قطوف وخواطر: أرقامها من 521 إلى 540

عبد المنعم حليمة

قطوف وخواطر: أرقامها من 521 إلى 540

عبد المنعم مصطفى حليمة

" أبو بصير الطرطوسي "

www.abubaseer.bizland.com 

[email protected]

521- الكلمة الطيبة.

  ما أحوجنا جميعاً؛ كباراً وصغاراً ـ في تعاملنا مع بعضنا البعض .. ومخاطبتنا لبعضنا البعض ـ إلى أن نلتزم غرز الكلمة الطيبة .. وأن نقول الكلمة الطيبة .. وأن نسمع من الآخرين الكلمة الطيبة الرقيقة الرفيقة .. إذ كثير منا من يزهد بأثر وقيمة وفاعلية الكلمة الطيبة .. وهو لا يدري أن الخير كل الخير فيها!  

  للكلمة الطيبة وقع عظيم في النفوس .. وأثر سحريٌّ أخّاذٌ للقلوب .. تستحوذ بها على النفوس والقلوب، وتنال منها مالا تناله بغيرها .. فالذي تفعله وتنجزه الكلمة الطيبة لا تفعله ولا تنجزه الحروب .. ولا المخاصمات والمجادلات بالسوء من القول .. ولا الاستقواء بالباطل وأساليبه على تحصيل الحقوق.

  لو يعلم الشريرون فاعلية الكلمة الطيبة .. وما تنجز لصاحبها من أرباح ومكاسب وخير .. في الدنيا والآخرة .. لما التجأوا في حياتهم قط إلى كلمة خبيثة فاجرة كاذبة .. لكنهم لا يعلمون .. فيستبدلون الفحش والفجور من القول بالكلم الطيب من القول!

من أجل ذلك جاء التوجيه الإلهي بضرورة الالتزام بالكلم الطيب، وانتقاء أحسن القول، إذا تكلمنا وإذا استمعنا، كما في قوله تعالى:) وَقُل لِّعِبَادِي يَقُولُواْ الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ (الإسراء:53. وقال تعالى في صفات المؤمنين:) وَهُدُوا إِلَى الطَّيِّبِ مِنَ الْقَوْلِ وَهُدُوا إِلَى صِرَاطِ الْحَمِيدِ (الحج:24. وقال تعالى:) إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ (فاطر:10. وقال تعالى:) الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ أُوْلَئِكَ الَّذِينَ هَدَاهُمُ اللَّهُ وَأُوْلَئِكَ هُمْ أُوْلُوا الْأَلْبَابِ (الزمر:18.

نسأل الله تعالى أن يجعلنا وإياكم ممن يتحرّون ـ في كلامهم ـ أحسن القول وأطيبه .. وممن يستمعون القولَ فيتبعون أحسنه وأطيبه .. اللهم آمين.

* * * * *

522- علمانيّة من نوع آخر!

  ذهب رمضان وذهب معه الذين يعبدون الله في رمضان .. وخلت المساجد منهم .. وبقي أولياء الله تعالى الذين يعبدونه سبحانه وتعالى في جميع أشهر وأيام السنة؛ في رمضان وغير رمضان .. وهم القلة من بين الناس!

  هذه عادة قديمة جديدة .. تتجدد مع كل قدومٍ لشهر رمضان .. وكل مناسبة دينية .. حيث كثير من الناس يُقبلون على الله تعالى في المواسم فقط .. فإذا انقضت تلك المواسم .. أعرضوا ونأوا عن العبادة .. وعادوا إلى لهوهم .. ومشاغلهم .. وسيرتهم الأولى .. بعيداً عن ذكر الله تعالى وعبادته!

  وهذه علمانية من نوع آخر؛ إذ العلمانية تنص على أن يُعبد الله تعالى في المساجد، والمعابد وحسب .. وفيما يتعلق بالنسك والشعائر التعبدية ذات الطابع الشخصي فقط .. وما سوى ذلك من شؤون ومجالات الحياة الاقتصادية والاجتماعية والسياسية .. فهي لآلهتهم .. وقياصرتهم .. لا يصل منها شيء إلى الله .. ) فَقَالُواْ هَذَا لِلّهِ بِزَعْمِهِمْ وَهَذَا لِشُرَكَآئِنَا فَمَا كَانَ لِشُرَكَآئِهِمْ فَلاَ يَصِلُ إِلَى اللّهِ وَمَا كَانَ لِلّهِ فَهُوَ يَصِلُ إِلَى شُرَكَآئِهِمْ سَاء مَا يَحْكُمُونَ (الأنعام:136. كذلك هؤلاء ـ الذين يعرفون الله في المواسم والمناسبات فقط ـ قالوا ـ ولو بلسان الحال ـ: الله تعالى له من أشهر السنة وأيامها رمضان وحسب .. حقه علينا أن نعبده في المناسبات الدينية وحسب .. وما سوى ذلك من الأشهر والأيام فهي ليست لله تعالى .. لا حظَّ لله فيها .. وإنما هي للشركاء .. والأنداد .. والأهواء .. وهذا مناقض لقوله تعالى:) قُلْ إِنَّ صَلاَتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ . لاَ شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَاْ أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ (الأنعام:162-163.

  فهلاَّ تفطَّن الناس لهذا المعنى .. وعادوا إلى ربهم .. ورشدهم؟!  

* * * * *

523- تحية إكبار إلى أدباء وكتَّاب رابطة أدباء الشام.

تضم رابطة أدباء الشام عدداً كبيراً من الأدباء والكتاب النبلاء .. منهم العضو المؤسس .. ومنهم المشارك المساهم في رسالتها .. وعلى ما تقدمه أقلام هؤلاء الأدباء من عطاء مميز لأمتهم .. والناس أجمعين .. إلا أنني لم ألحظ تلك الكلمات الودية الرقيقة فيما بين الأدباء ذاتهم .. والموجهة من الأدباء إلى بعضهم البعض .. رغم وجود الحاجة الماسة لها .. فالكلمة الطيبة الرقيقة الأدبيّة التي تؤالف بين النفوس والقلوب .. وتسمو بالأرواح عالياً .. كلنا بحاجة إليها!

تمر المناسبات تلو الأخرى .. وتمر الأعياد تلو الأعياد .. مر الكرام .. من دون أن نلحظ هذا المستوى من التواصل المطلوب بين الأدباء ذاتهم، أو حتى نقرأ لأديب كلمةً يخص بها إخوانه الأدباء .. ممن هم معه، ويُشاركونه جهاده ورسالته .. وهذا من الجفاء الذي لا يليق بالأدباء .. فالأدب يُذكَر وتُذكر معه الرقّة والرحمة، والصِلَة، والرفق .. والسمو .. والشعور بالمسؤولية .. وكل خلقٍ حميد .. والأخوة الأدباء ـ في رابطة أدباء الشام ـ أهل لكل هذه المعاني النبيلة بإذن الله .. وهم جزء كبير من الأمل المنشود لهذه الأمة .. وأحسب هذا الجفاء فيما بينهم ـ المشار إليه أعلاه ـ ما هو إلا غفلة أو كبوة لفارس لا يقصدها .. استحقت منا هذا التذكير!

وأنا أكتب هذه الكلمات .. حدثتني نفسي قائلة: وما الذي يميزك عنهم .. تتحدث عن الجفاء .. والتواصل .. وأنت أكثرهم جفاءً .. فهلاّ رميت عليهم السلام مرة .. وهم أهل لكل تحية وإكرام وسلام؟!

على كثرة كلماتك .. ومقالاتك .. فأنت لم تخصهم بكلمة واحدة .. لا تتأستذ فتتكلم عن التقصير وأنت أول المقصرين وأكثر المقصرين تقصيراً!

حقاً إنني من المقصرين إن لم أكن أولهم .. أستغفر الله وأتوب إليه من كل تقصير أو جفاء بحق إخوة كرام فضلاء .. فلكم مني ـ يا أخوتي ـ كل حبٍّ وسلام .. وتقدير واحترام .. غفر الله لي ولكم .. والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

* * * * *

524- الأهم من الجامِعَة!

تحدثت وسائل الإعلام ـ بشيء من الابتهاج والتعجب ـ عن افتتاح جامعة جديدة ضخمة في إحدى الدول العربية الخليجية .. تبلغ مساحتها الكلية سبعاً وخمسين كيلو متر مربع .. كلف إنشاؤها مليارين ونصف المليار دولار .. تتمتع بكامل وأرقى التجهيزات والتقنيات التكنولوجية الحديثة!

قلت: الأهم من هذا كله .. هي العقلية الإدارية التي تُدير هذه الجامعة .. والكادر العلمي الذي يُشرِف على عملية التعليم والتدريب .. فإن كان مستواه عالياً وجيداً .. وكان مخلصاً في عطائه .. أعطت هذه الجامعة ثمارها .. ورُوجي عطاؤها .. وإن كان مستواه متخلفاً دون المطلوب .. فلن تُعطي هذه الجامعة عطاءها المرجو .. ولن يكون لها أي دور إيجابي في تقدم البلاد والعباد .. وهي حينئذٍ لا تعدو أن تكون مجرد عمارة أو بناء .. كأي عمارة تطاول القوم في بنيانها، وتفننوا وأسرفوا في إنشائها!

* * * * *

525- كتمانُ العلم.

  لكتمان العلم، صور عدة:

  منها: تعمد إخفاء العلم، وحجبه، ومواراته عن الأنظار والأفهام .. وهذه صورة فاضحة لكتمان العلم  .. يعلمها القاصي قبل الداني.

  ومنها: تعمد الاستدلال الخاطئ بنص منفرداً لا يكتمل معناه الصحيح إلا إذا أضيف إلى ما قبله وما بعده من نصوص .. فيعطي بذلك معناً لا يريده النص .. ونحوه الذي يتعمد الاستدلال بجزء من النص لا يتضح معناه الصحيح إلا إذا أضيفت إليه كامل أجزائه المقتطعة والمحذوفة!

  ومنها: الاستدلال بالمتشابه على المحكم، وجعل المتشابه حكماً على المحكَم .. وتبعاً له، دون العكس .. وما أكثر العلوم التي يُتكتّم عليها بهذا الأسلوب الخبيث!

  ومنها: تعمد الاستدلال بالنص وتنزيله على غير واقعه ومسائله؛ فيكون مثله مثل من يضع الشيء في غير موضعه .. كمن يستدل بالآيات التي قيلت في المؤمنين فيحملها على الكافرين .. أو الآيات التي قيلت في الكافرين فيحملها على المؤمنين!

  ومنها: الذي يكتم حقاً ـ من غير مانعٍ شرعي معتبر ـ في مواضع يتعيّن فيها البيان والإظهار .. لهوى في النفس أو لغرض من أغراض الدنيا!

  ومنها: أن يكون البيان مشروطاً بعَرَضٍ من الدنيا .. فإن توقف العطاء أو الأجر توقف وأمسك عن بيان الحق وبذله للناس!

  ومنها: تعمد تحميل النص مالا يحتمله من المعاني ـ لهوى في النفس أو لغرض من أغراض الدنيا ـ والذي يكون ـ في الغالب ـ على حساب معناه الصحيح!

  ومنها: تعمد تصحيح الضعيف، وتضعيف الصحيح من الأدلة .. فيُحِق بذلك باطلاً، ويُبطل حقاً؛ وما أكثر هؤلاء الذين يسلكون هذا المسلك الخبيث!

  ومنها: أن يُشهَد ـ عن سابق علم ـ على المحسن بأنه مُسيء، وعلى المُسيء بأنه محسن!

  ومنها: أن يُشهَد بالزور على معيّن بأنه قد فعل شيئاً .. وفي حقيقته لم يكن قد فعل ذلك الشيء!

  ومنها: أن تُكتَم الشّهادة في المواضع التي يتعين بيانها .. وبذلها .. والتي بكتمانها يبطل الحق .. ويحق الباطل!

  كل هذه الصور من الكتمان والاحتيال .. تندرج في خانة ومعنى كتمان العلم الذي يطال صاحبه الوعيد ـ بحسب درجة ونوع كتمانه ـ الوارد في قوله تعالى:) إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنزَلْنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى مِن بَعْدِ مَا بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الْكِتَابِ أُولَئِكَ يَلعَنُهُمُ اللّهُ وَيَلْعَنُهُمُ اللَّاعِنُونَ (البقرة:159. وقوله تعالى:) إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنزَلَ اللّهُ مِنَ الْكِتَابِ وَيَشْتَرُونَ بِهِ ثَمَناً قَلِيلاً أُولَئِكَ مَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ إِلاَّ النَّارَ وَلاَ يُكَلِّمُهُمُ اللّهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلاَ يُزَكِّيهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (البقرة: 174. 

  وفي الحديث، فقد صحَّ عن النبي r أنه قال:" ألا أنبئكم بأكبر الكبائر " قلنا: بلى يا رسول الله، قال:" الإشراك بالله، وعقوق الوالدين ـ وكان متكئاً فجلس ـ فقال: ألا وقول الزور، وشهادة الزور، ألا وقول الزور، وشهادة الزور "؛ فما زال يكررها حتى قلنا: ليته سكَت! متفق عليه.

  وقول الزور؛ منه ما يتعلق بإثبات أو إحقاق باطل، ومنه ما يتعلق بنفي أو إبطال حق .. فهذا كله من قول الزور، وشهادة الزور، والعياذ بالله.

واعلم أن صور كتمان العلم كلها سيئة وخطيرة على صاحبها .. لكن أخطرها وأسوأها .. من كان كتمانه متعلقاً بالعقيدة والتوحيد .. أو كان على حساب بيان معاني العقيدة والتوحيد .. والتحذير من الشرك ودروبه الموصلة إليه .. أعاذنا الله وإياكم من جميع ضروب وصور كتمان العلم .. ما ظهر منها وما بطن .. وما كبر منها وما صغر .. اللهم آمين. 

* * * * *

526- من الحكمةِ والعقل.

  من الحكمة والعقل أن لا ترمي بمشاكلك بين يدي من لا تعنيه ولا تهمه مشاكلك في شيء .. أو بين يدي من لا يُحسِن أن يُعينك في شيء على قضاء حوائجك، وحل مشاكلك .. أو بين يدي من لا يعنيه من مشاكلك سوى أن يتلذّذ بأخبارك ومعاناتك، ويجعل منك ومن مشاكلك مادة للسَّمَر في مجالسه مع أخلائه وأقرانه .. أو بين يدي من لا يعنيه من مشاكلك سوى كيف يسترزق ويأكل بها .. ومن يأبى إلا أن يفعل .. يذل نفسه .. ويكون مثله مثل من يرمي زرعه في البحر .. ثم ينتظر عطاءَه وثمره .. وأنَّى!

* * * * *

527- من الإيمان والتَّقوى.

  من الإيمان والتقوى .. والمروءة والرجولة .. أن لا تنتصر لمظلمتك .. بالظلم والزور والباطل .. مهما نازعتك نفسك على حب التشفي والانتقام.

  أحياناً ـ لحكمة يريدها الله ـ قد تفقد ـ في مرحلة من المراحل ـ خيار الانتصار لمظلمتك وحقك عن طريق الحق .. ولم تبقَ أمامك ـ للانتصاف لمظلمتك ـ سوى الخيارات الباطلة الظالمة .. فيزينها الشيطان لك .. ويُجرّئك على اقتحامها .. وورودها .. ويُريك أن حقك لا يمكن أن تتحصل عليه إلا من خلالها .. وبعد عبورها وامتطاء مزالقها .. والتلبّس بها .. وهذا من البلاء الشديد الذي لا يقوى على مواجهته إلا المؤمنون الأتقياء!

فحذار ـ يا عبد الله ـ أن تقتحم غمار تلك الخيارات الباطلة أو أن تستعين بها على تحصيل حقوقك .. مهما دعتك الحاجة إلى ذلك .. أو اشتدت عليك المحن .. أو نازعتك نفسك على التشفي والانتقام .. وعلى الاستعجال بالظفر .. واعلم حينئذٍ أنك مُبتلى .. وأن الله تعالى ناظر إليك ماذا ستفعل .. وماذا ستختار .. فاحذَر أن يراك حيث لا يُحب ولا يرضى .. فتسقط ـ حينئذٍ ـ من عين الله .. وتخسر توفيقه وعونه لك .. ويدَعك ونفسك وشيطانك وخياراتك الباطلة .. لتتخبّط فيها .. وتُصبح ظالماً مدحوراً بعد أن كنت مظلوماً منصوراً؛ لك من الله نصير وأنت لا تدري .. وقد خاب وخسر من تخلَّى الله تعالى عنه .. وتركه لنفسه وشيطانه وباطله!

* * * * *

528- لا تُصدِّقوه ..!

من رأيتموه يرفع راية الجهاد في سبيل الأوطان .. والجدران .. بينما يُعرِض صفحاً عن الجهاد في سبيل الله من أجل إقامة شرعه في الأرض .. فيُعظّم من شأن الجهاد الأول .. ويستخف ويقلل من شأن الجهاد الثاني .. فمن وجدتموه يفعل ذلك فلا تصدقوه .. فلا هو أمين على الأوطان .. ولا على ساكني الأوطان .. فمن لا يُستأمَن على دين الله لا يُستأمَن على أرضٍ أو عِرض .. ومن فرَّط بحق دين الله عليه .. فهو بحق الأوطان والأعراض أشد تفريطاً وضياعاً!

كذلك من رأيتموه يُفرّق بين جهاد الأجنبي المستعمر الغازي .. وبين جهاد عملاء الأجنبي المستعمر الغازي من بني جلدتنا .. فيوجب جهاد الفريق الأول .. ويُحرّم ويُجَرّم جهاد الفريق الثاني؛ والذين هم أشد كفراً وجرماً بحق الأمة، والإسلام والمسلمين .. من الفريق الأول .. ويعتبر جهاده من العنف والطيش الذي لا يُجدي نفعاً .. وأنه نوع من الخروج على الولاة الشرعيين .. فهذا كذلك لا تُصدقوه .. فهو كاذب؛ إذ لو أراد أن يُجاهد العدو الأجنبي المستعمر .. لأراد جهاد أعوان وعملاء وأنصار العدو الأجنبي المستعمر؛ الذين يقفون سداً منيعاً، وعقبة كأداء أمام مواجهة وجهاد العدو الأجنبي الغازي؛ المستعمر للبلاد والعباد .. والذين ـ في كثير من الأحيان ـ يُقاتلون بالنيابة عن العدو الأجنبي .. وفي سبيل مصالح ومآرب العدو الأجنبي .. وما لا يتمّ الواجب إلا به لا خلاف على وجوبه.

قال تعالى في شأن جهاد الزنادقة المنافقين من بني جلدتنا الذين ينتمون إلى الأمة في الظاهر والكلام .. وإلى أعدائها في الباطن والفعل .. وفي كثير من الأحيان ـ كثير منهم ـ ينتمون إلى أعدائها في الباطن والظاهر سواء:) قُلْ هَلْ تَرَبَّصُونَ بِنَا إِلاَّ إِحْدَى الْحُسْنَيَيْنِ وَنَحْنُ نَتَرَبَّصُ بِكُمْ أَن يُصِيبَكُمُ اللّهُ بِعَذَابٍ مِّنْ عِندِهِ أَوْ بِأَيْدِينَا فَتَرَبَّصُواْ إِنَّا مَعَكُم مُّتَرَبِّصُونَ (التوبة:52.

* * * * *

529- فهو لِصٌّ ..!

مَن رأيتموه يقترب من الطغاة الظالمين .. يعتاد أبوابهم .. ويستشرف عتباتهم .. ويطوف حول عروشهم .. وقصورهم .. يُداهنهم .. ويُجادل عنهم .. ويُجالسهم .. ويُؤاكلهم .. ويستعطفهم العطاء .. فهو لِص كبير .. أشر من لص الدرهم والدينار؛ لا يُستأمَن على دين .. ولا على أرض أو عِرض ... فاحذروه .. كائنٌ من كان!

قال رسولُ الله r:" سيكون أمراء تعرفون وتُنكرون من خالطهم هلَك ". وقال r:" إيّاكم وأبواب السلطان؛ فإنه قد أصبحَ صعباً هبوطاً ".

وقال r:" من أتى أبوابَ السّلطان افتُتِنَ، وما ازدادَ أحدٌ من السلطان قُرباً إلا ازداد من الله بُعداً ". هذا فيمن يأتي أبواب السلطان .. فكيف إذا كان هذا السلطان من الطغاة الظالمين الآثمين؟!

وفي الأثر، عن سعيد بن المسيب، قال:" من رأيتموه يعتاد أبوابَ السلاطين، فهو لِصٌّ "!

* * * * *

530- لا تتباكوا على بيت المقدس ..!

للصهاينة اليهود أطماع توسّعية شريرة في بيت المقدس .. فهذا أمر معلوم .. متوقع منهم .. يعلمه القاصي والداني عنهم .. لا ينبغي أن نفاجأ إن حصل منهم نوع اعتداء على بيت المقدس!

ولكن الشيء الذي يشتد له العجب .. ويندى له الجبين .. أن نفراً من مثقفي بني جلدتنا .. منهم شيوخ ودعاة .. يستميتون في الجدال عن طغاة ظالمين متنفذين .. يُضفون عليهم الشرعية .. ويُخاطبونهم بولاة الأمر .. ويجرّمون ويُؤثّمون من يرى جهادهم والخروج عليهم .. مع علمهم المسبق أن هؤلاء الولاة لأمورهم قد خذلوا بيت المقدس .. وأهل بيت المقدس .. وباعوه وأهله بثمن بخس للصهاينة اليهود .. ثم قاموا بحراسة عدوان الصهاينة اليهود على بيت المقدس .. ومنعوا الشعوب المسلمة من أن تقوم بواجبها .. وأن تأخذ طريقها نحو تحرير بيت المقدس .. ثم هم مع ذلك ـ وبعد كل ذلك ـ لا يستحون؛ ففي كل مناسبة اعتداء على بيت المقدس .. تراهم يتصايحون .. ويتباكون .. ويكتبون الأشعار في بيت المقدس، وأهل بيت المقدس!!

خذلوا الجهاد والمجاهدين ـ الذين من غاياتهم حماية بيت المقدس .. وتحرير بيت المقدس من أيدي الصهاينة اليهود ـ وتآمروا عليهم .. وعلى قتلهم .. وتسليمهم للطغاة الظالمين .. ونفَّروا الأمة عنهم وعن نصرتهم .. ثم بعد ذلك ـ لا يستحون ـ فيتباكون ويتزارفون الدموع الكاذبة ـ كدموع التماسيح ـ على بيت المقدس كلما حصل له نوع اعتداء من الصهاينة المعتدين!

ما نفع وقيمة تلك المهرجانات الغنائية التي تتباكى على بيت المقدس .. وما قيمة تلك القصائد الشعرية التي تُقال في بيت المقدس .. إذا كان نفس هؤلاء الذين يصنعون تلك المهرجانات .. ويكتبون تلك القصائد .. قد قاموا بالأمس القريب ـ بين متواطئ ومنفّذ وراضٍ ـ بقتل صفوة من شباب التوحيد والجهاد .. وهم في بيت من بيوت الله .. لا ذنب لهم سوى أن من غاياتهم تحرير بيت المقدس .. وقيام دولة للإسلام في بيت المقدس وأكناف بيت المقدس؟!

كفوا دموعكم أيها الدجاجلة الكذابين .. ووالله لدموعكم الكاذبة أثقل على الحق .. وأهل الحق من عدوان الصهاينة ذاته .. لا تتباكوا على بيت المقدس .. فبيت المقدس منكم براء .. نسأل الله تعالى أن يكشف خفاياكم، ويفضح نواياكم .. وقد ظهر منها الكثير، ولله الحمد!

* * * * *

531- المنافق والزنديق.

المنافق: هو الذي يُضمِر الكفر، ويُظهر الإسلام فَرَقاً من سطوة وسلطان أهل الحق عليه. وعلامته الدالة عليه وعلى نفاقه: إذا حدَّث كذَب، وإذا وعَدَ أخلَف، وإذا عاهد غدَر، وإذا أؤتمن خان، وإذا خاصم فجَر .. فمن عُرِف بهذه الصفات مجتمعة .. كان منافقاً خالص النفاق .. ومن كانت فيه خصلة منهن، كانت فيه خصلة من خصال النفاق حتى يدَعها!

والمنافقون يتكاثرون في المجتمعات التي يكون فيها للمسلمين شوكة وقوة وسلطاناً.

أما الزنديق: فهو الذي يُظهر الإسلام والكفرَ معاً؛ يُظهر الإسلام حيثما يستدعي الموقف منه ذلك، وحيثما يختلط بأهله .. ويُظهِر الكفر حيثما يختلط بأهله .. ويخلو له الجو .. وكلما سمحت له الفرصة بذلك .. وأمِن سطوة أهل الحق وسلطانهم عليه .. ثم يُعرَف عنه ذلك ويَشتهر .. فإن رُوجِع فيما بدر منه من كفر .. أنكر وجَحد .. وتأوّل لكفره؛ وأنه أرادَ شيئاً آخر غير الذي فُهِم أو نُقِل عنه .. وأن الناس لم يفهموا مراده .. لينجو من المؤاخذة والمحاسبة .. وحتى لا يتوب أو يُستتاب .. وهؤلاء ما أكثرهم في زماننا .. وهم طابور خبيث خطير في جسد الأمة؛ أخطر عليها من عدوها الصريح .. وهم عادة يتكاثرون في المجتمعات التي يأمنون فيها على أنفسهم من سطوة وقوة الإسلام والمسلمين .. وتكون الشوكة والغلبة فيها لغير المسلمين!

* * * * *

532- إذا أردتَ أن تُذكَر باسمك عند الله.

إذا أردت أن تُذكَرَ ـ يا عبدَ الله ـ باسمك عند الله تعالى في السماء فأكثِر من ذِكر الله تعالى في الأرض .. أكثر من التسبيح، والتهليلِ، والتحميد .. فإنها تُذَكّر بك عند الله تعالى على قدر ما تُكثِرُ منها، كما في الحديث، فقد صح عن النبي r أنه قال:" إن مما تذكرون من جلالِ الله؛ التسبيحُ والتهليلُ والتحميدُ، يَنعطِفن حولَ العرشِ؛ لهنَّ دوي كدوي النحل، تُذكِّرُ بصاحبها، أما يُحبُّ أحدُكم أن يكون له ـ أو لا يزال له ـ من يُذكِّرُ به ". وفي رواية:" ألا يحبُّ أحدُكم أن لا يزال له عند الرحمن ما يُذَكِّرُ به ".

ما أجمله وما أعظمه من معنى إن تدبّرناه " إنها تُذكِّرُ بصاحبها " عند مَن .. عند مالِك الملْك والملوكِ .. وخالق الخلق سبحانه وتعالى .. وإلى أن تقوم الساعة .. ثم ـ يا ترى ـ ماذا تقول عن صاحبها .. وكيف تَذْكره وتُذَكِّر به وباسمه .. ومعها وبجوارها ما لا يُحصيه إلا الله تعالى من التسابيح والتهاليل والتحاميد .. كل منها لها صاحبها تُذكِّر به .. وكأن كل ذِكْرٍ لا همَّ له سوى صاحبه؛ كيف ينجو .. وكيف تطاله الرحمة .. وكيف تُدركه المقامات العليا .. وكيف يلتمس له العفو عند ربه!

كأني بهذه الأذكار .. تُزاحِمُ بعضها بعضاً وهنَّ ينعطِفنَ حول عرش الرحمن .. كل منها تقول: يا رب صاحبي صاحبي .. كذلك صاحبي صاحبي يا رب .. اسمه كذا وكذا .. ارحمه يا رب .. واعفُ عنه .. واغفر له .. أجره من عذابك .. وأدخله جنَّتَك.

* * * * *

533- هَوْنَاً مَا ..!

هوناً ما إذا أحببت .. وهوناً ما إذا أبغضت .. وهوناً ما إذا سالمت وواليت .. وهوناً ما إذا عاديت وتبرأت .. وهوناً ما إذا خالطت .. وهوناً ما إذا اعتزلت وقاطعت .. وهوناً ما إذا أقبلت .. وهوناً ما إذا أدبرت وخاصمت .. وهوناً ما إذا وصفت وقدَّرت .. وهوناً ما إذا مدحتَ وأطريت .. وهوناً ما إذا ذمَمتَ وقبَّحت .. وهوناً ما إذا حكمت على الأشياء والآخرين .. فلا يحملنّك الهوى على المبالغة والشّطط في التوصيف .. ومن ثم إصدار الأحكام على توصيفك الذي يفتقد رصيده من المصداقية والواقع .. ولا يكون موجوداً إلا في خيالك وظنّك الخاطئين .. فتظلِم وتُظلَم.

كم من مُتشابَه ـ بسبب المبالغة ـ يُنظَرُ إليه على أنه محكم .. وكم من مُحكم يُنظَرُ إليه على أنه مُتشابَه .. وكم من ظنٍّ يُنظر إليه على أنه يقين .. وكم من يقينٍ يُنظر إليه على أنه ظني .. وكم من قبيحٍ يُنظَر إليه على أنه جميل، وكم من جميلٍ يُنظَرُ إليه على أنه قبيح .. وكم من سُنّةٍ يُنظَرُ إليها على أنها بدعة .. وكم من بدعةٍ يُنظَرُ إليها على أنها سُنَّة .. وكم من معصية يُتعامَل معها على أنها كفر .. وكم من كفر يُتعامَل معه على أنه معصية دون الكفر .. وكم من عاصٍ يُتعامَل معه على أنه كافر .. وكم من كافر يُتعامَل معه على أنه عاصٍ .. وكم من منكَرٍ يُستحسن إنكاره بالكلمة الطيبة الهادئة .. وعلى طريقة ما بالُ أقوامٍ .. فينكر باليد وبكثير من الشدة والغلظة .. وكم من دم حرام سُفِك .. كان حقه أن يُصان ويُحترَم .. وهذا كله بسبب مرض المبالغة المتفشي في التوصيف والحكم على الأشياء .. والبعد عن آداب وفقه " هوناً ما "!

وفي الحديث فقد صحَّ عن النبي r أنه قال:" أحبِب حبيبَك هَوْناً ما عسى أن يكون بغيضَك يوماً ما، وأبغِض بغيضَك هوناً ما عسى أن يكون حبيبكَ يوماً ما ".

وقال r:" أبغض عدوَّك هوناً ما، عسى أن يكون حبيبك يوماً ما ".

وقال r:" زُرْ غِبَّاً تَزدَد حُبَّاً ". أي ليكن بين الزيارة والزيارة أياماً؛ فهذا أشوَق وأحب للزائر والمُزار. قال الحسَن: في كل أسبوع.

وعن عمر بن الخطاب رضي الله عنه، قال:" لا يَكُن حُبُّك كَلَفاً، ولا بُغضُك تَلَفَاً، قِيل: كيف ذلك؟ قال: إذا أحببتَ كلفتَ كلَف الصبي، وإذا أبغضْتَ أحببتَ لصاحبك التّلَف ".

* * * * *

534- أسوأ من خالَطتُ وعرفت!

قد خالطتُ كثيراً من الناس .. وتعرّفت على طبائع شعوب كثيرة .. ومن بقاعٍ شتَّى .. فكان أسوأ من خالطت وعرفت؛ مَن إذا كان في موقف المحتاج الضعيف تذلّل .. وتواضع .. وتباكَى .. وتمسْكَن .. وأخفض من رأسه وصوطه .. حتى كأنه والأرض سواء .. فإن استقوى وحصل على حاجته ومراده .. واستغنى ..  انتفَش وطغَى واستكبر .. وظلمَ وبَغى .. وسَطَا .. وكفَرَ النعمة، وأنكَرَ الجميل .. ورَفع رأسه ويدَه .. وعلا صوته .. وكأنه لم يكن هو ذاك الذي كان يتذلّل ويتمسْكن قبل أن يحصلَ على مُراده أو أن يغنى!

في موقف الحاجة والاستضغاف .. ينشد الرحمة .. وفي موقف ـ أو مرحلة ـ الاستقواء والاستغناء .. يسخَر من الرحمة، وممن ينشده الرحمة .. وكأنه لم يسألها من قبل!

وكونه الأسوأ؛ لأن من عُرِف بهذا الطبع الخسيس اللئيم، لزمه ـ ولا بد ـ التلبس بجملة من الأخلاق الرديّة، منها: الكذِب .. والغش .. والغدر .. والخيانة .. والفجور .. والظلم والبغي .. والجحود .. وكُفران النعمة والمعروف .. والزور .. والتشبُّع بما لم يُعطَ وما ليس فيه .. وواحدة من هذه الأخلاق الرديّة كفيلة بتدمير صاحبها .. فكيف لو اجتمعت عليه كلها .. فحينئذٍ لا تسأل عن درجة هلكته وخُسرانه!

* * * * *

535- لا تُجرِّئ زوجتَكَ عليك.

من الأزواج من تراه يطمَع بحسنِ أخلاق زوجته .. وحسن منبتها ونشأتها .. وتعلّقها به .. وأن أخلاقها تُلزمها بمعرفة حق الزوج عليها .. فيحمله ذلك على التمادي في إهانتها .. وإهمالها .. وشتمها وشتم أهلها .. وتحقيرها .. وضربها .. وإذلالها .. وظلمها .. بسبب وبدون سبب .. ثم هو مع ذلك مَثَلٌ سيء لها؛ فلا يُريها منه إلا ما يُسيء ويُعِيب من الأخلاق الرديَّة!

ولهذا النوع من الأزواج أقول: لا تُجرّئ زوجتكَ عليك .. وتزهِّدها بك .. واعلم أن لطاقتها في الصبر والتحمل حدود .. ثم هي ـ بعد ذلك ـ إن أفَلَ إعجابها بك .. وردَّت عليك بعض ظلمك وبغيك .. وبِضاعتك .. فبما كسبَت يداك، ولا تلومَنَّ إلا نفسَك!

* * * * *

536- لِذّةُ الاعتذار عن الخطأ ..!

للاعتذار عن الخطأ .. والرجوع إلى الحق .. وطلب السماح ممن أخطأت معهم وبحقهم .. والتواضع للإخوان .. لِذّة عظيمة .. تعلو لِذة الانتصار للنفس أو للحق بالباطل عشرات المرات .. لكن هذه اللذة لا يعرف طعمها ولا لونها من أُصيب بلوثة الكبر والتعالي على الخلق!

أكتب إليكم هذه الكلمات بعد خطأ وقعت فيه بحق أحد الإخوان الفضلاء .. حيث أنني أنكرت عليه خطأً قد وقع فيه بشدّة لا يستحقها الأخ .. ولا خطؤه .. فلما انصرفت أدركت ذلك من نفسي .. وأنني قد بالغت في الإنكار .. وأنني قد أنكرت خطأ بخطئٍ أكبر منه .. فآلمني ذلك جداً .. واعتلى صدري همٌّ وغَمٌّ وحزن لا يعلمه إلا الله .. فقصدت الأخ للاعتذار منه إلا أنني ـ بعد يومين من البحث عنه ـ لم أجدْه .. مما زاد من همي وحزَني وقلقي .. فالتجأت إلى الله تعالى بالدعاء بأن يُريني إياه في أقرب ساعة .. فاستجاب الله تعالى ـ ولله الحمد ـ الدعاء .. فلما اعتذرت من الأخ .. وقبّلت رأسَه .. وقَبِل الأخ ـ مشكوراً ـ الاعتذار .. كأنَّ جبلاً قد انزاح عن صدري .. ووجدت على إثرها من اللذة والراحة والطمأنينة ما يصعب عليَّ وصفه بهذه الكلمات .. جربوا إن شئتم وكنتم في شَكٍّ من ذلك!

صدقَ رسولُ الله r حيث قال:" ما تواضع أحدٌ لله إلا رفعه الله " مسلم.

وقال r:" ما من آدمي إلا في رأسه حِكمة بيد ملَك، فإذا تواضَع قيل للملَك ارفع حكمَتَه، وإذا تكبَّر قيل للملَك ضَع حِكمَتَه ".

وكتبَ عمر إلى أبي موسى الأشعري رضي الله عنهما:" لا يمنعك قضاءٌ قضيتَه، ثم راجعتَ فيه نفسَك، فهديتَ لرشدك أن تنقضَه؛ فإن الحقَّ قديمٌ لا ينقضه شيءٌ، والرجوع إلى الحقِّ خير من التمادي في الباطل ".

اللهمَّ اجعلنا ممن تهون عليهم أنفسهم في الرجوع إلى الحق .. وإنصاف الحق .. اللهمَّ آمين.

* * * * *

537- مثَلُ المنافق في التحاكم إلى شرعِ الله تعالى.

مَثَلُ المنافق في التحاكم إلى شرع الله تعالى؛ إن وجد أن الشَّرعَ يحكمُ له أقبَلَ على التحاكم إلى شرع الله .. وعظَّمَ شرعَ الله .. وأظهرَ رغبة عجيبة في التحاكم إلى شرعِ الله تعالى .. لا لإيمانه بوجوب التحاكم إلى شرع الله، وإنما لما سيناله من حَظٍّ بسبب التحاكم إلى الشرع .. وإن وجدَ أن الشرعَ يحكم عليه .. ولَّى وأدبَر .. وأعرَض .. ونأى بجانبه .. وأظهر استخفافاً بحكم الله .. وأقبل في التحاكم إلى الطاغوت .. وعلى هذا وأمثاله يُحمَل قوله تعالى:) فَلاَ وَرَبِّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ حَتَّىَ يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لاَ يَجِدُواْ فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجاً مِّمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُواْ تَسْلِيماً (النساء:65. وقوله تعالى:) أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللّهِ حُكْماً لِّقَوْمٍ يُوقِنُونَ (المائدة:50.

* * * * *

538- مما يُعِين على الإمساك عن الغِيبة!

تأمَّلتُ الأسبابَ التي تحمِلُ المرءَ على أن يغتابَ الآخرين .. فوجدت أعظمَها وقوع الآخرين بخطئٍ يتعلَّق بالمستَغِيب .. فلا هو يُراجعهم بخطئهم نحوه .. ولا هو يُمسِك عنهم فيُسامحهم .. أو يُرجِئ أمرهم إلى الله .. وإنما يظل يغتابهم الزمن الطويل .. ويذكر ما كان منهم نحوه .. وتحت الغضب والانتصار للنفس .. لا يتورَّع من أن يزيد عمّا كان منهم نحوه .. فيظلِم ويُظلَم .. ويمنحهم من حسناته أضعاف أضعاف ما له عليهم .. ولو أسرعَ بمفاتحتهم ومكاشفتهم بما كان منهم من خطأ نحوه .. وانتصفَ لحقه منهم أو عفا عنهم .. لأراح واستراح .. ولما وجدَ في نفسه حاجة للغيبة أو أن يغتاب أحداً.

المكاشَفَةُ .. المكاشفة .. حَلٌّ لكثير من الخلافات الشَّخصية!

* * * * *

539- عَلِمُوا التفاصيل، وجَهِلُوا الغاية! 

عَلِمُوا التفاصيل، وجهلوا الغاية .. مثلهم علماء الطِب، والطبيعة، والفلك من الكافرين .. حيث علموا تفاصيل ودقائق الأمور عن النفس البشرية .. وعن الفلك .. وعن الطبيعة .. تخضع لها العقول وتنبهر لها الأنفس .. تكلموا وخاضوا في جزئيات دقيقة جداً عن الكون والنفس والطبيعة .. كل جزئية منها تدل دلالة قطعية على أنه لا إله إلا الله .. كما قال تعالى:) سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الْآفَاقِ وَفِي أَنفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ (فصلت:53. ومع ذلك جهلوا الغاية من وجودها .. ومَن أوجدها .. وحفِظها إلى قدَرٍ معلوم .. وأذِن لها في أن تعمل عملها .. وما لموجدها من حقِّ على العباد .. وأن يشكروه ولا يَكفُرُوه .. وما زادتهم اكتشافاتهم واطلاعاتهم إلا كِبْراً وإعراضاً .. صدق الله العظيم:) وَمَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُواْ كَمَثَلِ الَّذِي يَنْعِقُ بِمَا لاَ يَسْمَعُ إِلاَّ دُعَاء وَنِدَاء صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لاَ يَعْقِلُونَ (البقرة:171. وقال تعالى:) وَالَّذِينَ كَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا صُمٌّ وَبُكْمٌ فِي الظُّلُمَاتِ (الأنعام:39. وقال تعالى:) لَهُمْ قُلُوبٌ لاَّ يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لاَّ يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آذَانٌ لاَّ يَسْمَعُونَ بِهَا أُوْلَئِكَ كَالأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُوْلَئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ (الأعراف:179. هذا التوصيف ينطبق على علمائهم أكثر مما ينطبق على جهَّالهم؛ لأن الجاهل جاهل .. أما العالم منهم جاء جهله بعد علم ومعرفة!

* * * * *

540- أنواعُ السّائلين ..!

السائلون أنواع: منهم من يسأل استرشاداً وطلباً للحق .. للعمل به .. وهذا على العالِمِ أن يتواضَع له .. ويُقبِل عليه .. ويُجيبه عن مسألته .. ما أمكنه لذلك.

ومنهم: من يسأل لمجرد الاطلاع .. وتوسيع المعرفة .. وحاجة هذا أقل من سابقه .. إن وجد العالم له متَّسعاً من الوقت أقبل عليه وإلا تركه.

ومنهم: من يسأل فتنة .. وطلباً للفتنة .. والوقيعة بالعالم .. وعلى وجه الاستدراج .. فهذا على العالِم أن يُعرِض عنه وعن مسألته .. فلا يُجيبه في شيء!

ومنهم: من يَعلَم حرمة ما يقترفه من عمل .. ومع ذلك تراه يبحث عن عالم يرخّص له ويجيز له ما يقترفه من وزر .. ليرمي عليه تبعات وزره .. وليستريح من وخز الضمير الذي يُلاحقه .. ويقول: الشيخ فلان قد أفتاني بالجواز .. فإن كنتُ مخطئاً فهو يبوء بإثمي وإثمه يوم القيامة .. وأنا ما أردت إلا ذلك .. وهذا أيضاً على العالم أن يتنبّه لمراده .. فيُعرِض عنه وعن مسألته .. ويزجره عما يسعى إليه .. وما أكثر الذين يسألون على هذا الوجه والمقصد .. وما أكثر الذين يفتونهم ويتفاعلون مع مسائلهم من مشايخ هذا العصر!

والعالِمُ الفطِن هو العالم الذي يُحسن التمييز بين أنواع السائلين .. ويعرف كل سائلٍ ومراده .. ومدى حاجته لما يسأل عنه .. ويُعامل كلَّ سائل بما يستحق!

* * * * *

541- يتبع في الصفحة التالية إن شاء الله.