أخطر ما قاله الرئيس
محمد علي – دمشق
استهل الرئيس بشار الأسد خطابه الأخير بـ ( السلام على كل أم فقدت عزيزاً وكل طفل فقد والداً وكل عائلة فقدت فلذة !!. ) ، طبعاً ليس من بين هؤلاء حمزة الخطيب ولا تامر الشرع ولا زينب الطيب رجب أردوغان ولا أكثر من ثمانين طفلاً قضوا نحبهم على أيدي عصاباته !. فهؤلاء الأطفال " مخربين وجراثيم " تعكر أمن النظام ، وتكدر عليه صفو عيشه ، وتضعف جهازه المناعي . والمفاجأة من العيار الثقيل التي فجَّرها الرئيس أن هؤلاء المندسِّين المطلوبين ليسوا " حُثالة " كما زعم شيخه البوطي من قبل ، بل بلغ عددهم " أربعة وستون ألفاً وأربعمئة وكسور " ، بحسب ما جاء على لسان الرئيس الأسد وفي تقارير مخابراته ، وهذا العدد مرشَّح للزيادة لا للنقص !. طبعاً لست أنا الذي أدرجت حمزة الخطيب ورفيقه تامر الشرعي في زمرة المخربين المندسين السلفيين لكن هذا ما ردده أبواق النظام ، فقد اتهمهم كبيرهم " بسام أبو عبد الله " بالحرف بأنهم اقتحموا مساكن بلدة " صيدا " لسبي المحصنات الغافلات من حرائر الضباط والعسكريين العلويين ، ولذلك عوقب حمزة ابن الثلاثة عشر ربيعاً بحسب جرمه ، وصُبَّ على جسده من صنوف العذاب ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ، ومُثِّلَ به ، وكُسِرَت رقبته ، وقطع ذكره ، جزاءً وفاقاً !.
لكن أشد ما لفت نظري من خطاب الرئيس بشار الأسد قوله : " اليوم لدينا جيلٌ من الأطفال تربى بهذه الأحداث أو تعلم الفوضى وعدم احترام المؤسسات.. عدم احترام القانون.. كره الدولة.. هذا الشيء لا نشعر بنتائجه اليوم ، سنشعر بنتائجه لاحقاً وسيكون الثمن غالياً !!. " وهذا الكلام في نظري أخطر ما قاله الرئيس الأسد وأعمقه معنى وأبعده مغزى !. وبصراحة ليس الرئيس وحده الذي دُهِشَ وتحير لهذه المفاجأة ! بل يشاركه الدهشة كل سوري وسورية من الموالاة والمعارضة على حد سواء !. أيعقل أن يتغير هذا الجيل الذي صنعه الرئيس الأسد على عينه وأرضعه الذلة والعبودية مع الحليب ؛ مستلهماً تجربة أبيه ، ومستكملاً النهج نفسه ، أيعقل أن يتغير في ساعة ، وتضيع جهود عقود من الزمن ، سخر فيها النظام الطائفي البغيض كل موارد الدولة ومقدراتها ، في مسخ عقول أطفالنا وغسيل أمخاخهم وطمس قلوبهم ، دون أن نجرؤ نحن الآباء على إبداء أي نقد أو اعتراض أو امتعاض لما يحفظه " أولادنا أكبادنا " ، ويرددونه من أغاني وأهازيج وشعارات ثورية ، تمجد بالقائد الملهم وتسبح بحمده !؟ وما زلت أذكر مهندساً زميلاً لي زارني ذات مرة ، فجاءه أبي وكان شيخاً كبيراً بحفيدته الصغيرة ، مفتخراً أو متهكماً ! ( الله أعلم ) ، لتغني للضيف أغنية حفظتها في " طلائع البعث " ، في مدح الأب القائد ، وكان المهندس يغشى عليه إذا سمع اسم السيد الرئيس ، لكنه أصغى إليها بسمعه وقلبه ( مكرهاً أخاك لا بطل ) ، وما زلت أذكر كلمات الأغنية التي تقول :
شتي شتي يا دنيا
على سطوح سوريا
سوريا جابت ولد
سمته حافظ أسد
حافظ أسد يعيوني
لابس طقم الزيتوني
لما بيطلع عالجبهة
بيقتل ألف صهيوني !!!.
فلما فرغت الطليعية الصغيرة من أغنيتها ، صفقنا لها تصفيقاً حاراً ، وراح الباش مهندس يفتش في جيوبه حتى عثر على خمس ليرات سورية ، ربما كان قد ادخرها أجرة مواصلات إلى دمشق الشام ، وقدَّمها جائزة لها !.
كانت الدولة تُخْضِع الأطفال منذ نعومة أظفارهم ، لعمليات تغيير الفطرة التي فُطِرَ الناس عليها ، وينتقل شبيحة التربية بهم من طور إلى طور ، من طلائع البعث إلى شبيبة الثورة إلى نظام الفتوة إلى معسكرات التدريب الجامعي ، لكن المفاجأة التي روعت بشار الأسد أن تضيع تلك الجهود الضخمة هباءً منثوراً ، وينقلب السحر على الساحر ، كما انقلب موسى على فرعون الذي رباه في حجره ، وإذا بالأطفال والشبيبة ينخرطون في سلك الثورة بل يقدحون شرارتها ، ويقودون المظاهرات ، ويسيِّرون الاحتجاجات ، ويواجهون الرصاص الحي المتفجر بصدور عارية ، ويهتفون للحرية والعدالة والكرامة ، ويرددون : الشعب يريد إسقاط النظام !. دُهشت - ودُهِش الرئيس وحُقَّ له - للمشهد المهيب لتلك المظاهرات الضخمة التي ضاقت بها الطرق والساحات ، وللجموع الهادرة كالسيل المتدفق التي رفعت السبابة تشهد لله بالوحدانية ، وتكفر بالطاغوت !. إنهم معجزة حقاً وآية من آيات الله الكبرى ، لا يدرك جلالتها إلا من عاش في سوريا الأسد!. أطفال كالأزهار وفتية آمنوا بربهم ، كانت من قريب تخبط في تيه وعماء ، أُرْضِعت عبادة الرئيس دهراً ، يتحولون بين عشية وضحاها إلى ثوار وشهداء ، قد أصلحهم الله في ليلة . الله أكبر !. وبالمناسبة فإن ابن أخٍ لي واسمه " علي " ، كان – وأستميحه عذراً - " أزعر وصايع " ومهندس شوارع ( أي عطَّال بطَّال بلهجة السوريين) ، ولما شبَّت حرب تموز ، فُتِن الصبي بنصر الله ، ورفع علم حزبه على أعلى شاهق في دارنا ، فكنت أتجشم مشاق التسلق لأنزع العلم ثم يعيده مراراً حتى سئمت ولم يسأم ، ودارت الأيام دورتها ، وشبت نار الثورة السورية الشعبية الكبرى ، وإذا بالفتى " علي " أحد فرسانها المعدوين ، يلبس كفنه ، ويخرج للتظاهر ، فسبحان مقلب القلوب !.
وبمناسبة الخطاب أريد فقط أن أذكِّر السيد الرئيس أن كره الدولة والنظام من قبل الجيل الجديد ليس جديداً ، ولم يولد وينشأ في خضم الأحداث الأخيرة ، فهو متجذر في النفوس منذ أمدٍ بعيدٍ وهو وليد الضيم والظلم والهضم والتهميش والتحقير والتمييز الطائفي الذي يعيشه السوري في يومياته لكنه لا يجرؤ على الظهور إلى السطح بسبب الكبت الأمني ثم فجرته الثورة التي كسرت حاجز الرعب وذهبت بهيبة الدولة على الصورة التي قذفت في قلب السيد الرئيس الخوف ، وأقضَّت مضجعه !.
وأذكِّره أيضاً بأن شريحة عريضة من هؤلاء الأطفال الذين كتبوا على صدورهم العارية : ( ارحل عنا ما منحبك !! ارحل عنا أنت وحزبك !! ) ، وما أخال السيد الرئيس إلا رآهم محمولين على أعناق الرجال ، يهتفون ملء حناجرهم : ( الله سوريا حرية وبس ) ( اللي بيقتل شعبه خاين ) ، ويردد الجمهور من حولهم – وفيهم الجامعي والمثقف والأستاذ والمهندس والطبيب والفلاح والتاجر – يرددون الهتافات والشعارات والأغاني الثورية التي ينادي بها هؤلاء الفتيان الذين يكرههم الرئيس ويكرهونه ويلعنهم ويلعنونه !. أذكِّر سيادته بأنَّ جزءاً كبيراً من أطفال الثورة هؤلاء ، كانوا يعيشون في ظروف معيشية قاسية وغير إنسانية ، حُرموا من حقهم في التعليم ، واللعب ، والعيش بسلامة نفسية وجسدية ، افتقدوها في أعمال مهينة اضطرتهم الظروف القاسية إليها !. وكثيرٌ منهم كان يعمل بجمع الخردة من حاويات القمامة ثم يبيعونها ، وأطفال يجمعون الخبز اليابس ويبيعونه ، وآخرون يعملون في تقشير الثوم ثم يقومون ببيعه للمطاعم وعلى أرصفة الطرقات تحت الحر والقر ، ومسح السيارات والبويجية والشحاذة والعتالة ، ومهن وحرف أخرى للأطفال لا تخطر على بال ، يحتاج سردها إلى تقرير مطوَّل ، وهناك أسر تعمل بكاملها بالخردة ، درجت تسميتها في المجتمع : بيت أبو خردة ، و بيت أبو الخبز ، وبيت أبو الثوم ، وبيت أبو شحَّاطة ( نسبة إلى جمع البلاستيك والأحذية !. ) .... إلخ . ومن الصور واللوحات التي تقع عينك عليها حيثما سرت وأينما حللت مجموعات من الأطفال الذين حمل كل منهم شوالاً ( كيس خيش كبير ) مليئاً بالخردة بدل حقيبة المدرسة ؛ الأيام كلها بالنسبة لهم متشابهة وبطعم واحد ، ورحلتهم المضنية اليومية تبدأ من طلوع الشمس إلى مغيبها ، سيراً على الأقدام بين حاويات المدينة وشوراعها ، وتفريغها مما تحتويه من البلاستيك بأنواعه ، إلى المعادن وحتى الخبز ، والأمر لا يتوقف على هذه المواد ، فالعمل يقتضي البحث في قمامة المشافي من سيرومات وحقن مستخدمة ومواد خطرة ومجرثمة وجمعها بأيديهم التي كانت غضة طرية !. إنهم ( أطفال الخردة ) ، هل يعرفهم سيادة الرئيس !. وهل زارتهم السيدة الأولى أسماء الأخرس كما زارت المسنين ، والتقطت معهم صوراً دعائية ، لتنشر في وسائل الإعلام الغربية والمحلية !؟.
صورة الأسد يلعب مع أطفاله الحلوين بالدمى ، وتظهر بشار كأب محبوب يذوب رقة وشفقة وعاطفة ، تبدو في نظرةٍ إلى صور ماسحي السيارات والنعال من الأطفال السوريين أو صور أطفال جسر الشغور على الحدود التركية ، تبدو كنكتة سمجة ( بايخة باللهجة السورية ) وتثير الاشمئزاز ، هذه الصور هي التي قدمته للعالم على حقيقته كذئب بشري ومجرم فاتك !.
هذه حال أطفالنا في ظل حكم مافيا " العائلة الأسدية " التي تنهب البلاد غير عابئة بالمواطنين ، لتملأ بها جيوب آل الأسد ومخلوف وشاليش وأذناب تلك العصابة وسدنتها من بقية السوريين .
طبعاً السيد الرئيس ونظامه لن يترك هذا الجيل من الأطفال الذين أُشربت قلوبهم كره الدولة دون علاج ، والعلاج في عيادة الدكتور بشار ليس علاجاً نفسياً وطبياً واجتماعياً لكنه علاج أمني ، طبعاً ليس بعيداً عما فعله " عاطف نجيب " مع أطفال درعا يوم كتبوا على الحيطان : ( الشعب يريد إسقاط النظام ) !. غير أنه – لسوء حظه – لن يتمكن من ذلك ، وهذا الجيل من الأطفال والشبيبة لن يتركوا له فرصة ليلتقط أنفاسه مرة أخرى ، وسيكون الثمن غالياً حقاً كما قال السيد الرئيس !!.