم..الجدات والأمهات تسامر أبنائهن وأحفادهن بحكاوٍ

شائقةٍ،قد جعلن الإمام فوق مستوى البشر،قد باركن الخير الذي أتى لشهادته

من أجل المحبة،لقد كان موته رسالة يا صغار من الله لنعلم كيف يكون الحب

هو السبيل إلى الوحدة،وقال أرى جيلا سيأتي سيكون فيكم العجب العجاب..

وستعمرون الأرض..وقال..وقال..حكاوٍ لا يدريها إلا من يحب لأخيه ما يحب

لنفسه..حب صديقك يا محمد..أحبب جارك الرجل الضعيف فلان..لا تشاغب

أقاربك وأصحابك..بالحب يا جدتي سأكون كالإمام،سألعب لن أضر أحداً

بلعبي،سأحب أصدقائي..ولكن لن أنسى لجلال إهانته لي..حذار يا محمد ستُسقط الكواكب،وهو المطلوب يا جدتي..ها..ها..

**

تمر الأعوام..الخير يقل..ٌإيقاع غريب يدب بين أهل القرية الوادعة،يقولون البحر سيجرف القرية..منذ أيام مات أحد الأجداد المخرفين يا عماد..أولئك الذين

يشيعون ويذيعون عصر الخير والوئام والسلام وكأنهم من عالم الخيال،ياعم

أهوكلام لم نرَ شيئاً وهم لا يحسون بنا،أأحب مَن..مَن لا يحب لي الخير،مَن يودُّ

قتلي،مَن يتعالى عليَّ في الروحة والغدوة،إني لأريد احداً يأتيني بنعلٍ كبير ٍ

أدوس عليهم أجمعين،لا خير بين هؤلاء،تلك القرية القحطاء أريد السفر منها..

أف لذلك الراوي المخبول،كل يوم الإمام..الإمام..شهيد..شهيد..رحمه الله يا

أخانا..لو كان بيننا اليوم ما قال ذلك،بل إنه قال ما قال ومات قبل أن يرانا..

ولو يموت هذا الراوي وعم صبحي الرجل العجوز المخرف إذن لعشنا بلا تنغيص..

**

وفعلا فالقرية تنبض بقلب صناعيٍّ لا أثر فيه للعفة القروية البيضاء،أدوات

تمحق البركة،تخبّل النشأ الذي خرج عن جذره..ما يكاد يرى صحن الجامع..

ما يكاد يسمع لأيِّ إمام..

"اقترب للناس حسابهم وهم في غفلة.."

أف..أف..أسمعت النغمة الجديدة يا هادي..أتقصد"اقترب"..ها..ها..يا رجل

إنهم لو كانوا شباباً لما قالوا ذلك إنما يحاربون فينا الشباب والمتعة..احصل على النغمات لهاتفك المحمول..هيا..الحاسوب هو الممتع حقاً،وياللمواقع..أتعرف منه أخبار الحروب في الشرق الأوسط..يا أخي حروب ماذا؟..وماذا سـنـفــــعـــــل

للحروب..وما لنا وهذا..حق ما تقول..ها..ها..

عم صبحي يقول أنه رأى الإمام وهو بين السحاب الأبيض يبكي مطراً..ها

ها..يصيح رعداً..هاي..ويقول"اقترب للناس حسابهم وهم في غفلةٍ معرضون"

أرأيت يا عم (أحلام عمك صبحي)..يا عم دعك منه..نشّأونا على كلام المحبة..

والعصر عصر تكنولوجيا وفضائيات وسباق،ياه لو كنت أمريكياً..لكنت –سافلا-

ما..ماذا؟اأنت يا شيخ كمون؟،صديقنا كمون المتدين يا نادر أسمعه آخر رنات

(الموبايل)..أريه آخر صور الفنانة كذا..ها..ها..يهرب كالخروف..لقد كان منا

وعلينا..فجأة أحب السماء وكره الأرض،أتُرى مجانين ،آت السيجار يا هذا..ويقول

عمك صبحي أنهم كانوا ينامون في الغصر الذهبيّ على(الكيمان) ويفتحون الدور

بالليل،ولا يخشى أحدٌ من أحدٍ..تخريف..نحن اليوم لو صنعنا بوابة من رصاص

لاقتحموها ونهبونا وانتهكوا أعراضنا،لولا ان منهم أصحاباً لي لكنا مشردين،

أمان..حب..سلام..أفلام..في أفلام..

 "يا نادر أصبحتَ رجلاً، اشعرْ بما لأسلافك من خيرٍ ومحبة..ليرزقك الله..

ويضع لك القبول في الأرض.."

"يا أبتِ الخير هو المال.. الفلوس..الغنى..حينها يحترمني الكبير والصغير،

كيف ارفع رأسي وسط الشمات والحساد والمعتدين والساخرين؟!"

"ولكن.."

"يا أبتِ هذه أوهام والعالم يتقدم..القويّ يلتهم الضعيف،الضعيف المسكين يباع

ويُشترى،أنا بنفسي أكون..هذا هو قانون العالم.."

"عالم أسود"

"هذا هو العالم..وهذا هو القانون..إذا أردت العيش في هذه الحياة فعليك يا والدي العيش طبقاً للقانون.."

"أيّ قانون؟!"

"قانون الغاب..ها..ها.."

 

                                        3

وتبتعد القرية اشواطاً في الضباب،يُلتهم الأخضر والأزهر،تصبح الرؤية غامقة،

البحر على حدود القرية من الشمال يأكل الجبال الشاهقة الممتدة..سيزحف على

القرية،الكل في هلع ٍ..ناع ٍ يصرخ في عربة من مكبر صوت يرج القرية مع رج موج البحر بعنفٍ"البقاء والدوام لله..انتقل إلى رحمة الله تعالى الحاج صبحي

حب الله..والد كلٍّ من......" وضاعت بعده جهوده في توصيل مَن هم أولاده..

وأصبح البحر يهدر ويصول ويجول على أطراف القرية..يمتد ويفلت من عقال

جغرافيته،بات الراوي يتقلَّب على فراشه من الحزن والألم:"ذهبتَ إلى رحمة

الله.." حقاً هى رحمة واسعة يا أخانا صبحي..عليك رحمة الله..رحمة من هذا الجحيم والفسادوالبلطجة والظلام..ما عادت القرية بين ثناياها عبير له قدمان 

ورديتان، فيض ذكرى يضيع على شاطئيها الألم،شاطئ الظل والنجاة والنبوغ..

التقدم ما أخذنا منه إلا ضياع نفوسنا،أمَا من حلٍّ ليلغي هذا التقدّم البشع،السرعة

الجنونبة في الأوطان،حروب مدمرة،إخلالٌ بالمباديء،أكلٌ للحم البشر،نوازع

الشر،إسكات لصوت الحق..إلى رحمة الله يا أخانا صبحي،نادِ عليَّ يا أخي،

ربِّ الموت أحب إليّ..ربِّ الموت أحب إليّ..رحمتك يا إلهي..

***

وتبتعد القرية في الظلام،تشير الأنباء المحلية والعالمية إلى أنه من المتوقع أن

تحل كارثة بقرية كذا على الساحل المصري،"بالحب يا إخوان يرجع الشر..

أقصروا"..رجعنا للتخريف في كل يوم جمعة..يا عم يا جاهل هذه أنباء تصدق

وتكذب،آلاف القرى على الشواطيء لماذا نحن بالذات؟..أوهام أن يرجع عصر

الحب والوحدة..انتصرتم وانكسرتم،القوة لا تحتاج إلى الحب بل البطش

والسيطرة،إلى الموج..تحتاج إلىالبحر..اليوم هو ما تكونه محارباً الدنيا،

والمحبة في الزواج للإنجاب..لا عرب متعاونة..بل المصالح..كيف يكون

إقبال على أحد دون المصالح..هذا تخريف..الله يرحمك يا عم صبحي..يقول:

أحببْ دون المصالح،بل في الله..كيف ذلك..؟ البيع والشراء كيف؟

القتل والصراع كيف؟

"{وخلف من بعدهم خلف أضاعوا الصلاة واتبعوا الشهوات فسوف يلقون غيّاً}

فالويل قادم إلا أن نكف عن الشهوات وإضاعة الدين،اذكروا قوم نوح وهود

وصالح وأصحاب الأيكة وقوم تُبع..."

اذكر يا ولد يا بحطيطي قوم تبع وكأننا من أهل قريش..نعيش مع أبي لهب..

"كبّر يا عم"..بنفسين من لفيفة (بانجو) تنسى وتستمع..وكيف يا فالح؟..

سنقفز اليوم على دار بركات بالغانمية..حسناً اصمت حتى ينتهي هذا من

تبكيته وتنكيته ياه ياما أحلى نفسين من(بانجو)الآن..لا..أستغفر الله..أستغفر

الله..بعد الجمعة..الليلة..الليلة  "في جهنم" وصحا..وصفرت أذناه في زهول،

وارتعشت شفتاه..وحملقت عيناه فجأة..ماذا يقول الإمام..؟"موعدكم جهنم وبئس

المصير""إن الله لا يحب المفسدين""إن الله لا يحب الفساد""واويل آت إلا من

آمن وعمل صالحاً،القرآن دستور الهداية،ينبوع النور،بساط النجاة،الموت يحصد الرواح إما إلى جنة وإما إلى نار والعياذ بالله""قل إن الموت الذي تفرون منه فإنه ملاقيكم.."
"وقالوا يا مالك ليقض ِ علينا ربك،قال إنكم ماكثون""وما الحياة الدنيا إلا متاع

الغرور""قل يا عبادي الذين أسرفوا على أنفسهم لا تقنطوا من رحمة الله"

"يا عباد الله  قووا أنفسكم وأهليكم ناراً وقودها الناس والحجارة أعدت للكافرين"

يقول:لا أقنط من رحمة مَن..؟الله..؟إذن فأنا على شفة الجحيم..اعطني حبلاً

يا إمام..وعيناه تثبتان"حبل التوبة..الرجوع عن الكبائر..الندم على ما مضى..

والاقتناع بعدم الرجوع إليه،كالفرار من النار فإنه نار..والعمل في الدنيا هو

الذي تُآخذ عليه،الدنيا حصاد الآخرة،ازرع زهراً واحصد حدائق غنّاء عرضها

السموات والأرض أُعدت للمتقين..من هم المتقين يا إمام؟.."الذين إذا ذُكر الله

الله وجلت قلوبهم..فلقوة والنبوغ جائا بنور الله..في عصر الجاهلية لمّا أشرق

الضوء الإلهيّ على أفرادها الذين فرّوا إلى نور الله..فمسكوا الدنيا لأنّ الباطل

مهما علا فهو سافل ضعيف مظلم،يُقوّض بنور من الله..فالحضارة العظيمة

فضل اللهِ،والعلم دعا إليه الله،لا العلم الفاسد..الفاجر الذي يحارب الله والمؤمنين..

فدعاة العلم دعاة فساد،لأنهم لو كانوا دعاة صلاح؛إذن لجائت مبتكراتهم تبعاً لأهدافهم..ولكن ضلّوا وأضلوا،وغرقوا جميعاً فبما اقترفت أيديهم..

"يا ناس..القرية تغرق يا ناس.."

"لا سأنقذ نفسي"ويقعد يتابع الإمام مستغفراً دامعاً خاشعاً،والغالب الحاضر في هرجٍ ومرجٍ يسارع للخارج هرباً من النجاة،"المحبة هى المنقذة"..يا عم..

الآن هذا الكلام..."انقذوا أنفسكم بالصلاح والمحبة.."..نفسي..نفسي..بل نفسي وأولادي..بل نفسي وأمي..يا عم أم مًن..نفسك يا عادل..!..كلٌّ سينقذ نفسه..

محبة مَن..؟..جمعةٌ شؤم..كل أهل القرية شؤم..سأخطف"فلوكة"وأنجو بنفسي..

وحدك يا كلب..أنت الكلب وأبوك وأمك..حاول إن استطعت يا مجرم..أتدع أباك

وأمك يا مجرم..يا أبي الكل ينظر للإمام لا للخلف..حتى في الهرب..نعم لا

تآخذني يا ابي.."يا ناس إلى المسجد فإنه أمان وذلك غضبٌ من الله ليبتليك

بما كنتم تعملون..عودوا إلى الله"..

نفسي..نفسي..حل القلع يا ابن المجنونة..أمك أنت المجنونة..أتسبني في هذا الوقت يا كلب..أنت الكلب الفاسد..ها..ها..حسناً اقفز في الماء لن تأتي معي..

وشهر كلاهما سلاحه..يقتتلان فيموتا معاً في قعر البحيرة الطافية،لا يريد أحدهما ترك صاحبه وهما في صراعهما بالماء..

مكبر الصوت يدوّي إلى ما بعد العصر..فالصلاة ما زالت قائمة.."يا أهل البلدة

بالمحبة ننقذ أنفسنا..تحابُّوا يحبّكم الله ويصلح أمركم وينقذكم ونمضي إلى بركة

الدنيا والآخرة..

إلى المسجد لنشهر المصالحة والمحبة.."

"صه يا مجنون انت ما زلت تتكلم..يا أخي اهرب بنفسك سيبتلعك البحر بمسجدك هذا..يا فاروق يا عماد يا خيري لنركب هذا المركب.."

"صاحبه مقبل يا ناجي.."

"نحن لا هو..فليتقدم"

"ورائه أبناؤه مثل الكلاب المسعورة"

"نحن لا هو..فليتقدم..فكله موت والسلام..إما المركب وإمانموت يا غبي.."

"يا شلبي انقذني يا بنيّ"

"أنتِ ثقيلة يا أمي..سأحمل ولدي أولاً.."

"يا ولدي.."

"اللعنة أنتِ أمُّ سوء.."

"قرِّب (الفلوكة) لأطلع معكَ.."

"أنا..! أما تذكر أيامك الغبراء سأقف إلى أن يهلكك الله..أزالك الله من الوجود"

كلٌّ يجري في شتى الجهات،كلٌّ يقف على قمم الجبال وعلى أسطح البيوت يرى التماع الموج من بعيد ويسمع زئيره ويسمع دقات قلبه كالطبل..كلٌّ يهرب بنفسه..أبٌ يهرب بغير أولاده،إخوة يتفرقون..والعجائز والمقعدين العجزة والمرضى يرقدون في استسلام عجيب،إنها فُرقة عامّة تامّة،لا أحد يفكر في الآخر،حتى الهمّ لا يجمّع كلمتهم..والبحر يتقدّم بثقةٍ ووحشيةٍ،يقفز فيلقم من على القمم والأسطح،يقلِّب المراكب العظيمة يبتلعها،يطوي القلوع المرفرفة في ألمٍ وتصميم وإشراع،كلمة"يا رب" لم يقلها أحد؛لأن الكل ساهي،الكل في غمرة..جَمَعَ الموج الكلَّ المتفرق وهم ما زالوا يتلاعنون إلى الغروب فالليل الداخل..صرخات أرواحٍ زاهقةٍ من هنا وهناك..البحر يروي غُلّته من فسادٍ متراكمِ وغبارٍ منعقدٍ،تغرق أشياء البثِّ المسموع والمرئيّ ولا ترى ولا تسمع..البحر يغرقهم وهم..هم..يتلاعنون حتى وقت الموت!!..وهمهمة الموج تسكت أصوات اللعائن..وكأنه يدُ أبٍ تُسكت أطفاله المشاغبة..المتلاعنة..

***

ما نجا إلا افرادٌ تماسكوا حتى النهاية في ساحة المسجد، والإمام الذي تصبب عرقاً ونوراً وهو مازال نابضاً وقائلاً وداعياً،ومن ضمنهم شابٌّ كان موافقاً على سرقة دار بركات في الغانمية في الليل..في كلّ صفٍّ أناسٌ يمسك بعضهم بعضاً،تعانقت أوردة قلوبهم فهم جسدٌ واحدٌ،عين واحدة،قلب نابضٌ واحد،وصاح الراوي:"انظروا: موجٌ من فوقه موج..في ظلام الليل،وعلى حوافه المسجد أو قل شطآنه لا أثر للقرية..بل الموج من جميع الجهات،وأعجب والله يا أحبتي في الله كيف لم يغرق المسجد وهو جزء لا يتجزّأ من القرية..اللهم ارحم إخواننا المغرقين الذين لم يسمعوا لقول الحق..اللهم ارحمهم فقد عموا فساداً وشقاقاً ولعائن..وداهيات..رَحِمَ الله الجميع"..وبكى الكل محبةً من أجل الهلكى..بكوا في نفسٍ واحد..وشهق الراوي ومات..

فعلا صوت الإمام بالإبتهال إلى الله،وعلا الجميع بالتوبة،وعانق الجميع الجميع في حبٍّ ومودةٍ..وغسّلوا جثة الراوي،وصلوا عليه والتمعت نجوم فوق صفحة البحر الذي يترقرق رحمةً..وقد سكن وانسحب شيئاً فشيئاً بعد أن وأد الفتنة والظلام والقسوة والفرقة،وزغرد الموج وهو يُسمع من بعيدٍ..من بعيدٍ..

والمسجد لألاءٌ كاللؤلؤ الدرّيّ في ظلمة الهلاك..وأصوات ترتيلٍ عميقٍ حانٍ..يؤكد أنّ الأرض يرثها عباد الله لمتّقين..وترتيل بعده{وقيل يا أرض ابلعي ماءك..ويا سماء أقلعي وغيض الماء واستوت على الجودي..وقيل بُعداً للقوم الظالمين} وكرر{وقيل بُعداً للقوم الظالمين..}..وهدر ماء البحر حقاً وعدلاً..ومصفقاً لمن نجا حقاً وعدلاً.

****

المحبة نورٌ يا إخواني..وأنا أخوكم مُحبكم في الله أرويكم كيف هلكت القرية في غمضة عين..

وتابعته أوجهٌ بيضاء صافية..تشرق بالأمان وتنظر إلى زرقة السماء..ورفرفة الطير..وسعف النخيل الأخضر الملوّح في بسطةٍ راقيةٍ...

 تمّت

              

الراوي/وليد صابر شرشير

مصر- كفر الشيخ- برج البرلس- شوري

مواليد:9/9/1984

ليسانس دار العلوم عام ألفين وستة للميلاد

شهادة تقدير من رئيس قسم النقد بكلية دار العلوم

مُنح منحة تشجيعية من عميد كلية دار العلوم

الداعي والمنفذ لمجمَع الأصالة في المجالات العامة والأدب بوجهٍ خاصٍّ

صدر له:

1-"ديوان المجد القادم"..فصحى

2-"مقدمة ملحمة شروق دراكيولا"..شعر فصحى

تحت الطبع:

1-رواية الحيزبون

2-ديوان قوة الأئمة

  (انتهت صباح الإثنين:الثاني من جمادى الآخرة لعام ألفٍ وأربعمائة وتسع وعشرين للهجرة-التاسع من يونية لعام ألفين وثمانية للميلاد- البرلس- الساعة التاسعة).