السيد ياسين
القاهرة: محمد حلمي
السيد ياسين لـ «الشرق الأوسط» : عملي كداعية في تنظيم الإخوان المسلمين لـ 4 سنوات عزز لدي فكرة المثقف المستقل
في مكتبه بمركز الأهرام للدراسات السياسية والاستراتيجية يقبع السيد ياسين ويعمل في صمت، وخلف نظارته الكبيرة نسيج من الرؤى والأحلام وعميق خبرة تطفو على السطح من أول وهلة، وحين تجلس إليه فأنت تقف أمام شخص مسكون، ليس بنظرية المؤامرة كما يتهمه خصومه، وإنما بعشق وطن أكبر اسمه العالم العربي. السيد ياسين من المثقفين العضويين الذين تغنى بهم غرامشي، فطوال مسيرة عطائه، التي تزيد على نصف قرن، عمل جاهدا على اكتشاف الأنا والآخر وبيان الحدود الفاصلة ما بين العمل الجاد الملتزم والتخبط العشوائي في دوامات لا تنتهي. لا يعتبر نفسه صحافيا وإنما باحث أكاديمي، وبرغم انهماكه في العمل الصحافي، يلقاك بابتسامة طفولية ساحرة مصحوبة بميل فطري نحو النقاش، ويعترف بأخطائه في جرأة ويكتب مقالاته بجرأة أشد. بكلمة واحدة: نحن إزاء مثقف مستقل، يرفض التحزب والتمذهب، ويمضي بعيدا في استقلاليته. حول رحلته مع قضايا المجتمع والفكر والثقافة كان هذا الحوار:
> بداية، كيف تنظر وتقيّم مسيرتك التي جاوزت نصف قرن من البحث العلمي والعمل الصحافي؟
- حين يمر العمر سريعا ربما لا يحظى المرء بوقت قصير يلتفت فيه إلى درب المسيرة وقد تحطمت فيه آمال شخصية وتحققت في المقابل نجاحات أيضا. لكنني أعتقد أنني معنيٌ بنقدي لذاتي، وهذا يفسر كثرة المراحل التي مررت بها في حياتي، وأذكر أنني حين كنت في كلية الحقوق في الأربعينات من القرن الماضي كنت أحلم بأن أكون صحافيا، وهو ما لم يتحقق إلا بعد قرابة عشرين عاما من ذلك التاريخ!! فقد كنت معنيا وقتها بالكتابة الأدبية وخُيل إليّ أنني سأكون أديبا، ثم أدركت أنني لست موهوبا بما فيه الكفاية فأقلعت مبكرا عن الأدب، وتحولت إلى كتابة المقال الفلسفي بعد ذلك. دخلت الصحافة من باب البحث العلمي، ولا أعتبر نفسي صحافيا حتى الآن، وإنما باحث علمي. فقبل تعييني مديرا لمركز الأهرام للدراسات السياسية والاستراتيجية كنت أعمل بالأهرام خبيراً استراتيجياً منتدباً من قبل المركز القومي للبحوث الاجتماعية والجنائية، لمدة 18 عاما، ثم استقلت لأتفرغ لإدارة مركز الدراسات السياسية والاستراتيجية لمدة عشرين عاما، وأنا الآن أعمل مستشارا به بالإضافة إلى كوني أدرس علم الاجتماع السياسي بالمركز القومي للبحوث.
> لم تدرس الصحافة؟
لا، درست القانون وعلم الاجتماع، ومقالاتي في الأهرام، هي جزء من مشروع علمي متماسك أكتبه على مراحل، لذا أجمعها في نهاية كل عام وتصدر في كتاب. فأنا لا أعلق على الأحداث الراهنة إلا لماما. وما زلت أعتبر أن نقطة التحول الرئيسة في حياتي هي التحاقي بالمركز القومي للبحوث الاجتماعية والجنائية، وقد قرأت منذ الثالثة عشرة ما يتعلق بالفكر المصري المعاصر في مكتبة البلدية بالإسكندرية، وحين عينت بالمركز كنت معدا إعدادا ثقافيا للبحث العلمي. وقد أتاح لي المركز فرصة القراءة المعمقة في العلوم الاجتماعية، ومن ثم تحولت بالتدريج من باحث في القانون الجنائي وعلم الإجرام وعلم الاجتماع القانوني إلى علوم الاجتماع المختلفة إلى أن وصلت إلى علم الاجتماع السياسي والثقافي.
> إلى متى يعود اهتمامك بالقضية الفلسطينية والمجتمع الإسرائيلي تحديدا؟
- عقب عودتي من فرنسا وتعييني خبيراً منتدباً في مركز الدراسات السياسية والاستراتيجية بالأهرام، أسست وحدة بحوث المجتمع الإسرائيلي عام 1968، و"مختارات إسرائيلية" التي تصدر عن المركز حاليا بمثابة امتداد لها. اهتممت مبكرا بالحركة الصهيونية وكنت أنا ومجموعة من الأساتذة في علم الاجتماع السياسي، كالدكتور قدري حفني والدكتور محمد عزت حجازي وعبد الفتاح حسين، ننشر بصورة منتظمة دراسات حول المجتمع الإسرائيلي وترجمنا من العبرية إلى العربية مباشرة محاضر الكنيست الإسرائيلي. وحين عينت مديرا للمركز كنت أصدر كتابا سنويا عن المجتمع الإسرائيلي، حيث كنا نطلع على الأدبيات الإسرائيلية بلغتها العبرية. وكانت هذه نقطة تحول أخرى، فالانفتاح على المجتمع الإسرائيلي بكافة تعقيداته وآلياته ساقني تدريجيا إلى الاهتمام بالتحليل الثقافي للنظام الدولي أو ما يسمى بعلم اجتماع العلاقات الدولية وعلم نفس العلاقات الدولية أيضا.
> قلت ذات مرة: إن الفشل في حياة الإنسان لا يقل ضرورة عن النجاح، هل هذا القول ضرب من التفلسف أم أنه معادلة توصلت إليها من خلال تجربتك الشخصية؟
- بل هي معادلة ناتجة عن تجربتي الشخصية، فعلى الصعيد الشخصي لم أكن في الثانوية العامة طالبا نجيبا وإنما كنت أكره الأسلوب العقيم الذي يقوم على التلقين، وكنت مهتما بقراءة الأدب والفلسفة وحب اللغة العربية. وفي الثانوية رسبت لانشغالي بمسابقة عامة كانت تنظمها وزارة المعارف وكان كل من ينجح فيها تضاف له20 درجة على مجموعه الكلي، ولاجتيازها كان يتم امتحان المتقدم تحريريا في كل من: ديوان حافظ إبراهيم كاملا ومسرحية مصرع كليوباترا لأحمد شوقي إضافة إلى كتاب "مع المتنبي" لطه حسين. نجحت في المسابقة ورسبت في الثانوية، لكنه نجاح قادني فيما بعد إلى تحقيق نجاح آخر في مجال مختلف. وما زلت أعتقد أن الحديث عن شخص ينتقل طوال مسيرته من فوز إلى آخر هو ضرب من الأساطير المؤسسة على باطل. فحين ذهبت إلى فرنسا للحصول على الدكتوراه في القانون الجنائي رسبت في امتحانات الدراسات العليا مرتين، ومع ذلك كان هذا دافعا لأن أتحول لدراسة علم الاجتماع وأن أؤلف بانتظام في القانون الجنائي. فالفشل في حياة الإنسان ليس أمرا نهائيا، بل يمكن تحويله إلى عمل إيجابي، وهو ما حدث لي بالفعل إذ تعمقت في دراسة العلوم السياسية وأنا بفرنسا وخرجت من دائرة الفشل لأنجح في مجالات أخرى وأعتقد أن هذا هو الدرس الذي تعلمته.
> لكن هذا الدرس يبدو أن الأنظمة السياسية العربية لا تستوعبه، ومن ثم فهي تعيد تكرار غباءاتها السياسية؟
- أختلف معك حول هذه النقطة بالذات، وسأعطيك مثالاً، فمصر استوعبت هزيمة يوليو 1967 بطريقة بالغة الأهمية. وعقب هذه الهزيمة الساحقة نتيجة فشل القيادة السياسية في إعداد المجتمع المصري للحرب آنذاك، والفساد وعدم كفاءة القيادة العسكرية، عقب هذه الهزيمة عرض عبد الناصر أن يتنحى ويتحمل المسؤولية لكن الشعب رفض. لذا بدأ عبد الناصر في إعداد الدولة المصرية وتهيئتها للحرب، وهو ما بدا واضحا إبان حرب الاستنزاف، ثم وافته المنية فأكمل السادات المسيرة، وأجاد بعبقريته التي لا شك فيها، التخطيط السياسي أكثر من العسكري للحرب، مثل الحشد في الداخل والخارج، وحملة الخداع الاستراتيجية، وإن كان في الداخل تعرض لسوء فهم وظن الطلبة أنه لن يحارب، لذا قامت المظاهرات لتندد بسياسته. لكن الرجل كان يمتلك خطة خداع حقيقية وأجاد استكمال الحلقات المفقودة وإعداد القوات المسلحة للحرب. وكانت حرب أكتوبر بمثابة نوع من تحدي المستحيل، حيث استطاعت القوات المصرية بكافة عناصرها عبور خط بارليف الحصين بإبداع عسكري وأن تهزم إسرائيل في مواجهات مباشرة وأن تنفي عن نفسها فكرة الخنوع والانهزامية. فالنظام المصري، في هذه الحالة على الأقل، استطاع أن يصحح مساره ويحول الفشل إلى نجاح.
> كتبت في الأهرام تحت عنوان "صورة أمريكا المهزوزة في العالم" أن الحزب الديمقراطي المنافس التقليدي للحزب الجمهوري، فشل فشلا ذريعا في إنتاج خطاب مقنع لغالبية الشعب الأمريكي، يدين فيه السياسات العدوانية لإدارة الرئيس بوش، التي جلبت لأمريكا كراهية، ويقدم في نفس الوقت بدائل للسياسة الخارجية الأمريكية". هل ما زال الوضع كما هو عليه حتى الآن؟
- الوضع اختلف كثيرا عن ذي قبل، والنقطة الحاسمة في هذا السياق تتمثل في نجاح الديمقراطيين في الانتخابات الأخيرة، حيث أصبحوا يمثلون الأغلبية في الكونجرس. وها هي زعيمة الأغلبية تطأ أقدامها دمشق بالرغم من رفض إدارة بوش واعتراضه. وقد استطاعوا تمرير قرار يقضي بسحب القوات العسكرية الأمريكية من العراق بغضون عام 2008 وربط سحبها بالموافقة على إقرار الميزانية، وبالرغم من تهديد بوش باستخدام حق الفيتو ضد القرار، وهو حق يكفله الدستور، إلا أن ذلك يبرهن على قوتهم المتناهية وخيبة أمل بوش الكبرى. عصابة المحافظين الجدد اختطفت النظام السياسي الأمريكي، هذا النظام ليس مبرأً من كل سوء، بل على العكس له جرائمه القديمة في فيتنام وأمريكا اللاتينية، لكن في النهاية النظام الحالي أغبى الأنظمة التي حكمت الولايات المتحدة على الإطلاق، وإدارة بوش ستجبر عاجلا أو آجلا على الانسحاب من المستنقع العراقي لتجر ذيول الخيبة وراءها.
> لو انتقلنا إلى إشكالية التحول نحو الديمقراطية: ما العقبة التي تقف برأيك نحو تحقيقها في عالمنا العربي المسكون بالتسلط والاستبداد؟
- العاملان الثقافي والسياسي يقفان على رأس هذه الأسباب. فنحن نمتلك تراثا هائلا من التسلط والاستبداد، وإرثا هائلا أيضا من الصراعات والنزاعات التاريخية والدينية. ومن ثم، فالتحول الديمقراطي من النظم الشمولية الاستبدادية إلى النظم الليبرالية مسألة مؤلمة وتنتج بعد مخاض طويل ومعاناة شديدة ولها ثمن لا بد أن تدفعه الشعوب المناضلة من أجل الحصول عليها. فضلا عن أن هناك بعض الدول العربية تحول أنظمتها السياسية بحكم طبيعتها دون التحول الديمقراطي لأنها لا تسمح بقيام أحزاب معارضة من أي نوع. وفي بنية المجتمع العربي عامة توجد آليات فساد معمم وفجوة طبقية تتسع يوما بعد يوم بين الأغنياء والفقراء.
> هل ما زال الوعي العربي محاصرا حتى اللحظة الراهنة؟
- مشكلة ما يسمى بالوعي القومي ليس أنه محاصر. ولكن بسبب انهيار قوة الخطاب القومي العربي التقليدي، الذي سقط مبكرا عقب فشل الوحدة المصرية السورية، حيث عمد النظام المصري آنذاك إلى فرض آلياته السياسية على النظام السوري دون اعتبار للخصوصيات القطرية، فثمة فوارق قائمة ما بين البلدين على أخطر المستويات حيوية وأشدها حساسية تتعلق بالتاريخ والثقافة وما إلى ذلك. إضافة إلى أن غزو العراق لجارته الكويت قضى على كل أمل متبق في الوحدة العربية، وهكذا تفسد السياسة الطموحات والتطلعات والآمال الشعبية. فهذا الخطاب القومي يحتاج إلى إعادة صياغة، وهو ما لن يتم إلا من خلال، التأكيد واحترام خصوصيات كل قطر من جهة، وعدم التفكير مرة أخرى في دولة الوحدة على الطريقة الناصرية التقليدية من جهة أخرى. وفي ضوء ذلك يمكن اعتماد المجتمع الفيدرالي بديلا عن دولة الوحدة واعتبار القطرية هي الأساس الذي لا يمكن التخلي عنه بدلا من اعتبارها أس المصائب وسبب التمزق، مثلما هو الحال في الخطاب القومي التقليدي الذي هو برأيي خطاب مثالي طوباوي. فالنخب السياسية التي حققت الاستقلال التاريخي لشعوبها على سبيل المثال، لم يكن من المتخيل أن تتنازل ببساطة شديدة عن الحكم لصالح حاكم عربي واحد. هذا على ألا تعمل القطرية بشكل مباشر أو غير مباشر ضد ما يمكن تسميته بالمصلحة العربية العليا.
> ماذا عن تجربة انضمامك للإخوان المسلمين في مطلع حياتك العلمية؟
- كانت تجربة خصبة بكل ما للكلمة من معنى، وكنت حينها في قسم أو شعبة الطلبة في محرم بك وانضممت لمدة أربع سنوات منذ عام 1950، ويبدو أن قادة التنظيم قد توسموا فيّ آنذاك خيرا فألحقوني بمدرسة إعداد الدعاة التي تخرجت فيها بعد سنتين داعية معتمدا، أمارس الخطابة في المساجد وألتزم بالأسس والقواعد الإخوانية. والواقع أنه كانت تشغلني مبكرا مسألة العدالة الاجتماعية في مصر، التي كانت وقتذاك من المشاكل الرئيسة إلى جانب المشكلة الوطنية ممثلة في الاحتلال الإنجليزي. كانت المشكلة الاجتماعية تبدو لي مستعصية الحل، فالفجوة التي تقع ما بين الأغنياء والفقراء تزداد يوما بعد يوم، وتتسع الطبقية في شرائح المجتمع لتفصله إلى عالمين متباعدين متمايزين، كأن أحدهما لا يمت بصلة للآخر. كنت مهموما إذاً بمعرفة سر هذه الفجوة الطبقية، سر هذا الغنى الفاحش لهؤلاء وهذا الفقر المدقع لأولاء، فمدخل البحث عن سر أو سبب الظلم الاجتماعي هو الذي دفعني للالتحاق بجماعة الإخوان والانفصال عنهم في الوقت نفسه!!.
> كيف ذلك؟
- كان الحل التقليدي لدى الجماعة يتمثل في عامل الزكاة كفريضة دينية تحقق ضربا من التوازن المطلوب. لكن حين تعمقت في البحث والتحليل اكتشفت أن مثل هذا الحل التقليدي لا يكفي ولا يصح بمفرده بديلا لحل الأزمة. لأن من يزكي على أحد تكون له اليد العليا والإحسان في حين أن المواطن يجب أن تتوفر له المواطنة، ومن ثم فمسألة الإحسان هذه لا تجوز من ناحية المواطنة لأنها تنتقص من قيمته بلا معنى. ويفضل لو قامت الدولة بأداء التزاماتها تجاه المواطنين وكفالتهم والمساواة فيما بينهم على مستوى الحقوق والواجبات، ثم يأتي دور الزكاة والأعمال الخيرية متمما لدور الدولة وليس بديلا عنه. كان هذا أحد أسباب الاختلاف الفكري، أما بالنسبة للخلاف السياسي أو العملي الذي على إثره تركت التنظيم نهائيا، فيتمثل في مطالبة قادة الإخوان مني أن أهاجم من فوق المنبر هيئة تحرير الثورة الأمر الذي رفضته وبشدة، لأنني كنت مشبعا بفكرة الثورة حتى قبل قيامها ليأسنا من الأحزاب السياسية، حيث فقد نظام الحزب مصداقيته لدى الجماهير. وكنا في انتظار ثورة ما تحدث تغييرا جذريا، وتؤثر إيجابيا في الحراك السياسي بصورة خاصة، ولما هبت رياح ثورة يوليو آمنا بها واحتضناها، وحين رفضت مهاجمتها، مؤكدا على حقي في التعبير، ردوا علي بأن الحق الشخصي في التعبير يجب أن ينصاع لرأي الأغلبية، فقلت لهم إنني حين انضممت للتنظيم لم ألغ شخصيتي ومن ثم كان الفراق. أدركت بعد ذلك أنني أحمل في طياتي بذور مثقف مستقل لا يخضع لأية تنظيمات، وعاهدت نفسي منذ ذلك الحين على ألا أنتمي إلى أية أحزاب أو تيارات. وقد كان. لأن دخولي في تنظيم ما يلزمني بالموافقة على قراراته التي قد لا أوافق عليها لأنها تقف على النقيض من قناعاتي الشخصية. كما أن من خبراتي التي اكتسبتها في هذا الإطار، أن المشرفين على أي تنظيم ليسوا بالضرورة أفضل العناصر فيه، بل على العكس من ذلك، لا يترأس هذه التنظيمات سوى أسوأ عناصرها بسبب الكواليس الخفية والألاعيب الانتخابية، ومن ثم يملون لاحقا إراداتهم ورغباتهم على بقية المنتمين. إضافة إلى ذلك، كان قد صدر قرار منذ عام 1954 بحل الأحزاب السياسية المصرية ما أكد ظني بأن السياسة في مصر قد أممت وأنه ليس ثمة مجال للممارسة السياسية المستقلة، وحين عادت الأحزاب للظهور مرة أخرى في عهد السادات لم يكن لدي أدنى توجه للانضمام الفعلي لأي حزب قائم مفضلا البقاء كمثقف مستقل.
> تبعا لهذا الاستقلال الفكري رفضت شعار «الإسلام هو الحل». - لأنه شعار لا ينطوي على معنى، فهو لا يعدو كونه عامل جذب في العملية الانتخابية لا أكثر ولا أقل. فمثلا ما علاقة الإسلام بالتكنولوجيا؟
! ولو أن ثمة معاهدة ستعرض على مجلس الشعب تتعلق بتبادل تكنولوجي بين مصر ودولة أخرى ما شأن الإسلام بها؟
! بالإضافة الى أن الجماعة التي تتبنى هذا الشعار لا تمتلك إطارا فكريا ولا حتى سياسيا متماسكا يمكن التعويل عليه، فبرنامجهم الانتخابي لم يتغير منذ عام 1928 حتى الآن، وليس لديهم وثائق فكرية يمكن مناقشتهم على أساسها باستثناء رسائل الإمام حسن البنا وخطاب سيد قطب التكفيري وما بينهما لا يوجد شيء وما بعدهما ليس ثمة جديد يذكر.
> برأيك: أي نمط من أنماط المدرك الإسلامي من المتوقع له أن يسود مستقبلا؟
- أنا ضد قيام دولة دينية بالمعنى الذي يروج له، ففيما تقوم الدولة المدنية على التشريع تحت رقابة الرأي العام تستند الدولة الدينية إلى الفتوى والمرجعية الدينية. فإيران على سبيل المثال دولة دينية لديها جهاز يسمى بمجلس تشخيص مصلحة النظام يفرض إملاءاته على القرارات البرلمانية، ويأمر بسجن وإعدام الأساتذة الإصلاحيين في المجتمع. كما أن دولة الترابي الدينية فشلت فشلا ذريعا في السودان. والدولة المدنية تعني فصل الدين عن الدولة وليس عن المجتمع، وثمة فرق بيّن بينهما، إذ لا يمكن بحال من الأحوال فصل الدين عن المجتمع لأنه فاعل أساسي في الحراك الاجتماعي، لكن الزج بالدين في تفصيلات السياسة يضر به أكثر مما يعود بالنفع عليه. فالشريعة التي يطالب الإخوان بتطبيقها مطبقة بالفعل في مصر وهو ما يبدو واضحا من خلال قانون الأحوال الشخصية، كما أن أغلب المقاصد العليا للشريعة تراعى ويتضمنها القانون الوضعي. وعلى سبيل المثال، نجد أن نظرية التعسف في استخدام الحق التي تأثر الفقه الفرنسي بالقانون الإسلامي فيها، مطبقة في القانون المصري، أما فيما يتعلق بالحدود فهي لا تخرج عن كونها مجرد عقوبات تهديدية مثلما علمنا أساتذتنا العظام في كلية الحقوق قديما، وليس الغرض منها تطبيقها بقدر ما أنها تمثل ضربا من الردع العام، وآية ذلك أن الشروط المصاحبة لتطبيقها تكاد تجعلها غير قابلة للتطبيق من الأساس.