لماذا هُزِم الإخوان؟.. الجواب في إسرائيل!

في المقال السابق قلت إن المصالحة بين الإخوان والسيسي مستحيلة، وعرض الإخوان المتعلق بالحوار يشبه إعلان استسلام في هذا الوقت الحرج.

ولكن لماذا كانت حسابات الإخوان بمرور الوقت تتزامن مع تغول الانقلاب وتمدده وقبوله محليا ودوليا؟ وما الذي أفقد الإخوان أوراق ضغط لو كانت بحوزتهم لتمكنوا من التفاوض من موقع قوة نسبيا؟

الإجابات متعددة ومختلفة، ولكن سأحاول التركيز على أبرزها وأكثرها تأثيرا، وهذا ليس محل نقاش وأخذ ورد، ولكن هو أمر يمكن رؤيته بشيء من مطالعة المشهد في مصر والإقليم.

العامل الإسرائيلي المؤثر الأكبر

تعامل الإخوان في مصر مع العامل الإسرائيلي بأقل مما يستحق، وظلوا ينظرون إلى واشنطن، وأن المطلوب منهم فقط عدم تغيير الواقع، وهو ما جاء في خطاب الدكتور محمد مرسي بعيد تسلمه مهام منصبه بالالتزام بالمعاهدات الدولية، ومع أنه لم يذكر كامب ديفيد، ولكن ضمنيا هكذا تفهم الرسالة.

هنا يجب أن نتفق على أن إسرائيل التي تتدخل حتى في برنامج إيران النووي لن تسمح أن يحكم مصر رئيس ينتسب إلى جماعة هي الحركة الأم لحركة حماس التي تقارعها، وحتى لو قبل الأميركيون ذلك فإن إسرائيل تملك من السطوة والتأثير في أروقة المؤسسات الأميركية ما يجعل قبول الأميركيين هذا الرئيس أمرا غير ذي قيمة.

فإسرائيل استنفرت وأصابها الذعر من الثورات العربية، وليس كما يشاع أو يحاول بعضهم أن يحوله إلى قناعة وحقيقة مسلمة بأن إسرائيل هي المستفيد الأكبر من هذه الثورات على المدى الإستراتيجي، وفي حال أخذت مسارها الطبيعي ولم تتفجر الثورات المضادة في وجهها.

لم يتردد قادة إسرائيل بالتلميح تارة وبالتصريح تارة أخرى بأن حسني مبارك كان كنزا إستراتيجيا لهم، وخلع مبارك بعد ثورة يناير/كانون الثاني كبل أيديهم في 2012 عن ارتكاب مجازر في غزة، وفي ظل رئاسة مرسي تطورت المقاومة في قطاع غزة، وتمكنت من تعزيز قدراتها كمّا ونوعا.

ومن الناحية المعنوية دخل هشام قنديل ومعه مسؤولون آخرون غزة عبر معبر رفح، قنديل كان رئيس الوزراء المصري في عهد الرئيس مرسي، ناهيك عن التصريحات التحذيرية الواضحة التي أطلقها الرئيس مرسي ضد الكيان الإسرائيلي، وهي تصريحات غابت عن القيادة المصرية منذ عقود.. فهل كنتم تتوقعون أن تقف إسرائيل مكتوفة الأيدي؟

وقد كان الانقلاب العسكري في صيف 2013 هدية لإسرائيل، والذي صار لها كنزا إستراتيجيا لا يقارن سابقه به، ففور الانقلاب أغلقت الأنفاق مع قطاع غزة، وكذلك معبر رفح وهو منفذ غزة الوحيد على العالم، وشرعت مصر في بناء الحواجز والموانع والمناطق العازلة مع غزة، لدرجة هدم بيوت مدينة رفح المصرية التاريخية وتهجير أهلها، إضافة إلى القنوات في البحر لخنق غزة، وأوعزوا إلى الأبواق الإعلامية بشيطنة حماس خصوصا، وأهالي غزة عموما بكل ما في قاموس البذاءة والسفاهة من مفردات.

ووصل الحال إلى التلويح بتدخل عسكري مصري في غزة، وسمحت إسرائيل لطائرات مروحية عسكرية مصرية بالتحليق الاستفزازي في أجواء القطاع، وخضع القطاع إلى حصار لم يسبق له مثيل.

وغني عن القول إن حسني مبارك لم يكن الحال في زمنه بهذا السوء وهذه العدوانية ضد المقاومة وضد غزة، فقد اعتقل العديد من المواطنين الفلسطينيين الغزيين في ظل انقلاب السيسي، وطاردت البحرية المصرية مراكب الصيادين الغزيين الباحثين عن لقمة عيشهم، فقتلت وجرحت واعتقلت عددا منهم، وكل هذا تحت عنوان الحفاظ على سيادة مصر، ومنع إقامة دولة في غزة، وكأن هذا يتأتى بقتل الفقراء وحصار المدنيين، هي حجة واهية متهافتة لا يمكنها التغطية على حقيقة كون الضغط على غزة مصلحة إسرائيلية مطلقة.

وقد رأينا السيسي في حضرة ترامب يتحدث عن "صفقة القرن" التي أعلنها ترامب لاحقا، ولم نسمع السيسي يعارضها، بل إنه لم ينبس ببنت شفة منتقدا إسرائيل، ولو من باب العلاقات العامة مثلما كان يفعل مبارك.

كما فتح السيسي أبواب مصر للمفصول من حركة فتح (محمد دحلان) الذي ذكره الرئيس الدكتور محمد مرسي بالاسم في خطابه الأخير كمخرب في مصر، وفي كتاب "النذير" الذي يضم ما يشبه مذكرات "عاموس جلعاد" رجل الأمن والجيش الصهيوني البارز أوضح عاموس ابتهاجه بانقلاب السيسي، وأنه منع حلفا مؤكدا كان سيتشكل بين مصر وتركيا (ويزعزع الشرق الأوسط)، طبعا المقصود سيتزعزع أمن كيانه.

برأيي أن مناقشة المشككين بكون الانقلاب العسكري في مصر كان بمثابة هدية إستراتيجية للأمن الإسرائيلي أشبه بنقاش مسلّمات وبديهيات واضحة وضوح الشمس في رابعة النهار، وبوضوح أكبر لا يمكن بأدوات العقل والمنطق فصل الانقلاب عن هذه المسألة.

كما كان الانقلاب ضربة موجعة للمقاومة الفلسطينية، والتي في حرب 2014 أظهرت صلابة وذكاء ووجهت ضربات مؤلمة جدا لإسرائيل، ولكن هذا كله لم يترجم سياسيا، وبمفردات أخرى لم يتم جني ثمار سياسية للنصر العسكري ولو بتخفيف معقول للحصار، لأن رأس المقاومة كان مطلوبا من الجوار وليس فقط من تساهال (جيش إسرائيل).

الإخوان أمام الحقيقة

لا أدري هل اقتنع الإخوان بالحقيقة الواردة أعلاه أم ما زالوا يرون أن بعض المناورات أو حتى الاتفاقيات مع الأميركيين تجعلهم مقبولين في الخريطة السياسية في مصر.. بكلمات أكثر وضوحا: إسرائيل تريد في مصر نظاما لا يسمح بتطور المقاومة في غزة، ويتعاون معها أمنيا، ويشاطرها العداء لحركات المقاومة وإيران وحتى تركيا، فهل لدى الإخوان استعداد للعب هذا الدور؟ بالتأكيد، لا، وحتى لو وجد بعض المنحرفين أو أصحاب الفهلوة الذين يحسبون أنهم يمكنهم خداع الصهاينة في صفوف الإخوان فإن إسرائيل تفضل مؤسسة متجذرة تحكم البلاد منذ عشرات السنين عليهم.

في ظل هذا الوضع كان الخيار أمام الإخوان هو الخروج بأقل الخسائر، وهم يمتلكون ورقة المعتصمين، وورقة تردد بعض الدول في الاعتراف بالانقلاب ونتائجه، ولكن كان هناك تصديق أو محاولة لتصديق مقولة "الانقلاب يترنح" أو "السيسي قتل ومن يظهر دوبلير" أو "هناك تمرد في قطاعات الجيش".. إلخ، تلك المخدرات الفكرية والتي ساهمت بعض المنابر الإعلامية التي اعتلتها شخصيات لا أشكك في صدق عاطفتها ولكنها حيدت المنطق والواقعية وانتهجت الأسلوب الشعبوي.

من جهة أخرى، بدأ بعض قادة الإخوان -خاصة ممن عملوا في حكومة الدكتور مرسي- بإجراء اتصالات مع جهات دولية لعل وعسى تتبنى روايتهم أو وعودهم، وهذا مضيعة للوقت الثمين الذي تبخر قبل إنقاذ ما يمكن إنقاذه، وذلك لسببين رئيسيين:

ما ذكرته آنفا وسأظل أردده كلما فتح هذا النقاش، وهو أن مصلحة إسرائيل مقدمة في ظل النظام الدولي المعاصر على الديمقراطية وتداول السلطة وحقوق الإنسان وكل هذه المصطلحات، وإسرائيل لا تريد الإخوان في السلطة، بل تريد اجتثاثهم.

الدول الغربية مثل أميركا وأوروبا الغربية يهمها مصالحها مع الدولة المصرية أولا وثانيا وعاشرا، والسيسي أظهر براعة في تقديم القرابين، وصفقة أسلحة أو اتفاقية تجارية في نظر هذه الكيانات الغربية أهم بمليون مرة من الإخوان ومن إرادة الشعب، أما روسيا والصين فهما أصلا لم تكونا تريدان إزاحة مبارك، وليس أسهل من الحصول على رضاهما بصفقات واتفاقيات، ومصر منطقة تحت النفوذ الأميركي منذ أيزنهاور.

يقال إن معرفة الداء هي نصف العلاج أو أكثر، والداء هنا ليس كما يقال عدم خبرة الإخوان في السياسة، وأنهم لم يفلحوا في فهم معادلة الجيش والمؤسسات، مع أن لهذا الكلام وجاهة ونسبة لا بأس بها من الصحة، ولكنه ليس الحاسم والمؤثر، بل أقول: فتش عن إسرائيل، وحين تعم القناعة بأن إسرائيل هي جذر المشكلات -عند الإخوان أولا بكونهم أكثر ضحايا الانقلاب تضررا، ثم عند بقية الأحزاب والنخب والشرائح الاجتماعية والسياسية- سيكون من السهل جعل هذه المرحلة تسجل في صفحات مطوية قصيرة ضمن سنوات الجدب.

وسوم: العدد 926