جلعاد .. وشاليط
جلعاد .. وشاليط
أ.د. حلمي محمد القاعود
ما نراه من سجال حاد في مجتمع الغزاة النازيين اليهود حول الجندي القاتل الأسير " جلعاد شاليط " ورجل المخابرات الصهيونية ، مساعد وزير الحرب " عاموس جلعاد " ، يطرح أكثر من دلالة ، وأكثر من سؤال بالنسبة لنا نحن العرب المسلمين قبل اليهود الغزاة .
مذ أحبط رئيسهم المنصرف " إيهود أولمرت " جهود مصر في صفقة الجندي شاليط ، وموضوع التهدئة مع غزة، وصفع الحكومة المصرية صفعة قوية أو مجلجلة كما وصفتها بعض الصحف – لم تفق منها حتى الآن ، ثم أزرى برجل المخابرات عاموس جلعاد ، وأقاله من مسئوليته عن ملفي التهدئة وشاليط ، فإن القوم هناك ما زالوا يتجادلون بشأن السلوك الذي سلكه الرئيس المنصرف . الأغلبية تلومه لأنه فرط في حرية جندي كان يمكن أن يستمتع بحياته وسط أهله وقومه ، ويقضى نهاية الأسبوع بين أسرته وبيته في ما تسبيه هيلا. أما الأقلية فترى في تصرف أولمرت انتصارا لما يسمونه بالكرامة الوطنية ( صار للغزاة وطن يتحدثون عن كرامته !).. وفي كل الأحوال فقد كان الجندي جلعاد محور الجدل والحركة والصراع السياسي فيما بين الغزاة من منطلق قيمة اليهودي الآدمي في الكيان الغاصب .
قال "عاموس جلعاد" في تعليق نقلته الصحف العبرية في الأسبوع الماضي : إن حكومة أولمرت انتهجت أسلوبا غير متسق تجاه محادثات التهدئة ، وكان " مهينا " للمصريين .. وقد اقترح أولمرت على جلعاد أن يقدم اعتذارا لإنهاء الخلاف بينهما ، ولكن الأخير رفض الاقتراح . وقالت " يديعوت أحرونوت " على لسان مصادر يهودية : إن ثلاثين عاما من السلام مع مصر (!) غير مبنية على علاقة شخص واحد مع مصر ، وستكون لاتصالات مع مصر من خلال موظفين في ديوان أولمرت وحده .
ورأى "رون بن يشاي" المقرب من المؤسسة الأمنية الصهيونية أن قرارات إبعاد الجنرال جلعاد من منصبه هو صفعة أخرى من الكيان الصهيوني للرئيس المصري ، معتقدا أن أولمرت لا يتوقف عن اتخاذ المواقف التي تعود بالسلب على الكيان الصهيوني ، كما رأى أن المصريين سيردون الصاع صاعين على قرار أولمرت تجميد المفاوضات الخاصة بالتهدئة ( القدس العربي 24/2/2009م ) .
ويتساءل " تسفي بارئيل " : هل كانت مصر المجربة جدا ؛ حالمة أو إنها قد تعرضت للخديعة ؟ هل كذب جلعاد على سايمان - يقصد مدير المخابرات المصرية – أم إنه فوجئ هو الآخر من موقف رئيس الوزراء ؟
ويقرر بارئيل أنه من دون تهدئة متفق عليها ، ومن دون شاليط ؛ لا تبقى الحرب في غزة مجردة من الإنجازات وحسب ، بل هناك في الزاوية فشل ذريع يتربص متخفيا . فمصر تتمتع بالحرية في مواصلة التفاوض مع حماس وفتح حول معبر رفح ؛ الأمر الذي لا يرتبط بإطلاق سراح شاليط ولا بالتهدئة ، ومصر مستعدة لفتح المعبر إن وافقت حماس على شروط الاتفاق الموقع عام 2005م .
ويشير بارئيل إلى أن التطورات المحتملة في المنطقة ستؤدي إلى إلحاق فشل مضاعف للحكومة الصهيونية التي تنازلت عن شاليط كما يقول في عنوان مقاله ( ها آرتس 22/ 2/ 2009م ).
ويسخر "جدعون ليفي " ممن يسميهم " أمناء الكرامة المهدورة" ، ويقصد الحكومة الصهيونية التي رفضت أن تطلق سراح الأسرى الفلسطينيين في مقابل الجندي شاليط ، الذي يذوي في سجنه في إطار خدمته الوطنية ،من أجل استعادة كرامة دولته المهدورة . وهو لم يتطوع أبدا لهذه الخدمة الرديئة المرفوضة. ويضيف ليفي : " أولمرت وكل أبناء الكرامة الوطنية المفقودة ؛ مدعوون للتضحية بأنفسهم من أجل هذا الهدف بدلا من التطوع عن طريق الآخرين . لقد فقدت الدولة الصهيونية بقيادة أولمرت كرامتها في حرب غزة ، كما تدل المشاهد البشعة التي كانت بفعل جنودنا هناك " ( ها آرتس 22/ 2/ 2009م ) .
ويحاول إلياكيم هعستني " وهو مغتصب يميني أن يدافع عن الحكومة الصهيونية وتصرفها بعد م دفع الثمن لتحرير شاليط ، ويرى أن ذلك يتعارض مع جوهر الدولة بوصفها مسئولة عن المصلحة العليا لعموم الرعايا ، ويرى أن تحرير الأسري وخاصة من نوعية " مروان البرغوتي " الذي سيوفر لفتح زعيما ذا قدرة على التغيير الجذري في المنظمة العسكرية الفلسطينية ، هو استسلام استراتيجي وإفلاس رسمي للسياسة الصهيونية ، واقتراب من إقامة الدولة الفلسطينية ، ونهاية الاحتلال .. ويلوح الكاتب بضرورة قتل الفدائيين – يسميهم المخربين – بدلا من اعتقالهم ومحاكمهم وتحريرهم عن طريق التبادل وهم يلوحون بشارة النصر ويرفعون أعلام منظمة التحرير .
ويمضي " عاموس جلبوع " على نهج المغتصب اليميني في انتقاد الحركة النشطة في الكيان الصهيوني التي تطالب بالتحرير الفوري لشاليط مهما كان الثمن ، ومهما كانت الأضرار السياسية والأمنية .. ويرفض ما يقال إن دولته ملتزمة بضمان سلامة أتباعها وأمنهم وخاصة الجنود . ويقرر – بحسرة - أن شاليط صار رمزا لحماس وكل أصدقائها . وأصبح بالنسبة لهم علم العدو الذي يمكن إحراقه والبصق عليه . ويدعو إلى المطالبة بزيارة الصليب الأحمر لشاليط ، وفحص حالته والإبلاغ عنها ، وبعد ذلك يقول " جلبوع " : الله كبير ! ( معاريف 23/2/2009م ) .
آثرت أن أتوقف طويلا عند ما يقوله الصهاينة عن جلعاد شاليط ومن قبله " عاموس جلعاد " ؛ لنرى كيف ينظرون إلى الشخص الذي ينتمي إليهم ، ويهتمون به ، ويؤسسون على ذلك سياسة دولة ، ومنهج مفاوضات ، ورسم مستقبل .
الوضع على الناحية الأخرى – أعني مصر – لا يبشر بأي خير ، فالمصري في الداخل والخارج لا قيمة له ، ولا أحد يتحرك من أجله اللهم إلا إذا كان من أتباع السلطة الكبار ، أما الصغار فلا أهمية لهم ، مثلهم مثل بقية الشعب البائس ، ولنتأمل نموذجا بسيطا يكشف المفارقة :
قبل فترة أحس معالي وزير المالية المصري ببعض المتاعب في عينيه ، فسافر في الحال إلى أميركا للعلاج مع مرافق ،مع أن العلاج متوفر في مصر ؛ وتحملت خزانة النظام – خزانة الدولة لا وجود لها منذ زمان ! – تكاليف السفر والإقامة والبدلات وقيمة العلاج أو فاتورة المستشفي ، وقد بلغت كما أنبأتنا الصحف مليون جنيه ، وفي رواية أخرى مليون دولار !
وقبل أسابيع انتقل إلى رحمة الله تعالى عدد من الأدباء المعروفين ، وكانت الصحف قد تعبت من مناشدة المسئولين علاج هؤلاء الأدباء على نفقة الجهات التي ينتسبون إليها ، ولكن أذنا حكومية واحدة لم تسمع ، ورحل الأدباء تشيعهم دعوات الناس بالرحمة .
وأعرف مجموعة من أساتذة الجامعة أجروا عمليات جراحية دقيقة في بعض المستشفيات المصرية ، وحين ذهبوا بالفواتير إلى جهات العمل التي يدفعون إليها اشتراكات شهرية منذ عشرات السنين ، فإن موظفا صغيرا أذلهم قبل أن يقرر لهم مبلغا ضئيلا مما دفعوه !
أرأيتم الفارق بين الإنسان المصري والغاصب الصهيوني ؟
وهل عرفتم لماذا ينتصرون وننهزم أمامهم ؟