الأزمة اللبنانية بين الأمس واليوم

د. محمد أحمد الزعبي

الأزمة اللبنانية بين الأمس واليوم

د. محمد أحمد الزعبي

يتهم طرفا الصراع في القطر اللبناني الشقيق بعضهما بعضاً بالتبعية السياسية والأمنية لقوى خارجية غير لبنانية ،

ونحن نقول هنا، أنه لاتوجد دولة واحدة في العالم كله بمنأى عن التداخل والتآثر الجدلي بين العوامل الداخلية والعوامل الخارجية، ولكن الإشكالية عادة ما تتمحور حول حجم ودور كل من هذين العاملين في عملية الحراك والصراع والتغير الاجتماعي في هذا المجتمع أو ذاك، في هذه الحقبة التاريخية أو تلك، وغني عن التوكيد أن التفوق التكنولوجي والاقتصادي والعسكري للدول الرأسمالية الصناعية منذ القرن الثامن عشر وحتى هذه اللحظة ( 2010م ) قد سمح لها أن تستعمر وتستغل وتخلف (بضم التاء) شعوب وأمم البلدان النامية، الأمر الذي معه رجح دور العامل الخارجي على العامل الداخلي في هذه البلدان والتي منها وطننا العربي، ومنها بالتالي القطر اللبناني الشقيق .

وجدير بالذكر أن حجم ودور وأثر العامل الخارجي، في وطننا العربي، كان أشد وضوحا بعد انتصارالحلفاء في الحرب العالمية الأولى ، حيث ترتب على هيمنة هذا العامل الخارجي جملة من النتائج الكارثية التي عانينا وما زلنا نعاني من آثارها حتى اليوم بل ولربما سنظل نعاني منها في المستقبل المنظور أيضا . أبرز هذه النتائج :

ــ تجزئة الوطن العربي بموجب اتفاقية سايكس ـ بيكو سيئة الذكر إلى كيانات صغيرة غير قابلة للبقاء أو الحياة إلاّ في ظل حماية ورعاية الدول القوية عسكريا واقتصاديا والتي هي عمليا الدول الامبريالية نفسها التي توافقت على تجزئة الوطن العربي ،

ــ إنشاء الكيان الصهيوني لكي يكون من جهة القائم على حماية هذه التجزئة ومنع عودة أو قيام أي شكل من أشكال الوحدة بين تلك الأقطار التي أنشؤوها ، ومن حهة أخرى ليمنع تطور وتنمية تلك الأقطار وبالتالي إبقائها دولا متخلفة اقتصاديا واجتماعيا وضعيفة سياسيا وعسكريا .

إن تدخل الدول العربية ، بل وحتى الاسلامية ، بشؤون بعضها بعضا يعتبر - من وجهة نظرنا - أمر يمكن أن يكون مشروعاً ومقبولاً، وذلك بحكم الروابط التاريخية والجغرافية التي تربط بين هذه الدول ، ولكن ما هو غير مشروع ، وغير مقبول هو أن يكون هذا التدخل يخفي في طياته تبعية هذه الدولة العربية و/أوالإسلامية ، أو تلك - بصورة ظاهرة أو مضمرة - لهذه الدولة الإمبريالية أو تلك، ويكون بالتالي الهدف الإمبريالي ـ الاستعماري هو المحرك الخفي وغير المرئي الكامن وراء هذا التدخل العربي(أو الإسلامي) وليس علاقات الأخوة والمسؤولية القومية و/أو الدينية المشتركة ، كما حدث بالأمس ويحدث اليوم ، في عدد من الحالات التي لاتخفى على أحد .

 لقد شهد النصف الثاني من القرن الماضي خمسة أحداث هامة كان لها التأثير الكبير على كل ماجرى ويجري وربما ما سيجري في المنطقة العربية ، ألا وهي : ثورة الثامن من شباط في العراق 1963 ، ثورة الثامن من آذار في سورية 1963 نكسة حزيران 1967 ، كامبديفد أنور السادات 1979 ، سقوط شاه إيران وقيام الجمهورية الإسلامية الإيرانية 1979 .

 إن ماسيتوقف عنده الكاتب في هذه المقالة هو بصورة أساسية العلاقات السورية اللبنانية من جهة ، والعلاقات بين مثلث : إيران ، سورية ، حزب الله ، من جهة أخرى .

بالرغم

 ولكنن ومع مرور الزمن وبفضل جهود الدول الاستعمارية، ولاسيما إنجلترا وفرنسا ولاحقا الولايات المتحدة الأمريكية ، شرعت تترسخ كيانات "سايكس بيكو"، الهجينة وأخذ عنصر التمايز والتباين بين هذه الكيانات يغلب فيها على عنصر الوحدة واللحمة القومية والدينية، ولاسيما في ظل أولئك الملوك والسلاطين والأمراء والرؤساء والمشايخ الذين باتوا اليوم أصحاب السمو والفخامة والجلالة والعظمة والسيادة... الخ (!!) ، والذين يتمترسون اليوم ، مع بعض أتباعهم وأزلامهم من العملاء والمرتزقة في الخندق المقابل والمعارض والمناقض لكل آمال وآلام " الشعوب " التي يحكمونها ، وبالتالي آمال وطموحات الشعب العربي والأمة العربية . وبهذا تحولت " الأزمة اللبنانية ـ السورية " من اختلاف في الرؤية بين شقيقين عربيين، إلى خلاف في الرأي بين طرفين باتت علاقاتهما ــ بعد كل ماجرى في كل من سورية ولبنان وبينهما ــ أقرب إلى التنابز والتنابذ منها إلى الود والتفاهم ، وطويت بسبب هذه الأزمة ، الصفحة التي عرفت بـ " ربيع دمشق " ليحل محلها صفحة " شتاء بيروت ودمشق " القارص والمؤلم والمؤسف !! وذلك في ظل رئاسة مابعد عام 2000 السورية .

وبما أن لبنان ليس كيانا عضويّاً واحدا وإنما هوجسم متعدد الرؤوس ، فقد كان على الدول الاستعمارية التي أوجدت هذا الكيان أن تقوم بترتيب وتوزيع هذه الرؤوس بين رئاسة الجمهورية (الطائفة المارونية) ورئاسة الوزراء (الطائفة السنية) ورئاسة المجلس النيابي (الطائفة الشيعية) ووزارة الدفاع (الطائفة الدرزية) .

 إن هذه التشكيلة اللبنانية غير الطبيعية أدت مع مرور الزمن إلى ترسخ حالة الانقسام الطائفي في لبنان بل وإلى تفتيت هذه الطوائف نفسها ، وتحول بالتالي التنوع المشروع والإيجابي إلى نوع من النار الكامنة تحت الرماد، أو إلى نوع من الفتنة النائمة التي تنتظر من يوقظها .

إن الكاتب يعرف جيدا الطابع الجمالي والخلاّق لتنوع أشكال وألوان واصطفافات الورود في بستان القطر الواحد والشعب الواحد والأمة الواحدة، ولكنه يعرف أيضا الفارق النوعي الكبير بين الورد الطبيعي والورد الاصطناعي. . لقد كان لبنان بمثابة البستان القومي العربي في القرن العشرين ، ولقد أطلق ابراهيم اليازجي من فوق جباله الراسخة والشامخة قصيدته العصماء : ( تنبهوا واستفيقوا أيها العرب فقد طمى الخطب حتى غاصت الركب ). ويتساءل الكاتب هنا : هل كان

 ابراهيم اليازجي يتوقع ماسيحل مستقبلاً بالأمة العربية عامة وبالعلاقات اللبنانية السورية خاصة حين اختتم قصيدته إياها بالقول: ( ومن يعش ير والأيام مقبلة يلوح للمرء في أحداثها العجب ). نعم لقد أوقظت الفتنة وليلعن الله من أيقظها !!.

واقع الحال فإنه منذ النهاية المأساوية لحرب عام 1967، بدأ يتغير شكل ومضمون العلاقة بين العوامل الداخلية والعوامل الخارجية، سواء داخل كل من سورية ولبنان ، أو بينهما ، وقد تعمّقت وتوضحت أبعاد هذا التغيّر بعد :

ــ دخول الجيش السوري إلى لبنان عام 1976

ــ اتفاقية كامبديفد 1979

ــ قيام الجمهورية الإسلامية في إيران في العام 1979 نفسه ،

 حيث أدى هذا الوضع العربي والإقليمي الجديد إلى ظهور قوة جديدة على الساحة اللبنانية عام 1982 هي حزب الله (الشيعي) الموالي لكل من سورية وإيران ، وأدى أيضا إلى استقطابات جديدة في الوضع اللبناني تحولت إلى انقسامات حادّة ومن ثم إلى صراع بين الموالين لسوريا وإيران وبين المعارضين لتواجدهما وتدخلهما في الشأن اللبناني ، حيث أودى هذا الصراع بداية بحياة رئيس وزراء لبنان الأسبق رفيق الحريري ومعه الوزير باسل فليحان عام 2005 ، ولاحقا بحياة ثلّة من السياسيين اللبنانيين المعارضين للتدخل السوري والإيراني في الشأن اللبناني ( سمير قصير ، جورج حاوي ، جبران تويني 2005 ، بيار جميل 2006 ، وليد عبدو ، انطوان غانم 2007 ) وهي الجرائم التي أدخلت الوضع العربي عامة وسورية ولبنان وإيران خاصة في دائرة تبادل الشك والاتهام وبالتالي دائرة الانقسام والصراع .

إن دخول النظام الإيراني كلاعب رئيسي على المسرح السياسي والاقتصادي والثقافي والاجتماعي في كل من سورية ولبنان ، ولاسيما بعد تعاونه المعلن والمفضوح مع الشقيق وإسقاط نظامه الوطني ، وإحلال مكانه نظام طائفي آخر يتوزع ولاؤه بين الولايات المتحدة وإيران وإسرائيل ، قد أدخلت كلاً من سورية ولبنان والعراق في نفق مظلم ماتزال نهايته لم تتضح بعد،وفتحت الباب أمام التدخل الخارجي في الشؤون العربية والفارسية على مصراعيه!!.

لابد من الاعتراف بالفارق الموضوعي بين العامل الخارجي العربي، والعامل الخارجي الإسلامي، والعامل الخارجي غير العربي وغير الإسلامي، ولكنه لابد من الاعتراف أيضا، أن أي نظام سياسي غير ديموقراطي، أي لم يأت إلى السلطة على أكتاف الجماهير الشعبية وعبر انتخابات شفافة ونزيهة قائمة على العدالة والمساواة بين كافة أبناء الوطن الواحد بغض النظرعن اختلافاتهم اللغوية والعرقية والجهوية والجنسية والدينية والطائفية والقبلية، لا يمكن أن يكون نظاما شرعيّاً ولا وطنيّاً بحال من الأحوال سواء أكان إسلامياً أو قومياً ًأوإشتراكيّاَ ، بل أكثر من هذا فإنه لايمكن أن يكون إلاّ نظاما تابعا لدولة أو دول قوية مادياً ومعنوياً، تستطيع حمايته من شعبه الذي لم ينتخبه ولم يختره، مقابل أن يقوم هو بحماية وتأمين مصالحها السياسية والاقتصادية في بلده!!. ومن المعروف والبيّن في هذه المسألة أن الدولة / الدول القوية القادرة على حماية مثل هذه الأنظمة الديكتاتورية، غير الشرعية، ولاسيما في الوطن العربي، (بسبب احتوائه على كل من النفط و"إسرائيل" في آن واحد) هي بالضرورة الدول الرأسمالية المتطورة ذات اليد والقدم العليا في "النظام العالمي الجديد"، والتي سمح لها غياب الاتحاد السوفياتي أن تستنسر وتستأسد في بلداننا على قاعدة (غاب القط إلعب يا فار).

 إن العلاقة القائمة بين مثلث: طهران ، دمشق وحزب الله "، لا يمكن لعاقل أن يفهمها إلاّ أنها تحالف ظاهره " الممانعة " والوقوف في وجه الكيان الصهيوني والولايات المتحدة الأمريكية، وباطنه الولاء لمذهب ديني معين على حساب الولاء القومي العربي، وعلى حساب مبدأ المواطنة الذي أشرنا إليه أعلاه ،وعلىحساب النضال القومي المشترك ضد الاستعمار الاستيطاني الإسرائيلي لفلسطين ، وضد الاحتلال الإنجلوـامريكي للعراق ، وإلاّ فكيف يمكن للمرء أن يفهم أو يفسر وقوف هذا المثلث ذي الألوان الطائفية المتداخلة والمتقاربة ، من جهة ضد تدخل الولايات المتحدة الأمريكية وإسرائيل في لبنان، ومن جهة أخرى مع تدخلهما بل واحتلالهما للعراق (!!)، اللهم ساعدنا على أن نفهم هذااللغز العجيب !!.

إن ما يرغب الكاتب توضيحه في ختام هذه المقالة المتواضعة ، هو أن للصراع القائم منذ مدة طويلة في وحول القطر اللبناني الشقيق وجهين: وجهاً ظاهراً ووجهاً مستتراً، وبينما يتجسد الوجه الظاهر - من وجهة نظر أصحابه - في كونه صراعا بين أعداء أمريكا وإسرائيل ( إيران ، سورية ، حزب الله ) وبين أتباع هذين العدوين في لبنان وسورية خاصة ، وفي الوطن العربي عامة ، فإن الوجه الباطن لهذا الصراع إنما يتمثل - حسب اعتقادنا الشخصي - بوجود طرفين رئيسيين في هذه اللعبة الدولية الغامضة، الطرف الأول هو الولايات المتحدة الأمريكية وإسرائيل، والطرف الثاني هو إيران وسورية. وبينما يمسك الطرف الأول بملف "المحكمة الدولية" لمحاكمة قتلة رفيق الحريري ورفاقه الذين أتينا على ذكرهم أعلاه ، والتي ( المحكمة الدولية ) يمكن ـ بحسب بعض التسريبات ـ أن تدين الطرف الثاني بهذه الجريمة النكراء ، يمسك الطرف الثاني بالقوة العسكرية التي يمثلها سلاح "حزب الله " في جنوب لبنان وما تمثله من تهديد محتمل للمصالح الأمريكية وللكيان الصهيوني في المنطقة العربية ، فيما إذا تطورت الأمور فى الملف النووي الإيراني نحو المواجهة .

 إن لعبة شد الحبل ، إن لم نقل شد شعرة معاوية ، التي نشاهدها يوميا بين هذين الطرفين أعلاه إنما تتعلق واقع الحال بالنسبة لإيران وسورية من جهة بملف إيران النووي ومن جهة ثانية بهضبة الجولان السورية المحتلة من قبل إسرائيل ، أمالا بالنسبة لأمريكا وإسرائيل فإنها تتعلق بإنهاء حالة العداء والحرب مع إسرائيل و تطبيع العلاقات معها وبالتالي بإنهاء حالة العداء للولايات المتحدة الأمريكية راعية إسرائيل وحاميتها ، أما ماعدا ذلك، وبالذات ما يتعلق بالموقف الحقيقي لهذا المثلث الذي تمثل إيران قاعدته بينما يمثل كل من النظام السوري وحزب الله ضلعيه الآخرين ، من القضيتين الفلسطينية والعراقية ، فإن الكاتب يخشى ــ في ضوء مايرى وما يسمع ــ ألاّ يكون الأمرأكثرمن " كلمة حق يراد بها باطل" .

 إن مايراه الكاتب هنا هو أن كلاً من 1) الأزمة الوزارية التي يشهدها القطر العراقي الشقيق منذ اكثر من سبعة شهور ، و 2)الأزمة اللبنانية المستعصية على الحل منذ عملية التجديد للرئيس السابق الموالي للنظام السوري "إميل لحود" ( 2004 )،

و3) ذلك الهدوء الظاهري الذي يخفي اكثر من إشارة استفهام وتعجب في القطر العربي السوري الذي تحتل إسرائيل جزءا من أرضه ( هضبة الجولان )، و4)ً التدخل الإيراني القوي والسافر في كل من سورية ولبنان ، إنما تصب جميعها ، ، في طاحونة واحدة ،ألاوهي طاحونة الطائفية المقيتة البعيدة كل البعد عن أي انتماء قومي ، وعن كل ممارسة ديموقراطية تقوم على أساس مبدأ المواطنة المتساوية لكافة أبناء الوطن ، والتي يقف وراءها ( أي طاحونة الطائفية ) ، يحميها ويغذيها ، النظام الراسمالي العالمي بقيادة الولايات المتحدة الأمريكية ، ورأس حربته في الوطن العربي : الكيان الصهيوني في فلسطين ، والله أعلم .