هل نعزي أهلنا في تونس، أم نفرح
أم نعزي أنفسنا، وبعدها نفرح ؟
د.عبد الغني حمدو /باحث وأكاديمي سوري
في تعاليمنا الإسلامية , وثقافتنا الإسلامية , عندما يموت شخص , بعد التعزية يقولون كيف مات وما كان ماضيه , وهل مات وهو قريب من الله , أو مات وهو زميل الشيطان وخليله لم يفارقا بعضهما
فإن كان ماضيه خيراً قالوا الحمد لله , لقد مات.. موت كريم , مصيره الجنة إن شاء الله
وإن مات وماضيه والشيطان في كفة واحدة , قد يرتجف اللسان عند تعزية ذويه , وإن دع له بالرحمة , لن تكون أعمق من طرف لسانه
في تونس وما كان يجري فيها ويجري الآن
نعزي أنفسنا أولا بدماء أخوة وأخوات لنا , سال دمهم الطاهر على الأرض , في سبيل الحق وإحقاقه , والتخلص من الفساد والإفساد والظلم والاستبداد , نحزن على دمائهم وحياتهم التي أزهقت ظلما وعدوانا . ليضافوا إلى الآلاف والذين قضوا في السجون والزنازين وفي المحيطات والبحار هرباً من الطاغية المسمي ابن علي , وفي المقابل فرحنا المغطى بمسحة حزن عميقة , على أن هذه الدماء الطاهرة , كانت هي : الحربة القاتلة والتي وجهت لهذا النظام الأرعن , والذي لم يترك وسيلة من وسائل القهر , والسرقة والاغتصاب , وتجويع الناس , ونهب خير البلد من أقصاه إلى أدناه إلا وفعلها.
نعم نعزي أنفسنا , ونعزي ذوي الشهداء الذين سقطوا في تونس , ونقول رحمهم الله تعالى وعوضهم بنعيم الجنة , وأن يلهم ذويهم الصبر , وأن يعوضهم الله بخير الدنيا والآخرة , ونردف القول :
الحمد لله أنهم ماتوا في سبيل نصرة الحق , وضد الظلم , وكان موتهم النور الرباني الذي أُوقد في نفوس التونسيين الأحرار
تعم الآن الفرحة معظم الشعوب العربية , وتصل نسبة ال99% حتما , في أن الشعب العربي استطاع أن يسقط أحد الطغاة , فلم يستعين بإسرائيل ولا أمريكا , ولا أوروبا , بل بالعكس كانت تلك الدول الداعم المطلق للطاغي ابن علي
ولم يستخدم الناس السلاح , ولا التفجيرات ولا الهراوات ولا السكاكين , ففي صدورهم العارية , استقبلوا المدافع والدبابات والطائرات
لقد أوهمونا بالمثل القائل (العين لا تقاوم المخرز) , ولكن هنا قاومت كل أنواع الأسلحة الحديثة , وجعلت الذي اعتبر نفسه إلهاً , والشياطين المحيطة فيه , بمكرهم ودهائهم وخلو قلوبهم من كل ذرة تحتوي على عنصر فيه رحمة , ليتركهم شيطانهم الأكبر , ويهرب وأهله بماله , ويترك شياطينه لنار الشعب الذي انكوا بنارهم , ونار جهنم التي هي مصيرهم في الآخرة
وكم سيجدون الفارق الكبير بينهم وبين ذلك الضابط التونسي , ومعه الأوامر بالتصدي للمتظاهرين , ولكن وقف شامخا رافعا رأسه عاليا معتزا بداخله بشعبه, يقدم التحية العسكرية للشهيد , مودعا إياه بهذه التحية العسكرية الوطنية التونسية الأصيلة , بينما شياطين ابن علي عندما سيموت أحدهم حتى الشياطين لن تودعه . وستعزف عن توديعه فهو أكثر نجاسة منهم
الفرحة تعم أركان المجتمع , في أن ما جرى في تونس , قد تكون برهانا لهذه الشعوب المقهورة والمستعبدة منذ زمن بعيد , على أن الأنظمة الاستبدادية هشة في داخلها , جبانة فارغة , هيكل بشري فارغ من داخله , بلمسة طفل يهوي متحطما على الأرض , يداري جبنه بالظلم والقهر والتسلط , بيد شياطين جهنم , جعلت من نفسها طوعاً بيده , لا خوفاً منه ولكن لمصلحة شخصية فقط
هذه الأنظمة التي حطمت كل المعاني في نفوس شعوبها , ولم يبق عندها إلا معنى واحد فقط :
عليك أن تعيش بكسرة خبز , أو لقيمات , وأن تحصل على هذه اللقمة لكي لا تموت جوعا , في مقابل التنازل عن كل كرامة يمتلكها الإنسان , وكرامتك هي السجود لهذا الحاكم فقط , وحتى لو ذهبت الأرض واغتصب العرض وتشرد الناس وتفتت الوطن , المهم الحاكم والحاكم والنظام .
هل استطاع أحد أن يسأل عبد الناصر لماذا فرطت بالسودان , وحديثا عمر البشير لماذا تخليت عن الجنوب , وحافظ أسد ونظام البعث لماذا بعتما الجولان , وصدام حسين لماذا أثرت العالم ضدك وضد شعبك , ورأيت الدمار الذي سببته لبلدك ومن حولك , فهل عليك أن تبق حتى تكون المشنقة ملاذك الأخير
ومهما عددت وأحصيت وحللت , فلن تجد أمامك إلا نتيجة واحدة هو أن هؤلاء الحكام الغلاة الظالمين , لا يهمهم من الأمر إلا :
رضا الشياطين الكبار في الخارج , والخوف من شعوبهم , ليجعلوهم مداسا لكل التعساء في العالم , التاريخ والحاضر البشري , كله شاخصاً أمامهم , أنه لابد من أن يأتي يوم , تهب هذه الجماهير المسحوقة لتعلن للطاغي , لا لن تستطيع سحقنا ونحن الذين سنسحقك , ولن تعيش بعد اليوم أبدا .
عندما دخلت قوات الغزو الأمريكي بغداد بست دبابات , تخلى الناس عن سلاحهم وركنوا في بيوتهم , بست دبابات استسلم لها الملايين من المقاتلين , هكذا يكون حال شعب الطغاة , طوعهم على الذل والقهر والفقر , وعند الحاجة لهم لن يجد له من ينصره , وأول المتخلين عنه زبانيته من شياطين الإنس والجن .
والطاغي يظل الرعب الذي يسكن قلبه , من ثورة شعبه ضده , فهو العدو الأول والأخير للحاكم العربي , ليس همه في الدنيا إلا كرسيه , ونهب أموال الوطن والعباد , وإفقار الناس , وتسيير شعبه بالقوة للصعود لهاوية التخلف , حتى يطيل حكمه ويورثه لشياطينه من بعده
ابن علي رحل هو وعياله , ولم يصمد أمام الصدور العارية والأيدي الخالية من أي سلاح , واستخدم الشعب صوته فقط , فهرب بكل جبروته ومخابراته وسلاحه
فرحنا يكمن هنا
في أن شباب تونس في سن المراهقة , إلى العشرين , بأصواتهم المتكاتفة والصارخة , هزت الطاغي وأركانه وجلاديه ولم يصمدوا إلا أياما قليلة , حتى استسلموا والذين تمكن من الهرب ذهب بعيدا
نفرح معهم لفرحهم . ونحزن معهم على فقدانهم الدماء الطاهرة , ويزيد فرحنا أيضا , في أن تعلوا الفرحة إخواننا في الجزائر , لنفرح لفرحهم
ويبقى عزاؤنا الوحيد في الدول العربية الأخرى , أن يعوا حقيقة هشاشة أنظمتهم , وأن يكفوا عن الشكوى , فلن يجدوا لشكواهم سامع , ولكن إن فعلوا فعل إخوانهم في تونس والجزائر , حتى الدول التي كانت تدعم ظلم حكامنا ستقف عاجزة مكتوفة الأيدي عن نصرتهم , عندما يخرج الشعب ضدهم , ويقول ليسقط الطاغي المستبد.