يلاّ يا تين

د. سامي الكيلاني

جلس في مطعم الوجبات السريعة في انتظار صديقه ابن قريته، لم يلتقيا منذ أن انتقل الصديق إلى المدينة المجاورة. أشغل نفسه بتصفح النشرة التي تناولها من حامل النشرات الموضوع في زاوية المطعم، إعلانات عن تنزيلات على سلع وخدمات كثيرة. يتصفحها رغم أنه مقتنع بأن هذه النشرات ذكية تستهدف جيوب الناس بمهارة لتجر أرجلهم للانزلاق في القروض والتقسيط. وصل صديقه وسلّما بحرارة وتبادلا الأسئلة المعتادة عن الحال والعائلة. بطريقته الدرامية في الحديث قال صديقه "تصور يا رجل، مررت بالسوبر ماركت لشراء بعض الأغراض، شفت تين في علب مثل أفخر الحلويات، ملفوف كل حبة لحالها، تصور الحبة بتطلع بأكثر من دولار! الله أكبر، ساق الله على أيام زمان". أنهى حديثه، ونهض ليحضر لنفسه كوب قهوة وقطعة كعك من النوع الذي يحبه، كل مرة يأكلها بشهية رغم حديثه الدائم عن مرض السكري الذي ابتلي به، ثم أضاف عودة على حديثه السابق "مستحيل أشترى حبة تين بدولار" وذهب ليقف في الصف الطويل أمام الكاونتر.

تحضره صورة أمه وهي تنزل من أعلى شجرة التين وقد امتلأت السلة بالثمار الشهية، فيسأل نفسه هل كانت تلك اللحظة بالنسبة له لحظة فرح أم كانت لحظة تنبئ ببدء رحلة التعب؟ الذاكرة لا تسعفه ليجيب، قرر أنها لا بد كانت مزيجاً، فثمن التين الذي كان يبيعه كان يعني لهم الكثير. تنهد بصوت عالٍ.

***
سلتا التين اللتان يحملهما تثقلان على ساعديه المثنيين من المرفق. يبدأ رحلة البحث عن الرزق لبيع بضاعته من الطرف البعيد للقرية، من قطعة الأرض التي تصبح عامرة في الصيف، ولهذا يسمونها "العمارة" بتسكين العين كما حاول مرة الربط بين هذه الحالة والاسم. أشجار التين والصبر تطرح ثمارها وتحتاج إلى قطف الناضج منها كل صباح، أما أشجار اللوز فقد يبست ثمارها التي بقيت من موسم اللوز الأخضر الذي كانت ثماره في الربيع تملأ سلتين أصغر من هاتين السلتين يحملهما بثقل أقل على ساعديه ويمضي ليبيع اللوز الأخضر. يسلك الطريق المختصر باتجاه الجهة الغربية من القرية ولا يبدأ بالمناداة على بضاعته عند المرور بالبيوت القريبة لأن أصحابها لديهم أشجار تين حول بيوتهم ولن يشتروا منه. يبدأ بالحارة التي تسكنها أم عدنان، تلك المرأة الأم التي تقطر حناناً كما تقطر بعض حبات التين عسلاً.

يحضّر نفسه للمناداة "يلاّ يا تين"، وينظر إلى حبات التين الجيدة الموضوعة على وجه السلة لإغراء المشترين، يقنع نفسه أن هذا العمل ليس غشاً، فهو يؤكد ذلك بقوله للزبائن من مثل أم عدنان بأن وضع حبات مغريات على وجه السلة لا يمكن أن يعني أن السلة كلها مليئة بمثل هذه الحبات، فمن أين للشجرة أن تعطي في كل يوم ملء سلتين من هذه الحبات، "لا يمكن خالتي، هذا فقط لأن العين هي التي تأكل، المنظر مهم"، ثم يؤكد أن بقية التين في السلة جيد، فلا يمكن أن توضع في السلة ولو "حتى حبة واحدة خربانة، لا سمح الله". يتقن الحديث في الموضوع عندما يشعر بطيبة المرأة المشترية، ويشعر بفخر عندما تمتدح كلامه واجتهاده لمساعدة أهله. وصل قرب البيوت وبدأ بالمناداة بأعلى صوته، فتحت أم عدنان باب الدار ونادته، اقترب وضحكت بوجهه وسألته عن سعر السلة، أجابها ودون أن تساومه أخرجت من جيبها قطع نقود ودفعت الثمن ودخلت بالسلة لتفرغها. عادت بالسلة الفارغة، ناولته إياها ومسحت حبات عرق عن جبينه وسألته إن كان يشعر بالعطش ويريد ماء، شكرها وقال دون تردد متخلياً عن حيائه المعتاد "يا ريت خالتي، تسلمي"، دخلت البيت وعادت بإبريق ماء فخاري وناولته إياه، شعر بالخجل لأنه لا يتقن الشرب دون وضع فمه على "زعبوبة" الإبريق، فحاول أن يشرب بالطريقة الأخرى فنزل ماء على قميصه أكثر من الماء الذي دخل فمه. أعاد الإبريق إليها وشكرها وابتعد وهو يمسح الماء عن قميصه.

نادى طويلاً على بضاعته، حاول رفع صوته أكثر، ولكن لم ينفتح أي باب. بدّل السلتين ليريح اليد التي تحمل السلة المليئة، واستمر ينادي محاولاً. وصل حارة أخرى، اقترب بتردد من ذلك البيت الذي يتمنى ألاّ تسمعه صاحبته، لأنها من ذلك النوع الذي يفتح الباب مواربة دون أن يرى وجهها وتبدأ باتهامه بالغش ومساومته على السعر، عادة يسكت وينتظر جوابها إما هات أو امشِ. تجرأ في إحدى المرات على القول لها "هذا هو الموجود، إن أردت تفضلي وإن لم تريدي السلام عليكم"، شعر يومها بشجاعة لم يعهدها بنفسه من قبل بعد أن قام بالرد على كلماتها الجافة التي وصلته من شق الباب الصغير في وسط البوابة الكبير، شعر أنه ثأر لنفسه من اتهامها له بالغش. سمع صوت البوابة ومن ثم صوتها "يا ولد"، استنفر وحضّر نفسه للتعامل معها إن أعادت طريقتها في الكلام، لكنها سألته عن نوع التين الذي معه، أخبرها فاعتذرت بهدوء وأغلقت الفتحة المواربة للبوابة الصغيرة.

استمر في الشارع الترابي الطويل، رفع صوته بالنداء على بضاعته حين اقترب من البيت الواقع على اليمين في وسط الشارع، أمله كبير في الخلاص من السلة التي بقيت، السلة الباقية من النوع غير المرغوب. تساءل مراراً "ما دام هذا النوع غير مرغوب به فلماذا زرعوه؟ هل زرعوه لأتعب وأنا أبحث عن مشترٍ لهذه السلة قبل أن تشتد حرارة الشمس؟". تحقق أمله بعد أن قبل أن ينزل من السعر قرشاً للمرأة التي ساومته على السعر.

***

عاد صديقه، وضع صينية الكرتون التي يحملها، وبدأ يمهد لاستئناف حديث الذكريات المعتاد وكأنه يكمل حديثه. صديقه هذا يريد أن يعبر المحيط الذي لم يعبره منذ عقود ليزور القرية التي غادرها، يريد أن يفعل ذلك من خلال حديث الحنين الذي يديره معه كلما التقيا مستعيناً بمخزون ذاكرته، ويتحدث وكأن كل شيء في القرية ما زال كما تركه بعد كل هذه السنين الطويلة. استمر في الإنصات إلى أحاديثه عن المدرسة والجيران والمواسم دون تعليق، وبعد أنهى قطعة الكعك ونصف كوب القهوة، سأل "قل لي ما شكل الأرض في الخلّة الآن، أما زالت أشجار التين موجودة، وهل التوتة الكبيرة التي كنا ننصب عليها المرجيحة موجودة؟".

تبسم في وجهه ورشف بقية القهوة الأمريكية من الفنجان الكبير الذي كان قد تركه يبرد، سأله إن كان قد باع التين في طفولته متجولاً في الحارات وكيف كان ينادي على بضاعته، ودون أن ينتظر جواباً طلب منه أن يمشيا لأن الجلوس الطويل يتعبه، ختم الحديث بالقول إن آخر شجرة تين في الخلة قد سقطت بعد محاولات الوالد تجديد شبابها لعدة سنوات وأصبحت شجرة تحمل ثلاثة أنواع من التين قبل أن تنخر جذعها دودة حفار الساق.

وسوم: العدد 926