سوريا مسرح حرب بالإنابة

لوموند ديبلوماتيك

لوموند ديبلوماتيك:

لم تكن في يوم من الأيام في صالح المواطن العادي

كريم إميل بيطار - لوموند ديبلوماتيك

ترجمة وتحرير مسار للتقارير والدراسات

بدأت ثورة الشعب السوري كفاحا لتحسين الأوضاع الاجتماعية والاقتصادية، ونضالا من أجل الديمقراطية بديلا عن القمع. أما الآن، فهي تختطف لصالح صراعات إقليمية ودولية.

وإن كان هناك ثابت لحدث في تاريخ دول الشرق، فإنه الصراع بين طموحات سكانها من أجل الحرية، والسياسة الواقعية التي أدت إلى التضحية بتلك الطموحات لأجل مصالح جيوستراتيجية لقوى أجنبية. فقد ساهمت حملة نابليون على مصر في الفترة 1798-1801 في بدء صراع طويل بين فرنسا وبريطانيا وألمانيا على أراضي الإمبراطورية العثمانية المتهالكة. وقد جاءت الصدمة الأكبر في نهاية الحرب العالمية الأولى، حين حرض لورنس العرب، العرب على الثورة ضد الأتراك بعد وصول رسالة المندوب السامي البريطاني في مصر هنري مكماهون إلى الشريف الحسين بن علي في مكة المكرمة، واعدا إياه بإنشاء مملكة عربية متحدة. وقد رأى العرب الضعفاء بأعينهم الخيانة وكسر هذا الوعد باتفاقية سايكس بيكو عام 1916 التي قسمت المنطقة بين فرنسا وبريطانيا، ووعد بلفور عام 1917 الذي أعلن إنشاء "وطن قومي للشعب اليهودي" في فلسطين.

قسمت سوريا في البداية إلى أربع ولايات تحت الانتداب الفرنسي، وحصلت على استقلالها بعد الحرب العالمية الثانية، ولكن الديمقراطية البرلمانية الجديدة لم تدم: حيث استولى العقيد حسني الزعيم عام 1949 على السلطة في أول انقلاب عسكري في العالم العربي بمساعدة السفارة الأمريكية ووكالة المخابرات المركزية.

تساعد معرفة ذلك في تفسير القومية السورية وعمق الريبة والشك من مناورات القوى الأجنبية. كما تفسر خروج ثورة شعبية ضخمة في وجه نظام الأسد (بدأت سلمية وعفوية كثورتي مصر وتونس)، ومحاولة النظام تبرير وحشيته في قمع هذه الثورة مستخدما الشعارات المعادية للإمبريالية. وقد مكنته هذه الاستراتيجية من المحافظة على دعم بعض الحركات القومية (التسلطية) وقسم صغير من اليسار العربي.

وعلى الرغم من كل ذلك، كانت مرتفعات الجولان (المحتلة من قِبَل إسرائيل منذ يونيو 1967) واحة للاستقرار وظلت الحدود الإسرائيلية السورية هادئة بشكل ملحوظ على مدى العقود الأربعة الماضية. وقد تدخلت سوريا في لبنان عام 1976 -بموافقة الولايات المتحدة وباتفاق ضمني مع إسرائيل- لمنع انتصار ما كان يسمى بالائتلاف "الإسلامي التقدمي". وخلال الحرب العالمية على الإرهاب منذ بداية العقد الماضي كانت سوريا من المتعاقدين الرئيسيين في برنامج بوش "للترحيل الاستثنائي". وعندما بدأت الثورات العربية أيدت سوريا السعودية في سحقها للثورة في البحرين.

كان خطأ بشار الأسد الأكبر، كما هو واضح في مقابلته مع صحيفة وول ستريت في 31 من كانون الثاني عام 2011، أنه اعتقد أن سياسته الخارجية -في دعم حزب الله اللبناني (خاصة خلال حرب صيف 2006) ودعمه لحماس خلال الغزو الإسرائيلي لغزة (في كانون الأول من 2008 وكانون الثاني من 2009)- ستحميه من موجة الثورات التي اجتاحت العالم العربي. حتى لو صدق السوريون إعلان الأسد معاداته للإمبريالية، فإن ذلك لم يكن كافيا لوقف الثورة التي انطلقت لأسباب محلية. فقد كان الوضع الاجتماعي والاقتصادي كارثيا: فمن بين كل 300.000 سوري يدخلون سوق العمل كل عام، فقط 8.000 منهم يستطيعون العمل بموجب عقود مناسبة. وقد ساهمت الإصلاحات الليبرالية الجديدة التي نفذت بعجالة في تحول الاحتكارات من القطاع العام إلى القطاع الخاص، وعززت رأسمالية المحسوبية. كما أن استمرار حالة الطوارئ منذ عام 1963 قد خنق كل الحريات، وجعل التعذيب الممأسس وسيلة للحكم والسيطرة على الناس.

الثورة السورية، منذ قدومها، أدخلت بسرعة في لعبة القوة الدولية، وصارت أرضها مسرحا للحروب بالوكالة. وإن الاصطلاحات المتناقضة -كالثورة الشعبية والصراع الجيوسياسي الإقليمي والدولي- لا تتنافى مع بعضها ومن الممكن أن تنوجد في نفس الوقت، حتى ولو كانت الأولى سائدة منذ آذار إلى تشرين الأول 2011، والثانية من تموز 2012.

الدعم الروسي

كان الدعم الأكبر الذي تلقاه نظام الأسد من الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، والذي وصل إلى استخدام الفيتو في مجلس الأمن الدولي ثلاث مرات. تتمتع روسيا بعلاقة ثنائية قوية مع سوريا منذ خمسينات القرن الماضي، حيث لم تقطع سوريا -على خلاف مصر تحت حكم أنور السادات- علاقاتها مع الكتلة السوفييتية. وقد أنتجت هذه العلاقة عشرات الآلاف من المواطنين الذين يحملون جنسيتي البلدين، والزواج المختلط والاغتراب والعلاقات الاقتصادية القوية. وفي عام 2010 تجاوزت الصادرات الروسية إلى سوريا 1.1 مليار دولار، ووصلت الاستثمارات الروسية في سوريا ما يقارب 20 مليار دولارا. كما أن مبيعات الأسلحة لسوريا مهمة بالنسبة لروسيا لاختبار كفاءة تقنياتها، كما أنها أكسبت الحكومة الروسية 4 مليار دولارا عام 2011، على الرغم من بطء الحكومة السورية في الدفع، وأن موسكو غالبا ما تعيد التفاوض بشأن الدفع أو تشطب الديون. أما بالنسبة للقاعدة البحرية في طرطوس، القاعدة العسكرية الروسية الوحيدة في البحر الأبيض المتوسط، فهي أساسا منشأة إمداد، وأهميتها مبالغ فيها إلى حد ما.

في محاولة منه للظهور مثل فرنسا في القرن التاسع عشر، تحاول روسيا تقديم نفسها على أنها حامية المسيحيين في الشرق. هناك ما يقارب المليون مسيحي في سوريا (4.6% من السكان)، 52% منهم من الروم الأرثوذوكس. التحالف الجديد في روسيا بين بوتين ورئيس الوزراء ديمتري ميدفيديف وبطريرك الكنيسة الأرثوذوكسية الروسية كيريل الأول، قد يفسر اهتمام روسيا بمصالح الكنيسة الأرثوذوكسية في سوريا؛ حيث يتمتع رجالاتها بعلاقة وثيقة مع نظام الأسد. يدعي الكرملين أنه تعرض للخداع في ليبيا عام 2011، وأن الغرب يستخدم تفسيرا مرنا أو حتى كذبا متعمدا في تفسيره قرار مجلس الأمن الدولي رقم 1973 لتبرير تجاوز تدخلهم العسكري "واجب الحماية" مما أدى إلى تغيير نظام.

موقف روسيا الثابت ينبع كذلك من رؤية بوتين لسوريا مرتبطة بأحداث الشيشان: فهو يعتقد أن الانتفاضات العربية على شكل ثورات إسلامية يجب أن يتم إيقافها قبل أن تصل إلى القوقاز والمناطق المسلمة الروسية الأخرى (ما يقرب من 15% من الروس مسلمون).

التحالف مع إيران

شرح دعم إيران لنظام الأسد أسهل؛ حيث ترغب طهران بحماية حليفها العربي الوحيد، وإبقاء طرق إمداد حزب الله مفتوحة. التحالف الإيراني السوري بدأ في اتفاق استراتيجي طويل الأمد عام 1980 بعد وقت قصير من الثورة الإسلامية في إيران، عندما كان حافظ الأسد معزولا، وكانت علاقاته سيئة بحزب البعث العراقي ومنظمة التحرير الفلسطينية بقيادة ياسر عرفات.

وقد نجح التحالف السوري الإيراني بالتملص من ضغوط كبيرة (وخاصة إبان الحرب الإيرانية العراقية في فترة 1980-1988)، وفشلت كل محاولات الإيقاع بين البلدين. وحال اندلاع الثورة السورية في آذار 2011 ألقت إيران بكل ثقلها لدعم الأسد. وفي كانون الثاني عام 2013 قامت إيران بمنح سوريا خط ائتمان للاستيراد بقيمة مليار دولار، على الرغم من الحالة الاقتصادية الصعبة التي نجمت عن العقوبات الدولية. كما أرسلت طهران كبار قادة الحرس الثوري الإيراني إلى سوريا، حيث انضموا إلى مقاتلي حزب الله والميليشيات الشيعية من العراق لدعم نظام الأسد.

تحاول القوى الثلاثة السنية الرئيسية في المنطقة -تركيا وقطر والمملكة العربية السعودية- بذل كل ما في وسعها لدعم الثوار السوريين. وبعد فترة وجيزة من محاولتها التوفيق بين مصالح دمشق والإخوان المسلمين، أعلنت تركيا أنها تؤيد سقوط نظام الأسد. أما دول الخليج فهي مدفوعة بالأساس برغبتها في التصدي لإيران، العدو رقم واحد بالنسبة لهم، حتى ولو كان هناك خطر من أن يصبح الصراع طائفيا بين السنة والشيعة.

اصطفت قطر في وقت مبكر إلى جانب الإخوان المسلمين في سوريا، كما فعلت مع إخوانهم في تونس ومصر. ووفقا لصحيفة الفاينانشال تايمز فقد أنفقت قطر حتى الآن 3 مليار دولار في تسليح الثوار. أما السعودية التي كانت حذرة في البداية، فقد انضمت إلى المعركة في السورية بعد بضعة أشهر. ولكن عداءها لجماعة الإخوان المسلمين أدى بها إلى دعم الحركات السلفية -على الرغم من قلقها إزاء الجماعات المتصلة بتنظيم القاعدة بعد أعمال العنف التي شهدها العقد الماضي. وتدعم قطر الائتلاف الوطني للمعارضة السورية، وفرضت غسان هيتو رئيسا للوزراء، وهو سوري من تكساس يقال أن لديه صلات وثيقة بالإخوان، كأنه رئيس وزرائهم (استقال هيتو في 8 تموز 2013). وتركز السعودية على المساعدات المباشرة عبر الأردن، حيث أنشأت مكتبا للتنسيق.

لفترة من الزمن، اعتبرت إسرائيل سوريا أهون أعدائها، والضامن لحماية حدودها. هذه النظرة تغيرت بعد حرب تموز عام 2006، عندما بدا واضحا أن الدور السوري كان حاسما في دعم مقاومة حزب الله، وكان هناك تصعيد في الخطاب الإسرائيلي المعادي لإيران. وينقسم الداعمون لإسرائيل في الولايات المتحدة إلى قسمين: المستشار السابق في البيت الأبيض دينيس روس يفضل التدخل العسكري، والأكاديمي دانييل بايبس -أحد الداعمين بشدة ودون شروط لإسرائيل- يؤيد دعم الولايات المتحدة للنظام وإطالة أمد الصراع. ولا يزال مدير الموساد السابق إفرايم هاليفي يفضل الأسد على أولئك الذين يحاولون الإطاحة به، حتى أنه يصفه عادة بأنه "رجل إسرائيل في دمشق".

التردد الإسرائيلي تجاه سوريا يعزز إلى الارتباك في واشنطن، حيث يقاوم باراك أوباما -الحذر بعد ما حدث في العراق- ضغوطا من قبل اللوبي المؤيد للتدخل. الحل المثالي بالنسبة للولايات المتحدة هو رحيل الأسد تاركا الإطار العام للنظام في مكانه. وهذا هو هدف المبادرة الروسية الأمريكية الجديدة والمؤتمر الذي سيعقد في جنيف. أما فرنسا التي شجعت الثوار وأعلنت السقوط الوشيك للنظام، فقد بدت حذرة منذ التقارب بين الولايات المتحدة وروسيا. وربما خوفا من العزلة بدأت فرنسا بالحديث عن مزايا الحل السياسي، والذي ظل مرفوضا حتى وقت قريب.

(ومع ذلك فقد كانت فرنسا وبريطانيا وراء قرار الاتحاد الأوروبي للسماح بإلغاء حظر توريد الأسلحة). كل هذا يكشف غياب أي نوع من التخطيط من قِبَل القوى الإقليمية والدولية، وهو ما يتناقض مع العديد من نظريات المؤامرة حول الشرق الأوسط. هذه القوى تعتزم حماية مصالحها الخاصة، والتي تم إلغاء مصالح الشعب السوري من بينها.