مشاركة يوسف في الحكم

أ.د. أحمد حسن فرحات

لا شك أن المجتمع الذي عاش فيه يوسف –عليه السلام- كان مجتمعا جاهليا لم يعرف الإسلام ولم يخضع لقيمه ، وأن عقيدة الشرك كانت هي المسيطرة عليه ويظهر لنا ذلك جليا من كلام يوسف عليه السلام مخاطبا الفتيين اللذين دخلا معه السجن:

((قال لا يأتيكما طعام ترزقانه إلا نبأتكما بتأويله قبل أن يأتيكما ذلكما مما علمني ربي إني تركت ملة قوم لا يؤمنون بالله وهم بالآخرة هم كافرون   واتبعت ملة آبائي إبراهيم وإسحاق ويعقوب ما كان لنا أن نشرك بالله من شيْ ذلك من فضل الله علينا وعلى الناس ولكن أكثر الناس لا يشكرون  .  يا صاحبي السجن أأرباب متفرقون خير أم الله الواحد القهار   ما تعبدون من دونه إلا أسماء سميتموها أنتم وآباؤكم ما أنزل الله بها من سلطان إن الحكم إلا لله أمر ألا تعبدوا إلا إياه ذلك الدين القيم ولكن أكثر الناس لا يعلمون))

هذه عقيدة المجتمع كما تبدو من خلال كلام يوسف عليه السلام: مجتمع مشرك غير موحد ، لا يعرف شيئا من الإسلام وتعاليمه . ومن الطبيعي في مثل هذا المجتمع أن ينتشر الفساد الخلقي ، وأن يتعرض يوسف عليه السلام للغواية من أكبرالبيوتات في ذلك المجتمع ، من امرأة العزيز . وأن يقف العزيز من هذه المسألة موقف اللامبالاة :

((يوسف أعرض عن هذا واستغفري لذنبك إنك كنت من الخاطئين))

ويبدو – والله أعلم- أن اعتبار العزيز زوجته مذنبة ، لأنها تراود فتاها ، لا لأنه يستنكر أصل الفعل . فالجريمة بنظره أن تتطلع زوجته ، إلى عبدها الذي هو من أدنى طبقات المجتمع . وهو نفس المأخذ الذي أخذته النسوة على امرأة العزيز: ((وقال نسوة في المدينة امرأة العزيز تراود فتاها عن نفسه قد شغفها حبا إنا لنراها في ضلال مبين))

وأدركت امرأة العزيز وجه الاعتراض ، وأنه ليس على الفعل ، من الناحية الخلقية . وإنما هو لأنها ((تراود فتاها)) وقدعرفت كيف ترد اعتراضهم حينما دعتهم لزيارتها :

((فلما سمعت بمكرهن أرسلت إليهن وأعتد ت لهن متكأ وآتت كل واحدة منهن سكينا وقالت اخرج عليهن فلما رأينه أكبرنه وقطعن أيديهن وقلن حاشى لله ما هذا بشرا إن هذا إلا ملك كريم  .  قالت فذلك الذي لمتنني فيه ولقد راودته عن نفسه فاستعصم ولئن لم يفعل ما آمره ليسجنن وليكونن من الصاغرين))

ولا شك أن امرأة العزيز، نجحت في إقناع النسوة بصواب تصرفها ، وأنهن وقفن إلى جانبها ، يدعون يوسف عليه السلام ، للاستجابة لما طلبته امرأة العزيز بدلالة قول يوسف عليه السلام :

((قال رب السجن أحب إلي مما يدعونني إليه وإلا تصرف عني كيدهن أصب إليهن وأكن من الجاهلين))

لقد أصبحت الدعوة جماعية والكيد جماعيا ((يدعونني إليه)) ((كيدهن)) ((أصب إليهن)).

فالمجتمع النسائي إذن ، أقرامرأة العزيز على تصرفها ، وأخذ يفيض في الكلام حول هذا الموضوع ، وانتشرت الشائعات في كل مكان ، تستنكر على امرأة العزيز مراودة فتاها . ولم تجد امرأة العزيز أمامها إلا أن تشير على زوجها بسجنه حتى ينسى الناس القصة ويكفوا عن الخوض فيها .

((ثم بدا لهم من بعدما رأوا الآيات ليسجننه حتى حين)).

ويدخل يوسف -عليه السلام- السجن مظلوما بعدما رأوا الآيات ، والدلائل التي تبرئه ، ولكن كل شيْ يمكن أن يحدث في المجتمع الجاهلي . وهذا ينفي قول من قال: إن فرعون يوسف كان عادلا.

وبقي يوسف في السجن يعاني ، حتى هيأ الله له فرصة الخروج – كما هو معروف- وأعجب الملك بحسن تأويله للرؤيا ، وتحقق من نزاهته ، ودعاه ليستخلصه لنفسه ، وأخبره بأنه أصبح عنده مكينا أمينا .

ويرى يوسف عليه السلام ، الفرصة مواتية ، لتحمل المسؤولية في تلك المرحلة المقبلة ، التي لا يستطيعها غيره ، ويقول للملك:

((اجعلني على خزائن الأرض إني حفيظ عليم))

ويجاب إلى طلبه . ويقوم بأعباء الوزارة التي أسندت إليه.

وبذلك يشارك يوسف عليه السلام ، في حكم ذلك المجتمع ، الذي لم يكن قائما ، على أساس الإسلام - كما أشرنا إلى ذلك من قبل- .

كما يبدو - من خلال القصة - أن الحكم كان له نظامه و تقاليده ، المخالفة لما كان معروفا من شريعة بني إسرائيل . وأن يوسف عليه السلام لم يغير شيئا من نظام الملك ، الذي كان قائما . وأنه بقي على ذلك ، حتى انتهت سنوات الخصب ، وجاءت سنوات القحط ، والتي جاء فيها إخوته يطلبون المساعدة .

فلم يكن باستطاعته أن يخالف ((دين الملك)) أي: سلطانه وحكمه ليبقي أخاه . وإنما لجأ في ذلك إلى إخوته يسألهم عن الجزاء المناسب . فأشاروا عليه بما كان في شريعة يعقوب ، من استرقاق السارق ، وبذلك تمكن يوسف –عليه السلام- من إبقاء أخيه.

بل إن هذا المجتمع الجاهلي استمر على شركه ، في مقابل دعوة التوحيد التي جاءهم بها يوسف عليه السلام . ولم يستجب لها . وذلك كما يشير إليه قوله تعالى على لسان مؤمن آل فرعون:

((ولقد جاءكم يوسف من قبل بالبينات فما زلتم في شك مما جاءكم به حتى إذا هلك قلتم لن يبعث الله من بعده رسولا))

فكلمة ((فما زلتم في شك)) تدل على الاستمرار.

وهذا ينفي قول من قال: إن يوسف عليه السلام ، حول ذلك المجتمع الجاهلي إلى مجتمع إسلامي ، بعد أن تسلم الوزارة وفوضت إليه الأمور .

كما يضعف القول ، الذي انفرد به مجاهد ، من أن الملك أسلم ، حيث لا يظهر لهذا القول أي أثر ، كما لا يوجد له أي شاهد أو دليل .

ويرى ابن تيميه أن هذا المجتمع الجاهلي الكافر:

((لابد أن يكون لهم عادة وسنة ، في قبض الأموال وصرفها ، على حاشية الملك وأهل بيته وجنده ورعيته ، ولا تكون جارية على سنة الأنبياء وعدلهم .

ولم يكن يوسف يمكنه أن يفعل كما يريد ، وهو ما يراه من دين الله ، فإن القوم لم يستجيبوا له . لكن فعل الممكن من العدل والإحسان ، ونال بالسلطان من إكرام المؤمنين ، من أهل بيته ، ما لم يكن يمكن أن يناله بدون ذلك . وهذا كله داخل في قوله:

((فاتقوا الله ما استطعتم)) -   الفتاوى:     /56-57-

وكلام ابن تيميه هذا يدفع قول من قال :

إن يوسف عليه السلام فوض له الأمر في كل شيْ . وأصبح يتصرف في مصر كما يريد . بل يدفع قول من قال إنه فوض له الأمر في شؤون الأموال والاقتصاد، لأنه لا يستطيع الاقتراب من الأموال ، التي كان يتصرف فيها الملك ، فيما يخص حاشيته وأهل بيته وجنده ورعيته ، والتي لم تكن جارية على سنة الأنبياء وعدلهم. وعلى هذا أيضا يرجح ما ذهب إليه الطبري –16/151- في معنى قوله : ((وكذلك مكنا ليوسف في الأرض يتبوأ منها حيث يشاء))

حيث قال: قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره:

وهكذا وطأنا ليوسف في الأرض –يعني أرض مصر يتبوأ منها حيث يشاء ، يقول: يتخذ من أرض مصر منزلا حيث يشاء بعد الحبس والضيق .

((نصيب برحمتنا من نشاء)) : من خلقنا كما أصبنا يوسف بها فمكنا له في الأرض بعد العبودة والإسار، وبعد الإلقاء في الجب

((ولا نضيع أجر المحسنين)) :

يقول: ولا نبطل جزاء عمل من أحسن ، فأطاع ربه وعمل بما أمره ، وانتهى عما نهاه عنه . كما لم نبطل جزاء عمل يوسف إذ أحسن فأطاع الله.

هذا كلام الطبري في معنى تمكين يوسف .

على ا لرغم من ذكره بعد ذلك رواية عن ابن إسحاق :

- في أن الملك ولاه عمل إطفير بعد أن عزله ، أو بعد أن توفي وزوجه امرأته. - كما ذكر رواية عن السدي - في أن الملك استعمله على مصر وكان صاحب أمرها وكان يلي البيع والتجارة وأمرها كله .

- كما ذكر رواية عن ابن زيد يقول فيها: ((ملكناه فيما يكون فيها حيث يشاء من تلك الدنيا يصنع فيها ما يشاء ، فوضت إليه . قال: ولو شاء أن يجعل فرعون من تحت يديه ويجعله فوقه لفعل))

وما رجحه الطبري من هذه الأقوال هو الذي أخذ به الأستاذ سيد قطب في كتابه ((الظلال)) حيث قال: ((يتبوأ منها حيث يشاء)) : يتخذ منها المنزل الذي يريد والمكان الذي يريد والمكانة التي يريد في مقابل الجب وما فيه من مخاوف ، والسجن وما فيه من قيود) الظلال: 4/2014

ويشهد لهذا القول استعمال الكلمة في القرآن كما في قوله تعالى:

((وأوحينا إلى موسى وأخيه أن تبوءا لقومكما بمصر بيوتا)) –87 يونس-

وقوله:

((وأورثنا الأرض نتبوأ من الجنة حيث نشاء)) –74 الزمر-

وقوله:

((والذين ءامنوا وعملوا الصالحات لنبوئنهم من الجنة غرفا)) –58 العنكبوت- وقوله:

((وبوأكم في الأرض تتخذون من سهولها قصورا)) –74 الأعراف-.

ومما ينسجم مع ذلك كله أن يوسف عليه السلام لم يكن مطلق اليد في كل الأمور حسب التعبير الذي ورد في دعائه :

((رب قد آتيتني من الملك وعلمتني من تأويل الأحاديث..))

حيث قال الماوردي:

((وإنما قال: ((من الملك)) لأنه كان على مصر من قبل فرعون .

وعلى هذا فالراجح في ((من)) –هنا- أن تكون للتبعيض كما ذهب إلى ذلك القرطبي حيث قال: ((ومن)) من قوله ((من الملك)) : للتبعيض ، وكذلك قوله: ((وعلمتني من تأويل الأحاديث)) لأن ملك مصر ما كان كل الملك . وعلم التعبير ما كان كل العلوم)) . ثم يقول القرطبي بصيغةالتضعيف :

وقيل : ((من)) : للجنس كقوله:

((فاجتنبوا الرجس من الأوثان))

وقيل: للتأكيد ، أي: آتيتني الملك وعلمتني تأويل الأحاديث.

ويقول الآلوسي:

((رب قد آتيتني من الملك)) :

أي بعضا عظيما منه ، فـ((من)) : للتبعيض . ويبعد القول بزيادتها ، أو جعلها لبيان الجنس ، والتعظيم من مقتضيات المقام .

وبعضهم قدرعظيما في النظم الجليل ، على أنه مفعول به ، كما نقل أبو البقاء وليس بشيْ . والظاهر أنه أراد من ذلك البعض ملك مصر .

ومن ((الملك)) : ما يعم مصر وغيرها.

ويفهم من كلام بعضهم ، جواز أن يراد من الملك : مصر. ومن البعض شيْ منها . وزعم أنه لا ينافي قوله تعالى:

((مكنا ليوسف في الأرض يتبوأ منها حيث يشاء))

لأنه لم يكن مستقلا فيه وإن كان ممكنا فيه ((وفيه تأمل)).

وهذا هو الذي نرجحه لأن ((الملك)) –حين يطلق- يراد به ملك قطر، أو إقليم . أما ملك الأرض كلها ، فهذا لا وجود له بالنسبة للبشر .

وعلى هذا فالمراد بالـ((ملك)) ملك مصر و بـ((البعض)) بعضه ، لأنه لم يكن ملكا مطلقا . كما دلت عليه الأدلة السابقة والقرائن .

وأما ما قيل من أن مشاركة يوسف عليه السلام ، في هذا الحكم ، كان شيئا خاصا به ، ولا يمكن الاقتداء به في ذلك ، فيجاب عنه بأن الخصوصية تحتاج إلى دليل ، وعلى المدعي أن يثبت دعواه ، لأن الأصل أن كل ما يذكر من سير الأنبياء وهديهم إنما يراد به التأسي والاقتداء.

وكذلك قول من يقول : بأن هذا كان شريعة من قبلنا، والعمل بشريعة من قبلنا فيه خلاف بين العلماء . فيجاب عنه بأن هذه القضية ليست من فروع الشريعة التي يمكن أن تختلف فيها الشرائع ، وإنما هي من الأصول المتفق عليها ، لأن يوسف عليه السلام أقر بأن الأصل هو الحاكمية لله ، حينما قال لمن معه في السجن: ((إن الحكم إلا لله)).

ومع إقراره بهذا المبدأ ، الذي لا تختلف فيه الشرائع ، فقد شارك في الحكم وهو في ذلك قدوة لمن جاء بعده عملا بقوله تعالى:

((أولئك الذين هدى الله فبهداهم اقتده))

وخلاصة الكلام:

1-  أن يوسف عليه السلام شارك في الحكم ، في مجتمع مشرك لا يقوم الحكم فيه على قواعد الإسلام.

2-  وأن مشاركته كانت بطلب منه ، لما رأى من نفسه الأهلية الكاملة ، لعمل معين محدد

((قال اجعلني على خزائن الأرض إني حفيظ عليم)) فهو لم يطلب الملك الكامل . وإنما طلب وزارة الخزانة ، أو المالية ، نظرا لما يرجوه من دفع شر القحط الذي سيرهق العباد لسنوات عدة.

3-  أنه لم يطبق في حكمه شريعة بني اسرائيل ، إلا فيما يتعلق بإبقاء أخيه وبتدبيرمعين .

4-  أنه كان للملك نظام وقانون معين بدلالة قوله:

((ما كان ليأخذ أخاه في دين الملك))

5-  وأنه لابد للملك من أن يكون له نظام معين ، في التصرف في الأموال التي تخصه ، وتخص حاشيته . وأن يوسف عليه السلام لا يملك التدخل في تحديد صلاحياته في ذلك .

6-  وأن نظام الملك لم يكن قائما على أساس العدل بدلالة ، أن يوسف عليه السلام ألقي في السجن مظلوما ، من بعدما رأوا الآيات الدالة على براءته.

7-  وأن هذا المجتمع المشرك استمر على شركه بعد يوسف عليه السلام

((فما زلتم في شك مما جاءكم به))

وبناء على ذلك كله يظهر لنا جواز المشاركة في الحكم غير الإسلامي ، إذا كان يترتب على ذلك مصلحة كبرى أو دفع شر مستطير . ولو لم يكن بإمكان المشارك أن يغير في الأوضاع تغييرا جذريا . وما ذكر من اعتراضات على عدم جواز ذلك ، لا ينهض أمام الأدلة الواضحة التي قدمنا .

- وآخر دعوانا أن الحمدلله رب العالمين –

وسوم: العدد 857