على هامش تحكيم مسابقة تحدي القراءة

فراس حج محمد

تنطلق مسابقة تحدي القراءة من فكرة أن القراءة فعل حضاري متقدم، يساهم في خلق جيل واعٍ، وله أثر ليس في النواحي المعرفية الشخصية وحسب، وإنما تأثير في النواحي الاجتماعية والاقتصادية للمجتمع بشكل عام. فـ "المجتمع القارئ هو مجتمع متحضر... ومن يدعم القراءة يدعم صناعة حضارة... ويدعم اقتصاد معرفة... ويدعم بناء أجيال تبني مستقبل الوطن العربي". تصدر هذا المقتبس دليل المشاركين للمسابقة- متاح على الموقع الإلكتروني- مع أنه يعطي القراءة حجما أكبر مما هي عليه في الحقيقة، إلا أنه لا خلاف على أن القراءة الواعية، بمفهومها الشامل، أداة من أدوات فهم الذات؛ الذات الفردية والذات الجماعية، وفهم الآخر، ذاتا أو جماعة أيضاً.

كما أن القراءة، على مستوى القارئ الفرد، هي مؤشر فعال على بناء عقلية ناقدة مفكرة وحيوية، تعيد تنظيم أدوات التفكير وضبطها، وتوجيهها نحو أغراض محددة، وتؤسس في العقل بناء مرايا من الأفكار متعاكسة ومتضاربة، تشعل التفكير وتدفعه إلى بناء منظومة جديدة من الوعي المؤسس على الفكر "المغربل" الصالح للعيش في البيئة التي ولد فيها. فالقارئ المرجو هو قارئ باحث، وليس قارئا نهما يغوص في الكتب من أجل المتعة المحضة.

في هذه الوقفة لا أريد أن أحول الكتابة إلى "مدحة" ممجوجة للقراءة، وإنما فقط أردت أن أؤسس لما أريد قوله في أهمية فعل القراءة على المستوى الفردي، للقارئ نفسه وللكاتب أيضاً.

أعتقد أنه لا كتابة جيدة دون قارئ جيد، ولا يوجد القارئ الجيد دون وجود كتاب جيد، والتأثر والتأثير جدلي، متشابك، يعمل في الاتجاهين، فالقارئ الجيد يدفع الكاتب لينتج كتابا جيدا صالحا للقراءة، والكاتب الجيد يدفع القارئ لقراءته، فيغريه بالفعل ليجره نحو كتابه. وأي كتاب يصدر لا يقرأ، فإنه لم يحقق هدفه، فالكاتب لا يكتب لمجرد أن يكتب، ويمارس هواياته، فالكتابة ليست لعبة للتسلية، كما أن القراءة ليست لعبة. القراءة لا تقل خطرا عن الكتابة، القراءة فعل وجودي ضروري لوجود الكتابة، إذا غاب أحدهما غاب الآخر.

هذه الحقيقة ألتفت إليها خلال الاستماع إلى الطالبات والطلاب المشاركين في تحدي القراءة، وأغلب هؤلاء الطلاب "حافظ" من أجل المسابقة وليس "فاهماً" ما تعنيه المسابقة، وكأن ما هو مسطور في التنظير للمسابقة مثالي جدا، مُسخ عند التطبيق، وبدا هذا المسخ في عدة جوانب:

وبهذه المناسبة أودّ أن ألفت النظر إلى هذه المسألة؛ حضور الكاتب المحلي، والعمل ضمن خطوات واضحة لزيادة نسبة حضوره في المسابقة، إذ يمكن أن تتعاون وزارات التربية والتعليم مع اتحادات الكتاب ووزارات الثقافة ودور النشر والكتّاب أنفسهم في كل بلد على تعميم الكتاب الوطني على المدارس؛ إما بتبرعات، أو بأسعار مناسبة، ورفد المكتبات المدرسية بكل جديد كل عام، ليكون الطلاب على دراية بما ينشر في بلدهم من كتب، وأن يتعرفوا على كتّابهم أيضاً. مع وجود برنامج مدرسي موازٍ يعمل على تعميم الفكرة في الإذاعة المدرسية يومياً، وعمل الندوات الدورية، وما شابه؛ ليظل الفكر لطلابي في تطور، وفي توهج، من أجل المعرفة أولا وأخيراً.

لا شك في أن هذه الملحوظات السلبية لم تفقد البرنامج أهميته، ويعوّض كثيرا عن غياب حصة المكتبة المدرسية، وإن جعلت القراءة قرارا فرديا، مدعوما بأساس التنافس على الجائزة، وكأن الطلاب لن يقرؤوا إذا لم يكن هناك جوائز، ونسوا- كما نسي معلموهم- أن أهم جائزة يحصل عليها القارئ هي المعرفة المتحصّلة من القراءة، وبناء فكر منتظم قادر على الحوار والمناقشة وسعة الأفق. فكل الكتّاب الكبار كانوا قراء نهمين، بل المفكرون والسياسيون هم كذلك أيضا، فالقراءة أداة مهمة من أدوات الحوار بين البشر، لأن القراءة بمقدورها التأسيس لفكرة تقبل الأفكار المتضاربة والمتصارعة، وإمكانية محاورتها، وفهمها على وجهها، وإن لم نتفق مع تلك الأفكار ونتبناها، إلا أنه يجب علينا- نحن القراء- أن نحترم تلك الأفكار، ونعطيها شرعية الحياة، ففكرة "المكارثية" الفكرية والثقافية يجب أن تحارب من هذا المدخل، فشرعية الحياة للفكرة مهما كانت هي شرعية الحياة لأصحابها، ولا يعني بالضرورة أنه يشكل خطرا وجوديا على الآخر، فللناس أفكارهم، ولنا أفكارنا، وهذا لا يعني أي فكر تصالحي ألبتة لفكرة التدجين الثقافي والانصياع لأفكار الآخرين، إنما هو إعادة تذكير بطبيعة الحياة في أنها مختلفة، وحيويتها في اختلافها، فكرا وتنظيما وأسلوب حياة، "وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً، وَلا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ"، وبغض النظر عن التفسير العقدي للآية الكريمة إلا أن مبناها يحتمل شرعية الاختلاف البشري في كل شيء، فهذه هي طبيعة الحياة التي لا يشك بهذه الطبيعة أي عاقل.

إن ما أشرت إليه من "سلبيات" ليست خاصة بفلسطين وحدها، بل ربما لاحظها محكمون آخرون في بلدان أخرى، وربما في بلد المنشأ أيضاً، ومع ذلك يمكن تجاوز تلك "السلبيات" بالعمل المدروس، والمتابعة المستمرة، ونقل فكر الطلاب من فكرة التحوصل نحو "ميكافيلية" القراءة إلى فكرة "الفاعلية الحضارية" للقراءة من خلال كادر مؤهل يتابع ذلك في المدارس عن كثب، وأن يكون بموازاة هذا البرنامج برنامج كتابي أو إعلامي على المستوى المدرسي، يجعل المدرسة بنخبها الطلابية وحدة مجتمعية فاعلة ومؤثرة. بهذا- ربما- سنكون عرفنا الفلسفة التي يستند عليها برنامج تحدي القراءة العربي.

وسوم: العدد 1072