المدينة والموت

«لم تمت الصبيّة لكنها نائمة» هكذا بدت لي ناديا، وهي تضع رأسها على وسادة تشبه غيمة بيضاء، وتغرق في ضباب الغياب.

في زياراتي اليومية لها، حيث كانت قيود الإقامة في غرفة العناية الفائقة في المستشفى تمنعني من البقاء أكثر من ربع ساعة، تكلمت معها واستمعت إليها. كل الكلام الذي لم يُقل قالته لغة السكون التي كانت تلفنا نحن الاثنين. هي لا تجاوب وأنا لا أجرؤ على السؤال.

في هذا الصمت المدوّي، اكتشفت معها معنى الحوار وجماليات التواصل الإنساني وحضور الغياب.

كل المتناقضات اجتمعت لتجعل من اللقاء أرضاً للتواصل ومن العينين المغمضتين أبواباً للرؤية.

في البداية، عندما كلمني صمتها، شعرت أنني جئت متأخراً، كان عليّ أن أستعيد من زمان صورة أمي في هذه المرأة الجميلة التي تفيض حناناً وعذوبة. لكن مع توالي أيام اللقاء، اكتشفت أن الأشياء تأتي في أوانها، وأن ما قاله صمتها عن معاني الحب وتلاوينه واحتمالاته، ما كان له أن يقال إلا في غرفة المستشفى.

قالت إن موتنا هو هديتنا الأخيرة للحياة. نهدي الحياة موتنا لأننا لا نملك ما هو أثمن من الحياة كي نعطيه للحياة.

قررت ناديا أن تكون هديتها الأخيرة احتضاراً طويلاً، وغيبوبة دامت خمسة أسابيع.

في البداية لم أفهم كيف قاوم جسدها الموت هذه المدة الطويلة، بدا لي الأمر وكأنه عذاب مجاني وعبثي، لكن مع توالي الأيام، بدأت اكتشف العلاقة بين هذه المرأة ومدينتها التي لم تغادرها طوال حياتها.

كأن المرأة الجميلة أرادت أن تقاوم موت مدينتها بموتها، رغم أنها عرفت، لحظة شعورها بوجع رهيب في رأسها، بأنها سوف تمضي.

واجهت موتها برضى وسكون، لكن غيبوبتها توازت مع احتضار بيروت التي يقوم اللصوص باقتسام ثيابها قبل أن يجهزوا عليها.

كم كانت أيام المستشفى طويلة وغريبة!

فأنا أعرف أختي، وأعرف أنها لم تكن تحب الرموز، 

غير أن المدينة التي تُحتضر، أخذتها إلى رمزية لم تكن تريدها.

المدينة الفاتنة يتم تقطيع جسدها كل يوم، ومع ذلك فإن فتنة بيروت لا تخبو إلا لتستعاد من جديد.

فتنة المدينة ليست ذاكرتها أو ذكرياتنا عنها، فتنتها هي احتمالاتها، وقدرتها أن ترى بعينيّ بصيرتها بأن ما تعيشه اليوم عاشت ما يشبهه، وأن لصوص اليوم الذين يخبئون عهرهم خلف طوائفهم يشبهون لصوص الأمس من غزاة دمروا بلادنا عشرات المرات، ولا يزالون يسعون إلى تدميرها.

المدينة تشعر بقليل من المرارة لأن قَتَلتها اليوم يدّعون أنهم أولادها، وهي تعلم أنهم ليسوا سوى أبناء هذه اللحظة التاريخية العمياء.

حاولت أن لا أقول لناديا هذا الكلام، لكنها عرفت ما أفكر به من دون أن أنطق، فارتسمت على وجهها ابتسامة هي مزيج من السخرية والشفقة.

سخرية من هذا الزمن المنقلب الذي ألغى معاني الكلمات، وحوّل الصمت إلى الشكل الوحيد للبلاغة.

وشفقة عليّ، لأنني لا أزال أقيس الأمور بلغة قديمة، لم تتعلم بعد حكمة الصبر، ولم تخلع رداء رطانة سياسية بلهاء، تتعامل مع هذه الدمى التي تتحكم بنا بجدية لا تستحقها.

كانت ناديا نائمة.

بدأت أشعر بالأُلفة مع نومها، ومع هذه اللغة الجديدة التي اخترعناها معاً.

لكنها قررت فجأة أن تستدعي الموت إلى سريرها. ففي الحادية عشرة والنصف من صباح السبت 19 حزيران 2021، دخلت إلى غرفتها كالعادة، لأفاجأ بمناخ غريب.

كان الموت يحوم حولها، أحسست بكائن غريب يحتل فضاء المكان ويرسم اختلاجاته على جسد المرأة النائمة.

لم تكن المرأة وحدها في ذلك الصباح، كان هذا الكائن يتحاور معها بلغة لا تشبه اللغة، فشعرت أنني أتطفل على لحظة حميمة، أردت أن أغادر، لكني تسمرت في مكاني ولم أعد قادراً على التحرك.

في تلك اللحظة دخل الممرض، ربت على كتفي وأمسكني من ذراعي، وقادني إلى الممر خارج الغرفة.

حاولت أن أحكي فلم يخرج صوتي، وضع الممرض إصبعه على شفتيه طالباً مني السكوت.

خرجت من المستشفى لأجد نفسي في شارع تكتظ فيه السيارات الجامدة في أماكنها.

لم أسمع سوى صمت المدينة، أبواق السيارات كانت مبحوحة، والناس في داخلها كأنهم أصيبوا بمس من الخَرَس.

الناس الهائمون في الشوارع كانوا بلا عيون، وضعت يديّ على عينيّ أتفقدهما وأصبت بالخوف. رأيت أمامي ما يشبه الغمامة البيضاء، مدينة مغطاة بالبياض وشوارع تضيق وبشر يتحولون إلى ظلال.

كانت بيروت تستلقي على سرير موتها، ورأيتني أغوص عميقاً في عتمتها البيضاء.

أنا لا أُشبّه المرأة بالمدينة، فهذا النوع من الترميز الذي ساد طويلاً في أدبنا العربي المعاصر يصيبني بالملل، ويبسّط الأشياء.

المدينة مدينة، والمرأة امرأة، ولا معنى للاستعارة.

لكن الموت محا الفروق بين الأشياء.

وأمام موتها اكتشفت أنني لا أستطيع أن أكتب رثاء يليق بالمرأة التي قررت أن لا تنهض من النوم.

فمن يرثي يرِثْ. الأحياء يَرِثون الموتى حين يكتبون.

أما حين تعيش في مكان يُحتضر، فإنك تفقد القدرة على الكلام.

هكذا ماتت المرأة الجميلة النائمة وسط صمت المكان.

وسوم: العدد 935