الفساد والإصلاح

أ.د. حلمي القاعود

الفساد والإصلاح

أ.د. حلمي محمد القاعود

[email protected]

يُثير المؤتمر السنوي الخامس لحزب السلطة في مصر ، قضايا عديدة وخطيرة في الواقع المصري  المعاصر ، في مقدمة هذه القضايا أنه لا توجد في مصر سياسة ولا سياسيون . وقد يعترض بعض الناس ، مشيرين إلى العدد الضخم من الأحزاب والمجالس التشريعية والمحلية والوزارات والانتخابات والصحف والندوات والمؤتمرات .. وهذا الاعتراض صحيح ، ولكنه لا يعبر عن سياسة حقيقية ولا سياسيين حقيقيين ، لأن السياسة الحقيقية تعنى العمل على تغيير الأوضاع القائمة ، والانتقال بها من سيئ إلى حسن ، ومن حسن إلى أحسن ، وهذا لا وجود له في الواقع المعيش اللهم إلا إذا عددنا خطب قادة حزب السلطة ، ومذكراته الإنشائية ؛ هي التغيير والتطوير ، والانتقال من حال غيرطيبة إلى حال طيبة . وإذا كانت السياسة منعدمة فلا يوجد بالتالي سياسيون ، وما قادة وزعماء الأحزاب الرسمية إلا مجرد امتداد لحزب السلطة ، وجميعهم لا يملكون من أمرهم شيئا ، لأن الذي يقرر ويغير هو رئيس الدولة وحده ، ولا أحد سواه ، ويعلم الناس أن ما تقوله الأحزاب وصحفها والصحف المستقلة والأفراد ، ما هو إلا صيحة في واد لا تهز أذن مسئول صغير في حزب السلطة ، وكما أشرت في موضع آخر ، فإن حزب السلطة مهما بلغ عدد أعضائه لا يدين إلا بدين رئيسه ، أياً كان هذا الرئيس .. وإذا افترضنا أن الرئيس تبنى السياسة الاشتراكية غدا ، دون السياسة الرأسمالية اليوم ، فسوف ينقلبون جميعاً إلى اشتراكيين ، وكذلك الحال لو تبنى السياسة الإسلامية فسوف يزايدون على أعرق الجماعات الإسلامية وينافسونها في الهتاف بالإسلام ..

 إذا كيف نفسّر هذا العدد الضخم الذي ينتسب إلى حزب السلطة ، وكلام كثير منهم عن التغيير والتطوير والحراك السياسي والاجتماعي ، وظهور العشرات بل المئات منهم على مدى الأيام والليالي التي عقدها مؤتمر الحزب الخامس فوق شاشات التلفزة الرسمية والخاصة ، وخلفها شعار الحزب ، لتحلّل وتفضّل وتناقش وترد على القضايا المثارة التي صارت مستحيلة الحلول ، في ظل وضع بائس يطرح مصطلح " الاستقرار " ، تأكيداً على بقاء الوضع على ما هو عليه ؟

دعونا أولاً نذكر بما هتف به أحد أعضاء مجلس الشورى لأمين السياسات حيث خاطبه قائلاً : " رأيت فيك قوة ناصر وطموح السادات وحكمة مبارك "

وهذا الخطاب ، لا ينفصل عما نطق به من يسمى أمين التنظيم في السياق ذاته واصفا أمين السياسات بأنه " مفجّر ثورة التغيير والتطوير " .

والمسألة كما نرى لا تختلف عما كان يهتف به نواب سابقون في مواجهة الرؤساء منذ انقلاب 1952م حتى اليوم . فهي في مفهومها العام مسألة هتافية ، وإن كانت تحمل من الدلالات ، ما يحتاج إلى تفصيل أوسع ، لا تحتمله المناسبة ، إنه منهج " كهنة آمون " في مديح السلطة وعبادة الحاكم ، الذي يجعل الأوضاع في حالتها الراهنة هي المراد ، ومنتهى الآمال .

ودعونا ثانيا نسأل : ما هي أوجه التغيير والتطوير والحراك المزعومة في كلام قيادات وأبواق حزب السلطة ؟

هناك موضوعان أساسيان تعب الناس من الكلام عنهما الأولى الإصلاح والأخرى الفساد . وكلتاهما ترتبط بالأخرى ، فالإصلاح يعنى القضاء على الفساد ومحاربة الفساد تعنى الإصلاح السياسي . فهل تحقق إصلاح أو حورب فساد ؟

بالتأكيد لم يحدث شيء من ذلك أبداً ، وسبق لرئيس حكومة حزب السلطة أن قال في تصريح علني متهماً الشعب المصري بعدم النضج ، إن الديمقراطية فوق مستوى المصريين .. هل هناك إصلاح بدون مشاركة ؟ وكيف تتحقق الديمقراطية بإقصاء الأغلبية الساحقة من المواطنين بحجة عدم نضجهم ؟ وهل يتأتى الإصلاح – أيا كان نوع هذا الإصلاح – بعيداً عن اختيارات حقيقة للنواب والمسئولين في انتخابات حرة نزيهة ؟

لقد صار من المستحيل – دستورياً وقانونياً – أن يتسرب نائب أو ممثل حقيقي للأمة عبر نظام الانتخابات ، الذي تحكمه عملية التزوير بمعرفة السلطة ورجالها ، علناً وفى ضوء النهار ، وأمام كاميرات التلفزة العالمية .. فعن أي إصلاح يتحدثون ؟

الإصلاح يقتضى نظاماً سياسياً واقتصاديا شفافاً تحكمه رقابة قانونية ودستورية لا تغلها السلطة بقيود الاستبداد أو العسف أو المزاج ، وهذا النظام لا يوجد في بلادنا على أرض الواقع ، وإن وجد على صفحات الكتب !

أما الفساد ، فقد قال عنه عضو قيادي في حزب السلطة قبل عقد من الزمان أو أكثر إنه وصل للركب ، واليوم فقد وصل إلى ذؤابة الشعر ، وغرقت البلاد فيه إلى القاع  ، ولا أحد يعلم هل ستنجو من آثاره أم تبتلعها مياهه الآسنة ؟

لقد ارتبط الفساد بما يُسمى " رجال الأعمال " – أو رجال القروض بمعنى أدق – وامتد إلى الجهاز الإداري والتنفيذي والتعليمي والثقافي والصحفي ، وتفاوت الفساد من جهة إلى أخرى ، ولكن القاسم المشترك ، هو استخدام النفوذ والرشوة والبلطجة والتزوير والمداهنة والتملق وغير ذلك من أدوات الإفساد والتخريب ..

ولعل أغرب ما كشفت عنه الأحداث مؤخراً بعد سفح أموال الدولة أو القروض بالملايين على أقدام الغانيات ، هو سرقة آلاف الأفدنة من أملاك الدولة تحت راية القانون وتسقيعها ، وبيعها للدولة (!) أو الأفراد بمبالغ خرافية ، وأجهزة السلطة تسمع وترى ولا تتحرك إلا بعد أن ظهرت صحيفة أحدهم تتهم مسئولا بأن أصوله تسمع وترى ، ولا تتحرك إلا بعد أن ظهرت صحيفة أحدهم تتهم مسئولا بأن أصوله ليست عريقة ، أو أن آخر تحالف مع الغزاة اليهود ، فينتفض هذا المسئول أو ذاك ، للدفاع عن سمعة العائلة الكريمة أو عن نفسه ، وذلك بمصادرة المسروقات على امتداد ثلاثة وخمسين كيلو مترا طريق مصر -  إسكندرية الصحراوي !

أي إن مكافحة هذه " اللقطة " الفاسدة لم يكن من أجل القانون أو الدستور أو النظام ، ولكن من أجل غاية شخصية حركت المسئول لينتقم من الشخص الذي انفجرت فجأة بلاعة اتهاماته المخجلة ! فأين كان حزب السلطة  وحكومته ، والمتهم له جريدة أسبوعية تنطق باسمه ، ويتصدرها مقاله الأسبوعي المزين بصورته ، واسمه بالبنط العريض ، وتوزع أعدادا غير قليلة في العاصمة والأقاليم ، ويشارك فيها بالرأي عدد من الكتاب المحترمين ، فضلا عن مجموعة كبيرة من الصحفيين والفنيين ؟

تأكد المصريون أن الفاسد لا يحاسب إلا إذا ارتكب خطأ أو خطيئة في حق قيادات حزب السلطة الذي يقيم مهرجانا سنويا يتكلف الملايين التي يمكن أن تحل كثيرا من مشكلات أهل " الدويقة " مثلا ، وتوضع ضمن حسنات هذه القيادات أمام الله وأمام الناس . كما تأكد المصريون أن الفاسد إذا ضمن رضا القيادات ممن هم أعلى منه في حزب السلطة فسوف يظل يتمرغ في فساده آمنا مطمئنا ، لا يزعجه أحد ، حتى لو أكل مال الدولة كله .. ألا يتمتع بحسن السير والسلوك ؟

ومن المفارقات أن حزب السلطة لم يشر من قريب أو بعيد إلى قضية الفساد ضمن أعمال المؤتمر الخامس ، التي كان  يفترض أن تحمل هذه القضية التي ضج منها الناس ، بوصفها ذات خطورة  كبيرة ، بل هي الخطر الأكبر على الأمة ، ولكن منشورات المؤتمر اكتفت أن تقلد بيانات اللجة المركزية للحزب الشيوعي السوفياتي ، حيث تحمل بلاغة شكلية ، وخطبا جوفاء ، وآمالا لاتربطها بأرض الواقع أسباب أو أقدام !

وإليك نموذجاً من هذه البلاغة :

[ فكر جديد لمستقبل بلدنا ( انتقلوا إلى الركاكة بعد عامية : بلدنا بتتقدم بينا ) ، سياسات ورؤى وأفكار جديدة ومشروعات قوانين ونظام انتخابي جديد – المؤتمر يناقش قضايا العدالة الاجتماعية .. وتطبيق اللامركزية ، وتمكين الفئات الأكثر احتياجاُ .

..... نظام انتخابي جديد يتسم بالوضوح في التصويت وإتاحة الفرصة (!) للأحزاب في التمثيل البرلماني .

..... تجديد الالتزام بمواصلة برنامج الإصلاح بخطى ثابتة وطرح سياسات اجتماعية للفئات الأكثر حرماناً ] ( الأهرام 1/11/2008م ) .

ثم تقرأ عن التطوير التشريعي في مجال الأحوال الشخصية المسلمين ( كيف ؟ وهل المسلمون في حاجة إلى تطوير أحوالهم الشخصية ؟ وعلى فرض أنهم في حاجة فهل هذه قضية استراتيجة ؟ )

ثم يقول المؤتمر طرح رؤية للارتفاع بنسبة تمثيل المرأة في البرلمان ( هل تعلمون أن المرأة في حاجة إلى ثوب يسترها ، ولقمة متوفرة تشبعها ، وجرعة ماء نظيفة ترد عطشها ؟ ) .

تمنينا أن ينجز حزب السلطة بعض الانجازات الصغيرة الممكنة ، مثل إلغاء نسبة الخمسين في المائة عمالا وفلاحين ( رأيت جلبابا واحداً أو اثنين وعمامة واحدة في المؤتمر ) ، والبحث عن توفير رغيف خبز غير مسموم .. بلاش القضايا الأساسية مثل الإصلاح والفساد والتوافق الاجتماعي ومواجهة الخطر في منابع النيل وعلى الحدود الشرقية والبحر الأحمر .. ولكن لا حياة لمن تنادى !