إياكم وغضب الحليم

د.عبد الغني حمدو

د.عبد الغني حمدو /باحث وأكاديمي سوري

[email protected]

[email protected]

الحليم اسم من أسماء الله الحسنى , ولكن عندما يقع غضب الله سبحانه وتعالى لن يكون هناك من يقف تجاه غضبه شيء

ولله المثل الأعلى 

ولكن يتصف بعض الناس بالحلم , وهو الصبر على الشدائد , والصبر على أذى الغير , ولكن عندما يستمر الضغط على الإنسان الحليم , فالمرأة تصبح نمرة شرسة , والرجل أسد غاضب لا يقف في طريقه , إلا تبديد غضبه في الاقتصاص ممن أخرجه عن طوره المعهود وهو الحلم

لن نوغل في التاريخ كثيراً كأمثلة حية عشناها معظمنا في  العقد الأخير من القرن الماضي وسقوط الأنظمة المستبدة في أوروبا الشرقية كلها , بثورات شعبية أطاحت بتلك الأنظمة كما حصل في رومانيا ونحر تشاوسيسكو وزوجته

وقامت انتفاضات وثورات وأطاعت بالأنظمة الطاغية , ولم يبق إلا القليل منها مثل كوبا وكوريا الشمالية , والأنظمة العربية

فالذي يجري في تونس الآن , وانتفاضة الشعب التونسي والذي بدأها في مدينة سيدي أبو زيد وانتقلت لمعظم المحافظات التونسية ومنها العاصمة مركز الثقل القمعي فيها برئاسة زين العابدين بن علي منذ ثلاث وعشرون سنه

يتصور الحكام أن الشعب حليم مسكين مغلوب على أمره , وبالتعذيب والبطش وقتل الناس المعارضين , يستطيعون الاستنمرار في الحكم  إلى مالا نهاية , متخذين من المثل القائل ( أجع كلبك يتبعك ) , ولكن في المقابل عندما يجوع الكلب ولا يجد ما يأكل , يتحول إلى حيوان مسعور

ففي بلاد المغرب العربي وفي سورية والأردن ومصر اتبع الحكام فيها سياسة متشابهة بطول مدة الحكم وبنفس الأسلوب ا وهو:

نهب المال العام , إفقار المجتمع , قمع الحريات , الاستبداد بالسلطة وجعلها سلطة مطلقة فوق أي مساءلة قانونية أو حتى شعورية , التعذيب والقتل والتصفيات المستمرة , وتحويل الوطن لكونتات يتقاسمها أصحاب النفوذ المقربين من النظام كعائلة الأسد في سورية وعائلة مخلوف والعناصر الأمنية المتنفذة في الدولة

وفي مصر حسني مبارك وجمال مبارك وأحمد عز والبعض ممن يعدون على الأصابع ,وفي تونس وسيطرة الرئيس وزوجته , وليبيا ومعمر القذافي والملك المغربي والسجود بين يديه , وملك الأردن في نوادي القمار في أمريكا وحضوره الأسبوعي فيها

وبشار الأسد والتجارة مع عمه وزوجته في الخارج

هذه العصابات التي تنهب باسم القانون وتقتل باسم القانون , وتظلم باسم القانون , وهي التي تضع القانون في بالوعة المرحاض إن كان يقف ذلك حجر عثرة في طريقها

هذه السياسات الداخلية وتعقبها الخارجية , وضعت لنفسها أي هذه الأنظمة أن العدو الوحيد للنظام هو الشعب الذي تحت حكمه

فهم يعاملون الشعب من موقف العدو اللدود , وبما أن الشعب هو العدو الوحيد , يجدون المبرر لأنفسهم في إتباع كل الوسائل لفناء العدو المقابل لهم

وبالفعل وصلوا لهذه النتيجة , ولم يكتفوا بإفقار الشعب وإذلاله وحرمانه من أبسط مقومات الحياة , وإنما كانت الخطوة الأصعب وهي بيع تراب الوطن لأعداء الوطن

كالذي حصل ويحصل في مصر , وفي تونس والتي أوحى فيها هتاف المتظاهرين , بأن النظام باع تونس , وفي سورية لم يكتف الأب ببيع الجولان فقط , بل أعقبه وريثه بشار ببيع سورية كلها لملالي طهران , وتنازله عن لواء إسكندرون , لدعم نظامه المنهار في داخله وسياسته المبنية على نمط العدو الوحيد له هو الشعب السوري والوطن

لم يبق أمام شعوب هذه الدول ما يخسرونه , فلقد طال صبرهم وزاد حلمهم , على قتل أبنائهم وتشريد الكثير من معارفهم وإخوانهم وسحل الكثير في الشوارع وأقبية الأمن والزنازين والإعدامات الجماعية والفردية, وحجز الحريات وسيطرة المحسوبين . والموت غرقاً وحرقا وانتحارا, وهتك الأعراض , ليصبح الشرق الأوسط العربي والمغرب العربي جزيرة نائية منفصلة عن العالم كله

وهذه الانتفاضة الشعبية في تونس , لن يستطيع النظام إصلاح ما أفسده طيلة السنوات الماضية , ولن يقوم بإصلاحه , والإنسان قد يحتمل العري ويحتمل الظلم ويحتمل كل شيء ماعدا الجوع , فهو ميت ..ميت لا محالة .

فما الفرق ؟

عليه أن يثور لكي لا يموت لأنه لن يكون أمامه فسحة من أمل في الحياة

والحاكم الظالم في مثل هذه الحالة يحاول أن يظهر بعض الإصلاحات ليتودد للشعب , ولكن لن يجد ما يصلح فيه , وهل يعقل أن يقدم شيئا من المال الذي نهبه طيلة سنوات حكمه , كما فعل اليوم رئيس تونس

بتغيير وزير الرياضة والشباب وهدية عشرة ملايين دولار لمحافظة سيدي بوزيد , فهي حتما مع قلتها لن يستفيد منها إلا أتباع النظام

في الماضي كان السور الحديدي الإعلامي يغطي جرائمهم , أما الآن فلن ينفعهم أي سور فولاذي حتى

لا أعتقد أن شعوب المنطقة ستصبر على حكامها أكثر مما صبرت , والقلوب بلغت الحناجر , وأصوات الحرية تنطلق من كل مكان , وتعرية هذه الأنظمة الفاسدة أمام الجميع

الجوع ينهش قلوب المجتمع والظلم والقهر والتخلف والسرقات والمحسوبيات , والأمر بالسجود والطاعة لمن ليس لهم الحق لا في السجود ولا بالطاعة , أمام فسادهم هذا

هذا الواقع المرير أوصل المجتمع لحالة من الغيظ والغضب والقهر لدرجة يحتاج فيها , لعود كبريت حتى يخرج عن حلمه الطويل والممل , كما كانت شعلة الشرارة بحرق ذلك الرجل المسكين لنفسه في سيدي بوزيد , لحرمانه من مصدر رزقه , وكما حصل في رومانيا من البدء بمظاهرة بسيطة لعمال الإطفاء

فهؤلاء الحكام لن يجدوا أمامهم إلا كما تصرف نيرون , بحرق روما ومحاولته الانتحار ومن جبنه لم يستطع أن ينحر نفسه , فأعطى الأمر لأحد حراسه ليقتله

فقد خرج شعب تونس عن صمته , كما نرجو من الله تعالى أن تكون هذه الانتفاضة الشعبية هي غضبة الحليم , وتكون بارقة أمل لكل البلاد العربية , ومعاقبة هؤلاء الفاسدين والمفسدين , والذين لم يجلبوا لهذه البلاد إلا الذهاب بهم لجزيرة معزولة عن العالم كله.