الفتنة الطائفية صناعة إيرانية

د. طارق سيف

الفتنة الطائفية صناعة إيرانية

د. طارق سيف

عندما طرحتُ سؤالاً عنواناً لمقالي "ثم ماذا بعد هذا؟" منذ أسابيع قليلة، لم أتوقع حدوث تحولات درامية سريعة في المنطقة تؤدي إلى انكشاف ثلاثي العنف: حسن نصر الله ومحمود أحمدي نجاد وجورج دبليو بوش. فالأول أسرع باستعراض للقوة في بيروت كشف عن نواياه الحقيقية في إشعال الفتنة الطائفية في لبنان، والثاني كانت تصريحاته وتحركات حرسه الثوري على الأرض في العراق دافعاً لمزيد من الفتنة الطائفية، ليس فقط بين السنة والشيعة بل بين الشيعة أنفسهم، والثالث زار الدولة العبرية مهنئاً إياها على نجاح مذابحها ضد الفلسطينيين عبر ستة عقود وتتويجها بمجزرة غزة الدموية، ثم حث الإسرائيليين على مزيد من القتل لكل من تسوِّل له نفسه أن "يدوس" للدولة العنصرية على طرف، مشجعاً على مزيد من التطرف اليهودي، ومانحاً بذلك بلاد فارس الفرصة لمزيد من التدخل في شؤون المنطقة وإذكاء الفتنة بين شعوبها.

ووفق نص الدستور الإيراني يمكن تصنيف بلاد فارس على أنها ثورة في شكل دولة، فقد نص الدستور على "ضرورة بناء جيش إسلامي عقائدي مؤمن بمبادئ وأهداف الثورة الإسلامية، وتشكيل قوات حرس الثورة الإسلامية لحراسة الثورة ومكاسبها، والتدريب العسكري لجميع أفراد الشعب" (الأمة المسلحة)، وذلك حتى يمكنها "دعم النضال المشروع للمستضعفين ضد المستكبرين في أي نقطة في العالم"، وإذا أضفنا إلى ذلك بند "الحفاظ على إمامة الأمة، وحقوق جميع المسلمين الشيعة"، يتضح لنا حقيقة ما ترمي إليه الأهداف الاستراتيجية لـ"دولة ثورة فارس الشيعية".

فالأمر لا يحتاج إلى مفسرين وخبراء، وسبق أن ذكرته مراراً لعل الذكرى تنفع العرب، فلا شك في أن "الجمهورية الفارسية الشيعية"، التي نجحت ثورتها باسم الدين، تزرع لها جذوراً في كل أرض تنبت فيها بذور التشيع، وهي تتعهدها على الدوام، وفي كل الظروف، وتحت أي مسمى، ولدى أنواع شتى من الحكومات، منتظرة يوم يأتي الحصاد وتستطيع أن تسهم في تحقيق مصالحها الاستراتيجية.

يقول هاشمي رافسنجاني، رئيس جمهورية إيران الأسبق، في حديثه لمجلة "راهبرد" الذي نشر في صحيفة "إطلاعات" يوم 16 أبريل 2003: "إننا باعتبارنا دولة شيعية، نساعد الشيعة في كل مكان، حتى لو كانوا حزباً أو أقلية برلمانية، لقد أصبح للشيعة مركزية الآن في إيران بعد قيام الثورة الإسلامية وإقرار نظام ولاية الفقيه في الحكم، والشيعة قوة إسلامية كبيرة، وهم أكثر الفرق الإسلامية اعتدالاً، لذلك فسوف تجد لها مكاناً بين المناضلين في المستقبل". وهو أمر أكَّده مراراً بطرق مختلفة خلفاؤه، سواء الرئيس السابق محمد علي خاتمي في زياراته ومباحثاته الخارجية، أو الرئيس الحالي محمود أحمدي نجاد الذي تعامل مع الموضوع بطريقة مباشرة وفجَّة عندما التقى بزعماء "حزب الله" اللبناني وحركة "أمل" اللبنانية وحركتي "حماس" و"الجهاد الإسلامي" أثناء زيارته الرسمية إلى سوريا بداية عام 2006، وأكد على مساندة إيران غير المشروطة للدور الوطني الذي تقوم به هذه الحركات والمنظمات الشيعية في مواجهة الضغوط الأجنبية. وكذلك أعلن مقتدى الصدر أثناء زيارته إلى طهران في نهاية يناير 2006، أن "جيش المهدي" التابع له سيقف إلى جانب إيران ضد أي تهديد لها، كما لا ننسى الأخبار التي تحمل شيئاً من الصحة بنجاح ملالي فارس في إقامة أربع حوزات دينية للتبشير الشيعي في سوريا.

من المؤكد أن سعي القائمين على بلاد فارس لفرض سيطرتهم على شيعة العالم بدءاً بمنطقة الشرق الأوسط، لن يكون من أجل خاطر مصالح "الشيعة العرب"، بل نستطيع أن نجزم أنه ضد مصالحهم، لذلك فإن الفتنة هي السلاح الرئيسي لتفكيك المنطقة وإعادة تشكيلها وفق المشروع الفارسي الذي يضمن التفوق المطلق سياسياً وعسكرياً على المنطقة.

لذا فإن السؤال المطروح هو: من الذي يهدد حالياً المشروع الفارسي؟ والإجابة الفورية دون تردد هي: العرب عامة والسنة خاصة، أما مسألة "الشيطان الأكبر" وهو الولايات المتحدة الأميركية، و"الشيطان الأصغر" وهو إسرائيل، فإن مشروعهما يتفق إلى حد ما مع "الشيطان الأعظم" الفارسي، فثلاثتهم يريدون القضاء على الإرادة العربية وفرض سيطرتهم عليها، ولا يزيد التنافس والصراع المزعوم المعلن بينهم عن خلاف على تقسيم المنطقة واقتسام ثرواتها.

لذا فإن وسائل وآليات "الجمهورية الثورية الفارسية الشيعية"، بسيطة وفاعلة، وهي إثارة الفتنة الطائفية وإذكاء النعرات الدينية داخل دول المنطقة وفيما بينها، وهذا بدوره يثير الشك ويبث الفرقة بين أبناء الشعب الواحد، وبين شعوب الدول العربية بأسرها، ويدفع الكل لقتال الكل، ثم تسقط الدول في براثن الحروب الأهلية وتنقسم إلى دويلات وكانتونات طائفية وعرقية، وحينها تمتد يد فارس العظمى لتقطف ثمرة ما زرعته.

إن النظرة الواقعية لأحداث المنطقة تشير إلى أن عناصر "الحرس الثوري" المسؤولة عن تصدير الثورة والمتمثلة في "فيلق القدس"، تعمل بهمة ونشاط في مجالات عدة، ليس من بينها المشاركة في القتال أو الدفاع عن حقوق ومصالح الشيعة العرب، فهي تدري تماماً أنها لن تضحي بأرواح شيعة فارس في سبيل شيعة العرب، هذه المجالات قاصرة على الاستخبارات لجمع المعلومات عن المناطق الصالحة في دول المنطقة لبث الفتنة وجس النبض لإذكائها، ثم التقرب من قياداتها بالأموال والنصح والتدريب، وفور التأكد من ولائها يتم إمدادها بالسلاح، وشحذ همتها للمواجهة بإطلاق الشعارات النارية، ولي عنق الحقائق، وإقامة التحالفات معها بدعاوى الوقوف أمام التهديدات المشتركة للشيعة في العالم.

وترى "الجمهورية الثورية الفارسية الشيعية" أن إيجاد كيانات شيعية عربية حولها تدين لها بالولاء "العقائدي والنضالي"، سوف يحول دون وجود قوى أجنبية تهدد الأمن الفارسي، وسيسمح لها بحل مشكلاتها الاقتصادية والاجتماعية على حساب الجميع.

وترى القيادة الفارسية أن الدفاع عن أمن فارس يكون بإشغال مصادر التهديد الرئيسية بإغراق قادتها وزعمائها في مشكلات وأزمات لا تنتهي، وهذا يتأتى بأن تكون هناك يد فارسية مؤثرة في كل هذه المشكلات والأزمات، إما بطريقة مباشرة أو غير مباشرة.

يجب ألا تخدعنا التصريحات النارية للرئيس أحمدي نجاد ضد إسرائيل والولايات المتحدة، خاصة في ظل "التقية السياسية"، فعلاقات بلاد فارس بإسرائيل لها جذور عميقة تؤكدها عمليات الإمدادات العسكرية إبان حرب السنوات الثماني مع العراق فيما عرف بفضيحة "إيران جيت"، والتقارير الصحفية الغربية المستمرة حول الاتصالات السرية، والتحرشات الفارسية التي تُستخدم فيها القوارب الصاروخية السريعة بالسفن العسكرية الأميركية في الخليج التي لم تسفر عن أي اشتباك، أو حتى احتجاج، في حين أن البائع المصري الذي كان يستقل قارباً خشبياً مهترئاً تم قتله فوراً وبدم بارد حينما حاول الاقتراب من إحدى السفن الأميركية في قناة السويس!

الفتنة الطائفية منتشرة الآن بكل أبعادها ومستوياتها في كل من العراق ولبنان وفلسطين والسودان والصومال، لكنها أقل انتشاراً في دول أخرى مثل البحرين ومصر وسوريا وبلدان المغرب العربي، ويجب أن يتم التصدي لها بطرق حاسمة، وعلاج مسبباتها لتُحرم أي جهة من استغلاها.

هل آن الأوان لظهور المشروع الوطني العربي إلى الوجود؟ أم سيظل المسرح العربي مفتوحاً على مصراعيه لمشروعات الآخرين؟