خواطر من مؤتمر الإنقاذ

د. صالح محمد المبارك

د. صالح محمد المبارك

كان مؤتمر الإنقاذ الوطني لسورية والذي عُقد في استنبول في السادس عشر من تموز الحالي أول مؤتمر من هذا النوع أحضره وقد رأيت فيه ما أعجبني ومالم يعجبني وقرأت بعده تعليقات المادحين والذامين ولكن هناك قضية أساسية أرانا نحن معشر العرب لا نحسنها وهي بناء التحالفات على أساس الجامع المشترك الأعظم بيننا ، والتعامل الحكيم المناسب مع مجموعات تختلف عرقيا ودينيا ومذهبيا وسياسيا فيما يضمن الحد الأدنى لها من الحفاظ على المبادئ الأساسية . يحضرني مثال ناجح من خصوم لنا : لجنة العلاقات العامة الأميركية الإسرائيلية واختصارا ايباك ( AIPAC ) ولمن لا يعرفها - وأشك بوجود من لا يعرفها - فهي تمثل أكبر مجموعة ضغط في السياسة الأميركية ويحضر مؤتمرها السنوي عادة عدد كبير من صناع السياسة الأميركية بمن فيهم الرئيس وعدد كبير من أعضاء الكونغرس الأميركي ورجال الأعمال والإعلام وغيرهم ويعتبر دعم ايباك ضروريا للفوز بكثير من الكراسي الانتخابية في أميركا خاصة المهمة منها ، ولكن السؤال هنا: كيف وصلت ايباك إلى هذه الدرجة من النجاح والسلطة والقوة وسط التناقضات الهائلة بين أعضائها؟ من المعلوم أن ايباك تضم جمهوريين وديمقراطيين ومستقلين ، تضم يهودا ومسيحيين وملاحدة ومن اليهود تضم الأطياف كلها من أورثوذوكس ومحافظين ومجددين ، تضم ايباك أيضا يساريين ويمينيين ، محافظين وليبيراليين ، رأسماليين واشتراكيين ، شبابا وشيابا ، ذكورا وإناثا وفئات أخرى متنوعة بل متناقضة ومتعارضة ، فكيف تمكنت ايباك من وضع كل تلك المجموعات والأفراد في سلة واحدة متجانسة تكتسب قوة هائلة من اجتماعها وتوثر تأثيرا قويا على سياسة أقوى دولة في العالم ، بل إنها حافظت على ترابطها وزادت في قوتها منذ إنشائها رغم مرورها بعدة هزات وفضائح؟ يبدو لي أن السر في ذلك يكمن في تحديد الهدف (وهدف ايباك ليس سرا وهو دعم إسرائيل) والتركيز عليه وترك كل الأمور الأخرى وعدم الخوض فيها ، ولو خاضت ايباك في السياسة الداخلية الأميركية أو الإسرائيلية أو حقوق الأقليات أو الشاذين جنسيا أو اللحم الكوشر  لدبت الخلافات وتشتتت ايباك وذهب ريحها ونفوذها

التفريق بين المبادئ والمصالح قضية هامة جدا فرسول الله صلى الله عليه وسلم أدركه وعلمه لصحابته ولأتباعه فحين كان الأمر يتعلق بالمبدأ (تعبد إلهنا شهرا ونعبد إلهك شهرا) رفض العرض رغم استعداد الطرف الآخر لتعديله ورغم التفاوت الهائل وقتئذ في القوة المادية الظاهرية بين المسلمين وكفار قريش ، ولكن النبي نفسه يعود في وقت لاحق وقد قويت شوكة المسلمين وصارت لهم دولة في المدينة المنورة ، ويبدي مرونة كبيرة مع مفاوض قريش سهيل بن عمرو في صلح الحديبية عندما طلب الأخير حذف كلمة (بسم الله الرحمن الرحيم) واستبدالها بـ (بسمك اللهم) ثم استبدال (محمد رسول الله) بـ (محمد بن عبد الله) مزيلا عنه صفة الرسالة الإلهية . فهل اختلفت شخصية رسول الله صلى الله عليه وسلم أم اختلفت الظروف؟ لا هذا ولا ذاك بل إن اختلاف الظروف كانت لصالح المسلمين في صلح الحديبية مما يدفعهم - في قانون المفاوضات - لأن يكونوا أكثر تصلبا وأقل مرونة . ولكن الفرق بين الحادثتين هو أن طلب (تعبد إلهنا شهرا ونعبد إلهك شهرا) فيه تنازل عن المبدأ الذي أتى به الإسلام ، أما تعديل لغة وثيقة صلح الحديبية فلا يخل بالمبدأ بل يفتح آفاقا لمستقبل يخدم ذلك المبدأ ، وقد حصل ذلك فعلا وتفرغ المسلمون للدعوة ودخل الناس في دين الله أفواجا ، ولو أن رسول الله صلى الله عليه وسلم رفض طلب سهيل بن عمرو لخسر المسلمون في معركة المصالح وكان الحل العسكري وإراقة الدماء بديلا للدعوة ودخول الناس طوعا وقناعة في دين الله أفواجا.

وقد أدرك المعنى نفسه الصحابي الفذ عبد الله بن حذافة السهمي حين أسره الروم وأراد قيصر تنصيره ولجأ من أجل ذلك إلى إغراء عبد الله بالمال والنساء والسلطة ففشل ثم لجأ إلى الترهيب والتعذيب ففشل ايضا لأن في الأمر تنازلا عن مبدئه الذي هو أهم من كل تلك الإغراءات بل أهم من الحياة ذاتها ، لكن حين عاد هرقل بمطلب أقل لا يمس المبدأ ، لم يمانع عبد الله من المفاوضة والاستجابة واستطاع رغم التفوق المادي الكبير في القوة الظاهرية لهرقل أن يقبض ثمنا كبيرا مقابل تقبيل رأس هرقل وتحقيق رغبته في تحقيق نصر معنوي بعد هزيمته الأولى في تنصير عبد الله. تأمل لو أن عبد الله كان متصلبا في موقف لا يستدعي التصلب أو عنيدا مكابرا : "لن أقبل رأس ذلك العلج ولو على قطع رقبتي" فكيف كانت ستكون النتائج؟ لا شك أن هرقل كان سينهي الأمر نهاية دموية بقتل عبد الله وكل أسرى المسلمين . قد يقول متحذلق إنها الشهادة في سبيل الله ، ولكن الموت لم يكن يوما بغاية من وجود الانسان على الأرض بل إن الغاية هي خلافة الله على هذه الأرض وإعمارها ونشر العدل والأخلاق فيها ، وبهذا المفهوم استطاع عبد الله رضي الله عنه أن يخرج من مفاوضة هرقل منتصرا مرفوع الرأس وبهذا المفهوم أيضا استقبل الفاروق عمر عبد الله ومعه الأسرى المسلمين الذين أفرج عنهم هرقل كثمن لقبلة عبد الله لرأسه ، وقال : حري بكل مسلم أن يقبل رأس عبد الله.

آه لو أن إخواننا في الثورة السورية أدركوا هذا المعنى وطرحوا جانبا الأمور الفرعية الجانبية التي تفرقنا . كم يؤذيني أن أرى الخلاف على شكل الحكومة القادمة بعد إسقاط نظام الأسد. عندما يتجادل الإخوة على شكل الدولة القادمة ومصدر التشريع ومدى علمانيتها أو إسلاميتها ، ألا نتفق على أن تكون الدولة القادمة مدنية تتسع للجميع وتؤمّن الحرية العدالة للمواطنين جميعا بغض النظر عن انتماءاتهم العرقية والدينية والحزبية؟ الا يمكن أن نتفق على أسس شورية ديمقراطية وأن نحتكم إلى صناديق الاقتراع ونرضى بما يختاره الشعب؟ إذن لماذا نتجادل ونتشاجر إن كنتُ أريد القرآن مصدرا أساسيا للتشريع وتريد أنتَ قانونا مدنيا مستمدا من قوانين وضعية؟ ألم نتفق أن يشرح كل منا وجهة نظره للشعب بكل حرية ثم نترك الخيار للشعب أم أننا نريدها ديكتاتورية مرة أخرى لا سمح الله بعد الاكتواء بنار الديكتاتورية والظلم والفساد لما يقرب من نصف قرن؟ لماذا يأتي بعض إخواننا من الأكراد فيطالبون - في هذه المرحلة - بإزالة كلمة "عربية" من اسم الجمهورية العربية السورية وهو الاسم الذي لازمها منذ الاستقلال؟ أليس في هذه المطالبة غمط لحق الأغلبية بل تجاهل لأبسط قواعد الديمقراطية حيث أن حضور المؤتمر لا يملك صلاحية ولا تفويضا بتقرير مسألة وطنية كهذه؟ ألا يدرك الإخوة المطالبين بإسقاط "العربية" من الاسم أنهم بانسحابهم أضروا بثورتنا وبأنفسهم ، وبأننا لو استجبنا لمطلبهم لانسحبت شريحة كبيرة من الحضور احتجاجا على ذلك وبأن كلمة العربية في اسم سورية لا يقتضي أبدا غمط حقوق الأقليات؟

كلما خضنا في تفاصيل عن الوضع المستقبلي - في هذه المرحلة بالذات - كلما ازداد احتمال اختلافنا وتفرقنا ، فلِم لا نحدد هدفا نتفق عليه ونتوحد من أجله ونترك التفاصيل ونتفق ألا نخوض فيها؟ التعددية سمة للمجتمع السوري وهي نعمة لا نقمة ومزيّة ومصدر ثراء فكري واجتماعي ، ولكنها إن لم تقترن بعقلية منفتحة انقلبت نقمة ومصدر اختلاف وتقاتل. حينما أسأل كل أخ أو أخت في المعارضة السورية عن هدفنا يأتي الجواب موحدا : إسقاط النظام الحالي وبناء دولة مدنية حديثة تؤمن الحرية والكرامة والعدالة لكل مواطنيها ولا يحق لأحد فيها أن يقصي آخرين من ممارسة حقوقهم . وهنا اسمحوا لي بتعديل بسيط: إسقاط النظام الحالي ليس هدفا بحد ذاته لكنه وسيلة لتحقيق هدفنا في تأسيس الدولة المدنية الحديثة المنشودة. لن نناقش إلا هذا الهدف ووسائل تحقيقه ، كل الأمور الأخرى متروكة للشعب كي يقررها بعد إسقاط النظام الحالي وفي جو من الحرية والعدالة والانفتاح بإذن الله.