ذاكرة تجربة.. ذكريات الأسبوع الأول من الهجرة

فراس مصري

بعد صلاة الجمعة من يوم 24 آب 2012 أتتني مكالمة هاتفية مفادها “أُخرج من حلب فورًا دون أي انتظار” علمت بعدها بأيام أنني كنت مستهدفًا من فرع الأمن الجوي بحلب.

غادرت وعائلتي سريعًا عن طريق (أبو الجود) وهو أخ كريم من مدينة حريتان استضافني في منزله وأكرمني وعائلته، ثم أرسلني مع شاب قوي مجاهد إلى الحدود التركية في عتمة ليل رهيب لا صوت فيه إلا صوت طائرات النظام تحلق فوقنا.

يستقبلني في مدينة كيليس أخي الشيخ (أبو حسين) وبتُّ تلك الليلة في منزله، لأتابع صباح السبت إلى دار هجرتي غازي عنتاب.

في الأسبوع الأول كانت أحداث كثيرة، منها أنني رفضت فتح حقيبتنا الوحيدة أنا والعائلة بنية العودة قريبًا بعد زوال النظام، وفي هذا الأسبوع لم أستأجر شقة، إنما حللت ضيفًا في منزل (أبو عمار) رفيق العمر وشريكه، الذي كان صاحب الفضل بإبلاغي بضرورة الخروج، وهو ومن أمَّن لي رفقة الطريق.

تواصل معي أخي الكبير وعرض عليّ المتابعة باتجاه إستانبول لأعيش بجانبه لكنني اعتذرت منه، كيف لا وغازي عنتاب توأم حلب وفيها أصدقاء أوفياء، فيها عائلة الأستاذ (بكر أوزتكين) وفيها الصديق الطيب الفاضل (إبراهيم إيفرم) مستشار رئيس البلدية، وفيها الرجل الشهم القوي صاحب نهضة غازي عنتاب الحديثة الدكتور (عاصم كوزال بي) رئيس البلدية، الرجل الذي بكى عندما عرض عن حلب التاريخية في كوريا كونه رئيس المدن التاريخية بتركيا آنذاك.

اجتمعت في الأسبوع الأول مع إخوة كثر من حلب، وكان محور الحديث أن أيلول على الأبواب والأولاد خارج الدراسة، فأبلغتهم أنني كنت مسؤولاً رئيسًا عن علاقة التوأمة بين حلب وغازي عنتاب، وسأحاول تقديم الخدمة للسوريين فيها.

تم التواصل مع العزيز (إبراهيم إيفرم) وكان شديد الترحيب، ورتَّب موعدًا مع عمدة المدينة الدكتور (عاصم كوزال بي)، والأخير طبيب جراح وكان مديرًا لأهم مشفى في غازي عنتاب وميسور الحال، خدم مدينته غازي عنتاب مدة عشر سنوات في رئاسته للبلدية وجعلها ذات بعد دولي، عقد الكثير من علاقات التوأمة بتوازن بين الغرب والشرق، فجعل مدينته نقطة التقاء بين مدن الشرق والغرب من خلال المهرجان الشهير السنوي (مهرجان الفستق).

شكلنا الوفد الذي سيذهب لمقابلة الدكتور عاصم، وكان من خيرة الشباب السوريين، وتم تجهيز رسالة مطالب متعددة، وفي الموعد كنا في بلدية غازي عنتاب الكبرى أكرمني يومها الدكتور عاصم باستقبال مميز جدًا أعطى شعورًا لكل الضيوف بحميمية العلاقة ودفء الأخوة.

استمع إلينا وكان عنوان الجلسة أن التوأمة بين الشعبين مقدَّمة على التوأمة بين الدولتين، فاجأنا الدكتور عاصم قبل الخروج من عنده بتنفيذ الطلب الأول المُتعلِّق بالتعليم، فأحضر مفاتيح مجمع يضم غرفًا متعددة ليكون مدرسة الصداقة الأولى، وكانت الأولى من نوعها للسوريين في تركيا، وليكون مقرًا لما أسميناه: “تجمع السوريين في غازي عنتاب” مع تأمين كافة اللوجستيات، وعيَّن لنا مترجمًا من موظفي البلدية.

باقي الطلبات عمل عليها تباعًا، فكان السوري في غازي عنتاب يعالج في المشافي المتعاقدة مع البلدية، وخصص غرفة في المدرسة للإعانات الإنسانية، وبعد فترة قابل رئيس الوزراء لحل مشكلة إقامة الضيف التي كانت لا تعطى في مدينة غازي عنتاب وأتى بالموافقة عليها.

أما المدرسة فكان إدارتها سورية بالكامل، ورواتب موظفيها والمدرسين عن طريق البلدية، كذلك كتب الطلاب (المنهاج السوري) وملابسهم وتنقلاتهم من وإلى بيوتهم كلها عن طريق البلدية، لم يكلف فيها الطلبة بقرش واحد.

فوق ذلك كان لا يوفر وفدًا يأتي إلى غازي عنتاب إلا ويحضره إلى تجمع السوريين لشرح القضية السورية.

كل هذه القرارات كانت في الأسبوع الأول من هجرتي وتُوبِع تنفيذها بالأسابيع القليلة اللاحقة.

كل التحية للرجل النبيل الدكتور (عاصم كوزال بي) وللعزيز الفاضل (إبراهيم إيفرم)، ولفريق بلدية غازي عنتاب الكبرى آنذاك، فمن لم يشكر الناس لم يشكر الله.

حياكم الله..

وسوم: العدد 921