الصياد

حماد صبح

ظهيرة حامية تخنق الأنفاس ، وما من غمامة في السماء مهما صغرت ، وللعشب الذي ألهبته الشمس لون بائس يائس ، ولا رجاء في اخضراره ثانية حتى لو جاده الحيا . والغابة تبدو ساكنة لا حراك بها كأنها ترنو بنواصي شجرها إلى شيء ، أو ترتقب شيئا . كان رجل طويل ، ضيق المنكبين ، في أربعيناته ، يلبس قميصا أحمر، وسروالا مرتقا كان يوما لأحد السادة ، وينتعل حذاء طويل العنق ؛ يسير متكاسلا متثاقل الخطا ، مصعدا في الطريق . وعلى يمناه اخضرار الأرض الخلية من شجر الغابة ، وعلى يسراه يسترسل بحر نبات الجاودار الذهبي إلى الأفق . كان الرجل أحمر الوجه ، ينزف عرقا ، قد استقرت على رأسه البهي _ الذي يشبه لون شعره لون الكتان _ قبعة بيضاء تشبه قمتها القويمة قبعة الفارس ، والجلي أنها هي كذلك كانت هبة سيد شاب سخي اليد . وكان يُدلي من منكبه مخلاة صيد تحوي ديكا أسود قنصه ، وفي يده بندقية ذات ماسورتين قد شد زنادها . نظر الرجل مضيقا عينيه إلى كلبه الهرم الضاوي الذي يتقدمه مستافا رائحة  صغار الشجر . كل ما حوله ساكن ، فلا تحس لشيء رِكْزا . كل ما هو حي توارى خوف الهجير ، وفجأة سمع الصياد صوتا ناعما يناديه : يجور فلاسيتش !

فجفل ، وتلفت حوله ، وتجهم ، ووقفت جواره ، كأنها انبثقت من جوف الأرض ، امرأة حائلة الوجه في ثلاثيناتها ، وفي يدها منجل ، وتجهد نفسها للنظر في وجهه بابتسامة حيية .

وتوقف ، وأرخى زناد البندقية متعمدا ، وقال : آه ! أنت يا بيلاجيا !

هم ! كيف جئت هنا ؟!

أجابت : نسوة قريتنا يعملن هنا ، فجئت معهن للعمل يا يجور فلاسيتش .

فزام وتابع سيره وانيا ، فتبعته ، ومشى الاثنان صامتين قرابة عشرين خطوة .

قالت ناظرة في حنان إلى حركة منكبيه : لم أرك من وقت بعيد يا يجور فلاسيتش ... لم أرك

منذ جئت كوخنا في عيد الفصح لتشرب عندنا ماء ... زرتنا في الفصح لدقيقة ، ثم ... يدري الله كيف ثملت ، فوبختني وضربتني وانصرفت ، فأخذت أبحث عنك وأبحث ، وكلت عيناي في انتظارك . آه يا يجور فلاسيتش ! يجب أن تزورنا يا يجور ولو مرة واحدة .

_ ما عساي أفعل في زيارتكم ؟!

_ طبعا ليس هناك ما تفعله ... مع أنه ، تأكد ... هناك المكان لتعتني به ... لتري كيف تسير الأمور في الكوخ ... أنت السيد ... صدت ديكا أسود يا يجور فلاسيتش ، ويجب أن تجلس الآن وتستريح !

وبعد أن قالت ما قالت ضحكت ضحكة فتاة سخيفة ، وتطلعت إلى وجه يجور . كان وجهها يشع سعادة ساذجة .

قال دون اهتمام : أجلس ؟! سأجلس إن شئت .

وانتخب بقعة بين شجرتي تنوب ، وتابع : لم تقفين ؟! اجلسي مثلي !

فجلست بعيدة عنه قليلا في الشمس ، وخجلت من فرحتها ، فحجبت ثغرها الباسم بيدها ، ومرت دقيقتان صمتا .

قالت : يمكنك أن تزورنا لو مرة .

فتنهد وقال ناضيا قبعته ، وماسحا جبينه الأحمر : لم أزوركم ؟! ما من غاية لزيارتي . زيارتكم ساعة أو ساعتين مضيعة وقت . زيارتي ببساطة ستغمك ، وروحي لا تقدر على العيش في القرية عيشا متصلا . تعلمين شخصيا أنني شخص مدلل ... أريد مهدا أنام فيه ، وشايا حسنا أحتسيه ، وحديثا هذيبا أجتنيه . أحب كل الأشياء الحسان ، وحياتك في القرية حياة معازة وقذارة ... ليس في طوقي تحملها يوما واحدا . وهبي أن مرسوما يلزمني بالحياة معك ! عندئذ إما أن أضرم الكوخ نارا وإما أن أخنق نفسي . من صغري أحب بحبوحة الحياة ، وما لي حيلة في هذا الحب .

فسألته : وأين تقيم الآن ؟!

_ عند السيد دمتري إيفانتش بصفة صياد له . أمون مأدبته بما أصيده إلا أنه يبقيني عنده لمسرته أكثر من أي شيء آخر .

_ ما تعمله يا يجور فلاسيتش خطأ . عملك في رأي غيرك تسلية وتلهية ، ولكنه بالنسبة لك حرفة ، مثل أي عمل حقيقي .

فقال رامقا السماء بتقطيب وجه : لا تدركين معنى ما أقول يا سخيفة ! لم تدركي يوما أي شيء ، ولن تدركي ما دمت حية أي إنسان أنا . تحسبينني أحمق اصطفيت السيء من الأمور إلا أنني في عين من يفهم أحسن إنسان في كل هذه المنطقة ، وعلية الناس فيها يدركون هذا ، بل إنهم كتبوا عني في مجلة . ما من إنسان يمكن أن يقارن بي في الصيد . وأنا لا أزدري عملك في القرية لكوني مدللا مزهوا بذاتي ، وتعلمين أنني ما ابتعدت يوما واحدا منذ صباي عن البنادق والكلاب ، فإن أخذوا بنديتي صدت بالصنارة ، وإن أخذوا الصنارة صدت بيدي . وشاركت في تجارة الخيل ، وألفت الذهاب إلى أسواقها حين يكون معي مال ، وتعلمين أن الفلاح إذا غدا صيادا أو تاجر خيل فوداعا للمحراث ! ما من سبيل لانتزاع الحرية من قلب الإنسان متى استقرت فيه ، وقولي نفس الشيء إذا ما غدا أحد السادة ممثلا ، أو احترف أي نوع من الفن فلن يكون بعدئذ موظفا أو صاحب أرض ، وهذا ما ينبغي أن يدركه الإنسان .

قاطعته بيلاجيا : أدركه يا يجور فلاسيتش .

_ لن تدركيه إن كنت تنوين البكاء .

فقالت صارفة عنه وجهها : أنا ... لا أبكي . ما تفعله خطيئة يا يجور فلاسيتش . يجب أن تظل معي أنا التعسة البخت ، مهما يكن ، مضى على زواجنا اثنا عشر عاما و... و... وما كان بيننا يوما حب . أنا ... لا أبكي .

فتمتم حاكا يده : حب ؟! لم نكن متزوجين حقيقة . كنت في عينيك إنسانا متوحشا ، وكنت في عيني فلاحة ساذجة لا تفهم شيئا . هل كنا متكافئين ؟! أنا إنسان مدلل مبذر متهتك ، وأنت امرأة عاملة تنتعلين حذاء من لحاء الشجر ، ولا ترفعين ظهرك من كثرة العمل ، ورأيي في نفسي أنني في طليعة كل صنف من الصيد بينما تنظرين أنت إلي مشفقة علي ، أهذا يدل على أن بيننا تكافؤا حسنا ؟!

فنشجت قائلة : لكننا متزوجان ، أنت تعلم هذا يا يجور فلاسيتش .

_ لم يكن زواجا بإرادتنا . نسيت ؟! يجب أن تشكري الكونت سيرجي بايلوفيتش ، وتشكري نفسك على الزواج . واصل الكونت تقديم الخمر لي شهرا كاملا مدفوعا بحسده لي لتفوقي عليه في رماية الصيد . يمكنك أن تبدل ديانة الإنسان حين يثمل ، فما البال بالزواج ؟!  زوجني بك ثأرا  مني وأنا ثملان . زوج صيادا براعية ماشية . رأيتني ثملا ، فلم قبلت الزواج بي ؟! تعلمين أنك ما كنت من أقنان الأرض ، وكان يمكن أن تقاومي الزواج . طبعا كان نوعا من الحظ أن تتزوج راعية ماشية بصياد ، ولكن كان الواجب أن تفكري في الأمر . طيب . لك أن تكوني الآن تعيسة . ابكي ! ما كان زواجك إلا مزحة للكونت ، لكنه سبب لك البكاء . اضربي رأسك في الحائط !

وتلا ما قال صمت ، وحامت فوق الأرض الخالية من الشجر ثلاث بطات بريات ، فلاحقها يجور بعينيه حتى استحالت ثلاث نقطات لا تكاد تبين ، ثم غارت وراء الغابة .

قال محولا عينيه عنها إلى بيلاجيا : كيف تعيشين هذه الأيام ؟!

أجابت : أنا الآن في سبيلي إلى العمل ، وفي الشتاء آخذ طفلا من مستشفى اللقطاء ، وأربيه على حليب الزجاجة . يعطونني أجرا شهريا روبلا ونصفا .

_ آه !

وساد الصمت ثانية ، وتصاعدت من خط الجاودار المحصود أغنية رقيقة انقطعت عند مطلعها . حرارة الجو أشد من أن تسمح بالغناء .

قالت بيلاجيا : يزعمون أنك بنيت كوخا جديدا لأكولينا !

فلم يعقب ، فقالت : إذن تحبها ...

فقال وهو يستقيم في جلسته : هذا حظك ، قدرك ، ويجب أن تصبري عليه ، أيتها التعسة ، والآن صحبتك السلامة ! أطلت الثرثرة معك ، لابد أن أكون في بولتوفا مساء .

وقام واستقام ، وطرح بندقيته على منكبه

، فقامت بيلاجيا وسألته ناعمة الصوت : متى تنوي العودة إلى القرية ؟!

فأجابها : ما من داعٍ للعودة . لن أخفف من شرب الخمر ، وليس لك كثير نفع مني حين أكون ثملا . عندئذ أكون ميالا إلى إغاظة غيري . صحبتك السلامة !

_ صحبتك السلامة يا يجور فلاسيتش !

ووضع قبعته على مؤخر رأسه ، وفرقع بأصابعه لكلبه ومضى . ووقفت بيلاجيا ساكنة تنظر إليه . رأت عظام منكبه المتحرك ، وقبعته الأنيقة ، وخطوته الكسول غير المبالية ، ففاضت عيناها أسى وحبا ، وتنقلت نظراتها على جسده الطويل النحيل ، فلاطفته في نفسها ، وشعرت بالحنو عليه ، وكأنما أحس نظراتها ، فتوقف والتفت ، ولم يتكلم ، لكن بيلاجيا أدركت من وجهه ومن حركة منكبيه أنه يود أن يقول لها  شيئا  ، فسارت نحوه مستسلمة ، وتطلعت إليه متوسلة العينين ، فقال : خذي !

وناولها روبلا ورقيا مجعدا ، وابتعد مسرعا ، فقالت وهي تأخذ الروبل آليا : صحبتك السلامة يا يجور فلاسيتش !

سار في طريق قويم كأنه حزام مشدود ، ووقفت هي شاحبة الوجه في سكون تمثال تلتقط بعينيها كل خطوة يمشيها إلا أن حمرة قميصه ذابت في سواد سرواله ، وصارت بيلاجيا لا ترى خطاه ، وما عادت قادرة على تمييز الكلب من حذائه الطويل . ما عادت ترى منه سوى القبعة . وفجأة مال إلى الأرض الخالية من الشجر ، فاختفت قبعته في خضرتها .

همست بيلاجيا : صحبتك السلامة يا يجور فلاسيتش !

ووقفت على أطراف أصابع قدميها لترى القبعة البيضاء ثانية .

*للكاتب الروسي أنطون تشيكوف ( 1860 _ 1904) .

وسوم: العدد 779