الأديب الإنجليزي بن جونسون ( 1572 _ 1637 )

حماد صبح

أدى بن جونسون دورا كبيرا جدا في الحياة الأدبية في القرن السابع عشر ، وكان مزجه الخاص بين الواقعية الهجائية والشعور الرومانتيكي والدقة الكلاسيكية إلهاما  أساسيا في الأدب قرابة مائتي عام حيث ترك أثره في المسرح والشعر والنقد ومعايير الذوق الأدبي إجمالا .وكان في الحق بشيرا بالكلاسيكية الإنجليزية الجديدة . وتوفي والده الذي كان قسا بعد ولادته بوقت قصير ، فتبناه رجل يعمل في البناء بالآجر ، ثم علمه عدة سنوات في مدرسة ويستمنستر وليم كامدن جامع ودارس الأثريات الكبير في العصر الإليزابيثي ،فتعلم منه الكثير ، واستوعب الأكثر بنفسه من معرفته الموسوعية ؛ ذلك رغم أنه حاز في ما بعد شهادات تكريمية من جامعتي أكسفورد وكامبريدج دون أن يلتحق بأي منهما . وبدلا من ذلك يبدو أنه مارس بعض الوقت حرفة البناء بالآجر ، ثم التحق بالجيش في إقليم الفلاندرز حيث كان الهولنديون أحلاف  إنجلترا يحاربون الأسبان ذودا عن حريتهم . واقتتل مفردا مع جندي من جيش العدو قبل اقتتال الجيوش الجماعي ، فقتل الجندي العدو . ورجع إلى إنجلترا في 1595 ، وأخذ يعمل في التمثيل وفي الكتابة للمسرح ، فقهر خشبة المسرح بقوة وحيوية مثلما قهر  الجندي العدو . ولسرعة غضبه وسرعة استعماله ليده في الخصومة ؛ سجن لقتله زميلا ممثلا في مبارزة ، كما سجن لإهانته الأسكتلنديين في الوقت الذي كان فيه  الملك جيمس  تولى حديثا عرش إنجلترا قادما من أسكتلندا . واشتبك غاضبا هائجا في سلسلة معامع أدبية مع زملائه من كتاب المسرح إلا أنه لان جانبا حين اكتهل ، وأفلح في أن يكون طاغية لندن الأدبي لا بطول حسامه أو حدة كلامه ، وإنما بمصادقة أدباء من صنف دن وشكسبير وفرانسيس بيمونت وجون سلدن وجون فلتشر وباكون ، وفوق ما سبق فاز بمحبة الشبان ، بمحبة شعراء مثل روبرت هِريك وتوماس كاريو وسير جون سكلنج ، ومفكرين تأمليين مثل لورد فالكلاند وسير كنلج دجبي ، أولئك الذي سرهم أن يعمدوا أنفسهم بصفتهم " أبناء بن "  الذين بذروا النواة لكل " مدرسة الفارس " من الشعراء الغنائيين الإنجليز . وكانت أولى مسرحيات جونسون العظيمة هي " كل امرىء ومزاجه " التي اضطلع شكسبير في تمثيلها بدور بارز ،وكانت أول ما سمي " ملاهي الأمزجة " التي تُنَفس فيها الأفعال الشاذة والعواطف الجامحة  للشخصيات تنفيسا ساخرا . ومع أن مسرحيته المأساوية الكلاسيكية " سيراجوس " في 1603  عِيبت بأنها مثقلة بعلم الآثار فإن مسرحيتيه " فولبون " في 1606 ، و " الكيميائي " في 1610 تحسبان مسرحيتين هزليتين هجائيتين فخمتين في المسرح الإنجليزي . وفي تلك الأثناء ،في 1605 ، أخذ جونسون يكتب للقصر الملكي مسرحيات أقنعة ذات مشاهد بارعة مكلفة جدا ، وموسيقا وأغان ورقص ، تدور حول قصة رمزية أخلاقية ، وتصل إلى ذروتها بتحية الملك أو الملكة . وهكذا اتصل اتصالا وثيقا بحياة القصر الملكي ما لبث أن  أضحى رسميا في 1616 حين اختير شاعرا له  بمعاش كبير من الملك  . وقام في 1618 برحلة على قدميه إلى أسكتلندا التي  أضافه فيها وليم دراموند عمدة هوثمدن الذي سجل كثيرا من أحاديثه التي أبدى فيها بعض الآراء . ولعل جونسون اتجه إلى الحط من قدر ذوق العصر وترذيله بطريقة عرضته للسخرية ، في الوقت الذي كان يعتز فيه بسلامة ذوقه الخاص ؛ عقب أن أخفقت مسرحياته المتأخرة على المسرح إخفاقا عاما إلا أن الذين سخروا منه أعجبوا به . وقد صان منزلته بأن خلف للأجيال اللاحقة شعرا من أجمل وأرشق ما كتب ، ومنه على سبيل المثال قصيدته البديعة " الراعي الحزين " التي هي في الحق دراما من الشعر االرعوي . وقد فجر موته حزنا عالميا بصفته نهاية لحقبة أدبية ؛ ذلك أنه كان آخر عمالقة العصر الإليزابيثي ، وأول مبشر بالكلاسيكية الجديدة . ويرقد اليوم جثمانه في دير ويستمنستر في ظل نقش وجيز مبهم هو: " أيها الفريد بن جونسون ! " . ويدين جونسون أساسا في الشعر الغنائي وسواه للكلاسيكيين ،فحكمه الموجزة وهجائياته لها لذعة حكم وهجائيات الشاعر مارشال وقوتها الرنانة ، وأناشيده وأشعاره الغنائية تنساب في رقة رشيقة تذكرنا بأناشيد كاتولوس وأشعاره الغنائية ، وهو يستطيع تحويل تحية أو فضل من الأفضال إلى مناسبة صغيرة مرحة فيها كل رقة الشاعرهوميروس . ويتكىء في كل المحاسن السالفة ، وفي إيقاعاته القوية  المحكمة وفي نظمه الجزل على اللغة اللاتينية خدمة للغته الإنجليزية . إنه واحد من الصائغين العظام لكلامنا ؛ إذ أعاد إصلاح لغتنا التي أصابها تمددها بالسلبيات وبالزخارف وبالاستعارات المتداخلة ، وحولها إلى لغة رشيقة كأنها منحوتة بالإزميل . وخطابه في قصيدته " إلى بنشورست " لا يصف مبنى بهذا الاسم فحسب ، ولكنه أيضا يصف نهج حياة ،  وصورة للمجتمع العظيم الذي يؤلف بين البساطة والجمال مثلما ألف جونسون بينهما ، وهو يفعل هذا بفن معقد إلا أنه صقيل جميل. لاحظ مثلا كيف يتصاعد الوصف خلال المخلوقات من النباتات إلى الحيوانات إلى الفتيات الحسناوات اللواتي يحملن شعارات لذواتهن في هيئة فاكهة ناضجة إلى قصر مالك الضيعة ، ثم يحملنها عقب ذلك إلى الملك نفسه . كل شخص هنا في مكانه ، وكل شيء في تناغم وانسجام مع الطبيعة الكلية ، وكل الأشياء منسقة حسب معمار هندسي من التناسب التام ليظهر صنفٌ من صورة بطولية لمجتمع ينبثق من وصف بسيط لبيت ريفي . والحق أن ثمة صنفا من الروعة الرومانية ( اللاتينية. المترجم  ) في كتابة جونسون استجاب لها الطباعون منضدو الحروف استجابة عامة . وحين نشر " أعماله " في 1616 ( الكلمة ترجمة لمغناة لاتينية latin opera ، وهو عنوان لم يطلق من قبل إلا على الأعمال الكاملة للشعراء الكلاسيكيين ) ؛ كان ورقها ، الأعمال ، من أرشق ما طبع من قبل ، وواصل الظهور من ذلك الحين في دواوين ذات جلال تميم فخيم . 

*عن " مقتطفات نورتون المختارة من الأدب الإنجليزي " . 

وسوم: العدد 926