أب

عمر بهاء الأميري

  أب

    من ديوان: "أبوة... وبنوة"

للأستاذ عمر بهاء الأميري

"كان الشاعر مع أولاده الثمانية، وعدد كبير من أفراد أسرته في مصيف "قرنايل" في لبنان، ثم سافروا جميعاً، بسبب افتتاح المدارس، وبقي وحده، في خلوةٍ شعريةٍ خصبةٍ، كانت طليعتها القصيدة التصويرية الوجدانية التالية، التي لا نعرف لها نظيراً في الأدب العربي"

أيــن الـضـجـيج الـعـذبُ والـشـغبُ؟       أيـــن الـتـدارسُ شــابـَـهُ اللــعـبُ ؟

أيــن الـطـفـولــةُ فــي تـوقُّـدِهـا؟       أيــن الــدُّمــى فـي الأرضِ والـكُـتُـبُ ؟

أيــن الـتـشاكُــسُ دونَـمــا غَــرَضٍ ؟     أيــن التـشـاكــي مــا لــهُ سَـبَـبُ ؟

أيــن التـباكـي والـتضـاحُــكُ، فـــي      وَقْــتٍ مـعــاً ، والـحُــزنُ والـطَـرَبُ ؟

أيــن الـتسـابُــقِ فــي مُـجـاورَتــي      شَـغَـفَـاً ، إذا أكــلوا وإنْ شـــربـــوا ؟

يَـتَـزاحـمـونَ عــلـى مُــجالـسـتِـي       والــقُــربِ مِـنِّـي حـيـثُـمـا انـقَلَـبوا

يتوَجَّــهــونَ بـسَــوقِ فِــطْـرتِــهم       نَـحْــوي إذا رَهــبـوا وإن رَغـــبــوا

فـنـشـيدُهُــم "بــابـا" إذا فَــرحــوا      ووعـيـدُهُـم "بــابــا" إذا غَــضِـبــوا

وهـتـافُـهُـم "بــابــا" إذا ابـتَـعــدُوا      ونَـجِـيُّهُـم "بــابــا" إذا اقــتَــرَبُـوا

*    *    *

بــالأمــس كـانـوا مِـلءَ مـنـزِلِـنــا      والـيـومَ - ويــح الـيـوم - قـدْ ذهـبُـوا

وكـأنَّمــا الـصـمـتُ الـذي هَـبَـطـتْ       أثقـالُــه فــي الــدارِ إذ غَــرَبُــــوا

إغــفــاءةَ المَـحْــمُـومِ هَــدْأتُـهــا       فـيهـا يَـشيــعُ الهَـــمُّ والـتَّــعَــبُ

ذهَـبُـوا، أجَـلْ ذهـبـوا ، ومَـسْـكـنُـهم       فــي الـقَـلـبِ، مـا شطُّـوا ومـا قَـربـوا

إنــي أراهــم أينمــا الــتــفــتـتْ      نــفـسي وقـد سـكـنـوا ، وقـد وثـبـوا

وأحِـسُّ فـي خَــلَـدي تــلاعُـبَــهُـمْ       فــي الــدَّار ، يـصبـيــهم نَــصَــب

وبَـريـقَ أعـيُـنِـهــم ، إذا ظَــفِــروا       ودُمـــوعَ حُــرقـتِـهـم إذا غُلِــبــوا

فــي كــلِّ رُكـــنٍ مِـنـهُــمُ أثَــرٌ      وبـكـلِّ زاويــةٍ لَــهُــم صَــخَــبُ :

فـــي الـنـافِــذات ، زجاجها حَـطمـوا       فـي الحـائِـط المَــدْهـونِ ، قـد ثَـقَـبُـوا

فـــي الـبـابِ، قـد كـسـروا مَزَالجَـهُ ،      وعلـيـه قــد رَسَـمُـوا وقــد كـتَـبُـوا

فــــي الـصـحـنِ فـيه بـعضُ ما أكلُوا       فــي عُـلـبـةِ الـحـلـوى الـتـي نَـهبُوا

فــــي الـشَـطـرِ مِــن تُفاحـة قضموا       فــي فَـضـلـة الـمَـاءِ الـتـي سَـكَـبُوا

إنــي أراهُــمْ حَـيـثُـمـا اتـجَـهَــتْ      عـيـنـي كـأسـرَاب الـقَـطَـا سَـرَبــوا

بــالأمْـسِ فـــي "قـرنـايـلٍٍ" نَـزَلُـوا       والــيـوم قــد ضـمَّـتْـهــمُ "حَـلَـبُ"

*      *       *

دمْـعــي الــذي كـتَّـمْـتُـهُ جَــلَـدَاً      لــمَّـا تـبـاكَـوا عـنـدمـــا ركِـبـوا

حــتَّـــى إذا سـارُوا وقـد نَــزَعُــوا       مـن أضـلُـعـي قـلباً بِـهـــمْ يَـجِــبُ

ألـفَـيـتُـنـي كـالـطِــفْــل عـاطِفَـةً       فإذا بِـه كالــغــيــثِ يـنـســكِـبُ

قـد يَــعـجَـبُ الــعُـذَّال مــن رجُـلٍ       يَـبْـكـي، ولــو لــم أبــكِ فـالعَـجَبُ

هَــيـهْــاتَ مـا كـلُّ الــبُـكـا خَـوَرٌ      إنِّي وَبِـــي عَـــزْمُ الـــرجــالِ ، أبُ

قرنايل في 27 أيلول 1957