رحماكَ في روح أمي

محمّد حسين فضل الله

العلامة المرجع السيد محمّد حسين فضل الله

من روائع قصائد سماحة العلامة المرجع، السيد محمد حسين فضل الله، كتبها في العام 1992م في والدته، في ذكرى رحيلها، وهي تعبِّر بشكل إنساني عميق عن طهر الأمّ وسموّها وحضورها في وجدان الشاعر الإنسان.

وتبقى الحياة

وتهربُ مني جمالاتُها

حكاياتُها

في طفولةِ عمري

غنائيّةُ الهدهداتِ الحميمة

أراجيحُ روحي التي يشهقُ الضياءُ

بهزّاتِها

ويغفو العبيرُ

على وحيِها الضائعِ الأمنيات

وأمضي

وترحلُ بي الذكريات

تغيب طويلاً بوعيِ الضَّباب

وتشرقُ بسمةً

وألمحُ كلَّ عيونِ الحنان

وكلَّ النقاء

وكلَّ الصفاء

وسرَّ الطّهارة

خيالاً يهلُّ بروحِ الحقيقة

هي الأمُّ

أمّي التي يورقُ الخيالُ بكلماتِها

رقةً وعذوبة

ورؤيا حبيبة

وتفتحُ للطفلِ في غمرةِ الضَّياع

دروباً غريبة

وتهفو وتثغو

وتحضنُ ـ في حيرةِ النظرات ـ

طفولتي الهائمة

ولثغاتي الحالمة

وأحيا معَ النظرات

وأغفو مع الكلمات

وتختصِرُ العُمْرَ ضمّةُ أمّي

وقبلةُ أمّي

ولمسةُ أمّي

وإشراقةُ الحبِّ

في روحِ أمّي

فيا للعبيرِ الذي يرشفُ الضياءَ نديًّا

بأجفانِ وردة

ويا للربيعِ الذي يبدعُ اخضرارَ المحبَّةِ

في كلِّ شدّة

فينبضُ قلبي بكلِّ الأماني

ويشدو شعوري بأحلى الأغاني

وتنفتحُ اللّهفةُ الحانية

على الحسِّ في الليلةِ الشاتية

لتنشرَ فيه بقايا الضّياء

وتوحي له بانفتاحِ السماء

على الصحوِ في بسماتِ اللّقاء

ويمتدُّ في وعيهٍ الطفلِ سرُّ الشباب

عميقاً كعمقِ الجذور

التي يغسلُ النبعُ أعصابَها

وتغفو على السرِّ أهدابُها...

وتبقى هناك حكايا اللّيالي

عن الغدِ في أمنياتِ الدَّوالي

ويشردُ بي الوعيُ

في رحلةِ الشرود

إلى الغيبِ في أفُقِ الكلمات

وتحملُني كلمة

للغيوبِ البعيدة

لأحيا هناك

بروحي وعقلي

على ضفَّةِ النهرِ

رؤيا جديدة

وتهفو ملائكةُ الغيب

حولي

وأحيا ـ هناك ـ تسابيحَهم

وأغرقُ في الموجِ ـ عبرَ العباب ـ

وأبقى يحلّقُ فيّ خيالٌ

بعيدٌ بعيد

ويجذبُني للمهاوي السحيقة

بعمقِ البحار

حكايا التراب

الذي يغسلُ النبعُ أقدامَه

ويحكي له

في ظلامِ اللّيالي

أماني الشموسِ التي تمنحُ اللآلئَ في العمقِ

سرَّ الضياء

فتحلُّ ـ في غمراتِ الوحول ـ

بوحي الصَّفاء

وأنتِ تطوفين بي

في أغاني الأمومة

على كلِّ أفقٍ نقيّ

وفي كلِّ طهرٍ نقيّ

مع الله

حيثُ يطوفُ الخيال

يحلّقُ ... يهفو

يرقُّ... ويحنو

ويخشعُ... يمتدُّ في رحلةِ الشّهود

يعيشُ في الغيبِ

معنى الشَّهادة

كما الحسُّ في الرؤيةِ الواعية

كما النورُ في الصَّحوةِ الصاحية

وأحيا معَه

أذوبُ معَه

ويُفرقني السرُّ في الروح

يا للسعادة

فلا شيءَ إلاّ هُوَ

ولا عمقَ إلا هوَ

وأمضي وأمضي

هنا وهناك

وأحيا مع النبعِ

في أمنياتِ البحار

وأبصرُ كيفَ يطلُّ النَّهار

وكيفَ تعيشُ الطيور

مع الخضرةِ الطّافرة

على العشبِ...

في كلِّ هزّةِ غصنٍ

على زقزقاتِ البلابل

وأفتح عينيَّ

هنا... وهناك

على صبواتِ الجمالِ

ويشهقُ في داخلي

ألفُ حلمٍ

وألفُ خيال

ويحملُني التيهُ خلفَ سرابِ الصحارى

ويدفعُني الليلُ

نحوَ النجومِ البعيدة

ويوحي لي الضوءُ عبرَ الفضاءِ البعيد

بأنَّ المسافةَ في رحلةِ السرِّ

في وعيِ روحي

على خطواتِ الوجودِ

طويلة

وتبعدُني عنه غيبوبةُ

المتاهات

في ألفِ أفقٍ سحيق

بألفِ حكايةٍ

عن اللّيلِ في كلَّ كهفٍ مخيف

وعن رحلةِ العمرِ بينَ الضَّباب

وعن زعقةِ الموجِ عبرَ العُباب

وأسمعُ كلمة

وتقفزُ نغمة

ويمتدُّ في عمقِ حسّي

لحنُ الصّفاء

إلى أينَ تمضي...

تتيهُ... تضيع

هنا الفطرةُ الصَّافية

هنا القصَّةُ الحانية

هنا في الشروقِ الذي يحملُ السّرَّ

عبرَ الغروب

تعالَ إليه

لتلقى لديه

معَ الفجرِ

ضمّةَ روحٍ تغني

وبسمةَ حبّ

وحنوةَ قلب

وإشراقةً في صفاءِ الصفاء

فأحياهُ في لفتاتِ الطّفولة

في خطواتِ الضّياء

على هزّةِ المهدِ

في روحِ أمي

وتُصغي ابتهالاتُها لأنيني

وتخشعُ في همساتِ الصّلاة

وأبكي وتبكي

بكاءً يشدُّ بكاء

وتحنو عليَّ

وتهفو إليّ

ويبتسمُ الطّفْلُ فيّ

وأسمعُ في همسةِ الشكرِ صوتاً

يرشُّ السعادةَ في كلِّ كلمة

لكَ الشكرُ ـ يا ربّ ـ

وأعرف بالحسِّ ـ معنى الصلاة

وسرَّ الدعاء

وكيف يعيشُ وجودي

وكيفَ يطلُّ الإلهُ

عليّ، بآلامِ أمّي

حناناً ورحمة

وحبّاً ونعمة

وتبقى معي الفطرةُ الصافية

فلا شيءَ إلا هو

ويمضي الوجودُ ويمضي بعيداً

وتلقاهُ في كلِّ سرِّ العبير

بأحلامِ وردة

وفي كلِّ معنى الجمالِ الكبير

ففي كلِّ حمدٍ يعيه الوجود

يرّدُ حمدَه

تشمُّ تسابيحه في جنانِ الخلود

وتحيا تهاليلُهُ في غناءِ الوجود

وتوحي الطفولةُ في حضنِ أمّي

لهذا الشّباب

الذي اخضرَّ فيه الشعور

وعاشَ على هينماتِ العطور

وحرّكَ كلَّ خطاه

على الدَّربِ

في خطواتِ الكهول

****

وتمضي الحياة

وتبقى بروحي

كلمةُ أمّي

وغنوةُ أمّي

وتحيا طفولتي في الكهولة

عبرَ الشباب

وأبقى ... ويبقى

معي الطفلُ في غمراتِ السنين

تهدهدُه الأمُّ في شدوِهِ

وتحضنُ عينيْه في لهوِهِ

وتدعو له اللهَ في حبوِهِ

وتحميه من خطراتِ النسيم

تعوّذه بالإلهِ الرّحيم

فيا روحَ أمّي

الذي عشْتُ في روحِهِ كَّل عمري

ويا قلبَ أمي

الذي كان يخفقُ في نبضِ صدري

ويا صوتَ أمي الرَّخيم

بكلِّ حنانٍ

وكلِّ عذوبة

ويا خفقةَ الحلمِ في لهفةِ العناقِ الحميم

ويا كلَّ طهرِ الينابيع

في بسماتِ الصَّباحِ

ويا ألفَ حبٍّ يهلُّ الحنان

فيخضرُّ قلبي

بروحِ الجنان

أنا الطّفلُ يحبو على كلِّ عشبِ الحنان

أفتّش في الفجرِ عن وجهِ أمّي

وأبحثُ في الليلِ عن حضنِ أمّي

وأهفو إلى النفحاتِ العِذاب

في غفوةِ الحلمِ المطمئنّ

بسحرِ العذوبةِ في لحنِ أمّي

وأجري هنا وهنا

في المكان

وفي اللاّمكان

وفي اللاّزمان

وأصرخ في كلِّ شيءٍ أراه

لأسألَ

في كلِّ حزنِ السؤال

وكلِّ دموعِ الضياع

وكلِّ لهاثِ الفراق

وكلِّ مدى الغيبِ في غمراتِ الضباب

وتدمعُ عيني

ويلهثُ قلبي

ويأكلُني كلُّ جوعِ الحنان

إليها

إلى أينَ يا روحَ أمي

وماتَتْ

وماتَ الذي كان يحبو

هناك على صبواتِ الطفولة

وأحسسْتُ بالطفلِ يصبحُ كهلاً

يعيشُ انحناءَةَ شيخوختي

على كلِّ دربِ الضبابِ الوجودي

مع الموتِ في خاطراتِ الرقود

ولكنّني مع روحِ الشُروق

بقلبي

وذكرى الطفولةِ في كلِّ دربي

أعيشُ مع الذكريات

وتبقى الحياة

وتهربُ مني جمالاتُها

وأغفو

وأبصرُ في الحلم

في رحلةِ الطيوفِ بعينيّ

جمالات أمّي

ويبقى ابتهالي وكلُّ خشوعي

وكلُّ الصلاة

ويحيا معي السرُّ سرّ الألوهة

يا ربِّ أنت الرحيم

وأنت الكريم

لكَ الحمدُ

رحماكَ

في روحِ أمِّي