أمتع لحظات المغاربة في حجرهم الصحي هي احتضانهم المصحف الشريف خلال صلاة التراويح في بيوتهم

شاءت إرادة الله عز وجل وهو سبحانه يفعل ما يريد وما يشاء أن يهلّ على المسلمين شهر رمضان المبارك ،وقد فرض عليهم الوباء الحجر الصحي الذي ألزمهم بيوتهم اتقاء لعدواه . ومع بداية الشهر المبارك تأسف المسلمون على فوات فرصة إحياء لياليه في بيوت الله عز وجل، ولكن الله عز وجل قيّض لهم من أهل العلم من أفتوهم بقيام الليل في بيوتهم ، وبيّنوا لهم أن الأصل في صلاة التراويح  والنوافل أن تقام في البيوت عملا بسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي خشي أن يفرض قيام رمضان جماعة على أمته، فأقامها في بيته  ليقتدى به في ذلك . وكثير من المسلمين لم يكن على علم بأن الأصل في  صلوات النوافل وصلاة التراويح  أن تقام في البيوت ، وقد اطمأنوا إلى ما بيّنه لهم علماؤهم ، وبذلك جمعوا بين سنتين لرسول الله صلى الله عليه وسلم سنة الاحتراز من العدوى كما اوصاهم بذلك ، وسنة قيام رمضان في بيوتهنم وهم في حجرهم الصحي .

وشاءت إرادة الله عز وجل أن يقبل المسلمون في مشارق الأرض ومغاربها على المصاحف الشريفة يحتضنونها وهم في قيامهم . والمغاربة  كشعب مسلم  محافظ  لا تخلو بيوتهم من مصاحف تتزين بها ويتبرك بها ، وتقبل بحرارة وخشوع كلما حملتها الأكف . ولقد جرت عادتهم أن يكثروا من تلاوة القرآن الكريم في رمضان تبركا به ورغبة في الأجر المضاعف الذي هو عشر حسنات مقابل الحرف الواحد منه ، وهو أجر يتضاعف ما دامت أجور الصلوات والنوافل تتضاعف خلال  هذا الشهر الفضيل . والجديد في علاقتهم بالمصحف الشريف هذا العام هو احتضانهم له  وهم يصلون التراويح ، وربما كان أكثرهم  يفضل الصلاة في بيوت الله عز وجل رغبة  في أجر المشي إليها وأجر أدائها مع الجماعة ، ورغبة  أيضا في استجابة دعاء  الجماعة .

ولما فرضت عليهم هذه الصلاة وهم في بيوتهم بسبب الحجر بدأ كثير منهم يسأل عن كيفية تعاملهم مع المصحف الشريف، وكيفية حمله وهم قيام ووضعه وهم ركوع أو سجود ، وعن القدر الذي يقرأ من كلام الله ، وعن تقسيم المصحف إلى أحزاب وأنصاف وأرباع وأثمان ، وعن عدد السجدات فيه  ،  وعن معاني كلماته ... إلى غير ذلك مما ربما لم يخطر ببال أهل القرآن أن كثيرا من الناس لا يعرفونه ، وربما فكر كثير منهم في الاطلاع على كتب التفاسير ليزداد علما بكتاب الله عز وجل  . كل هذا من نعم الله عز وجل على هذا الشعب المسلم وغيره من الشعوب الإسلامية إذ جعل في هذا الظرف العسير  صلتهم  تتقوى بكتابه العزيز ، وهي فرصة لم تكن متاحة لمثل هذا العدد الهائل الذي أتيحت له هذا العام . ومما زاد الناس تقربا  إلى الله تعالى من خلال كتابه الكريم هو اللجوء إليه  سبحانه خوفا من خطر الجائحة ، وهو ما جعل بعض السفهاء ينتقدونهم في دعائه والضراعة إليه  ساخرين منهم سخر الله منهم .

وأمام هذا الإقبال الكبير ولله الحمد على احتضان كتاب الله عز وجل بهذا الشكل غير المسبوق، طلع مع شديد الأسف البعض  في بعض  الفيديوهات ، والله أعلم بنواياهم بأحاديث تخوّف الناس من التعامل مع المصحف ، وتحذرهم مما سمته إثم حمل المصاحف في الصلاة ، وإثم الوقوع في الأخطاء أثناء تلاوة كلام الله عز وجل ، وهي تشدد عليهم، وتعسر خلافا لما أوصى به رسول الله صلى الله عليه وسلم  من تيسير ، وتخوض بهم في دقائق الترتيل والتجويد وقواعده وضوابطه  وهلم جرا دون أن تسرد عليهم حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي يقول فيه: " الذي يقرأ القرآن وهو ماهر به مع السفرة الكرام البررة ، والذي يقرأ القرآن ويتتعتع فيه وهو عليه شاق له أجران" ،وكان حري بأصحاب تلك الفيديوهات أن يمنعهم هذا الحديث من التعسير على الناس وأن يحجموا عن صرفهم عن كتاب الله عز وجل من خلال تخويفهم من الوقوع في الإثم وهم يحملونه أو يتلونه ، ولكنهم لم يعيروا هذا الحديث أهمية وأرادوا  تكليفهم ما لا يطيقون مما يطيقه الماهرون  بقراءة كتاب الله عز وجل . وأغلب الظن أن هؤلاء ربما قالوا ما قالوه غيرة على كتاب الله عز وجل ، ولكن قد لا يخلو أن يكون الأمر عند بعضهم شعورا منهم بأن الناس قد شغلوا عنهم وهم القراء  المهرة  أصحاب المقامات أثناء التلاوة ، وقد كانوا يقبلون عليهم ، فخافوا أن  تضيع منهم شهرتهم ، وأن يعتاد الناس قيام الليل مستقبلا  في بيوتهم بعد أن يصرف الله عز وجل عنهم  هذا البلاء . وقد تكون  والله أعلم بعض المصالح وراء تثبيط الناس من خلال التشديد في  تخويفهم من الوقوع في الإثم أثناء تلاوة كتاب الله عز وجل . وما كان يليق بهم إن كانوا من أهل القرآن الكريم أن يسلكوا هذا المسلك في النصح  خصوصا وهم يعرفون حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم : " الدين النصيحة  قالوا : لمن  يا رسول الله ؟ قال : لله ولكتابه ولرسوله ولأئمة المسلمين وعامتهم " ومن النصح لكتاب الله عز وجل جعل الناس يقبلون عليه وليس من النصح له في شيء التخويف من الإقبال عليه من خلال ذرائع واهية. وقد ظهر في بعض الفيديوهات من كان واضح الإخلاص في توجيههم إلى كيفية التعامل مع كتاب الله عز وجل بكثير من التيسير إلا أن بعضهم بالغ في التعسير ، وبلغ به الأمر حد تأثيم  من يتتعتع في قراءته معتبرا ذلك تحريفا لكلام الله عز وجل دون أن ينتبه إلى أنه يصرف الناس عن كتاب الله عز وجل وهو لا يشعر ، ومهما تكن نيتهم من وراء ذلك فإنهم جانبوا الصواب في ما قالوا   أو في ما أفتوا به وما نظنهم ممن يحق لهم الإفتاء .

وأما حمل المصحف في صلاة الترويح فقد أجازه وقوف أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها وهي تصلى خلف غلامها ذكوان  رضي الله عنه ، ولو كان في حمل المصحف في الصلاة ما يمنعه لكانت أم المؤمنين أولى بمنعه من بعض أصحاب تلك الفيديوهات . ولقد كان سيد المرسلين صلى الله عليه وسلم يحمل  في صلاته حفيدته أمامة بنت أبي العاص رضوان الله عليها ، ويضعها إذا سجد ، كما كان يحمل سبطيه الحسن والحسين رضي الله عنهما في صلاته  ، وهو إسوة المؤمنين ، فكيف يتشدد بعض أصحاب الفيديوهات في  تخويف  الناس من حمل المصاحف في صلاة التراويح . وقد بدا لهؤلاء أن ينصحوا الناس بالاكتفاء بما يحفظونه من سور قصار دون الانتباه إلى أنهم يصرفونهم عن تدبر كلام الله عز وجل، وقد واتتهم الفرصة لذلك بسبب الحجر الصحي ، وعسى أن يكون ذلك سببا في نشأة صلة متينة بينهم وبين كتاب الله عز وجل ليحيي سبحانه وتعالى بذلك قلوبهم ويشرحها لتلقي كلامه ، وتدبره والتخلق به .

وفي الأخير نقول لأصحاب تلك الفيديوهات خلّوا بين المؤمنين وبين كتاب ربهم وهو رسالته إليهم ، فعسى أن يفتح الله عز وجل عليهم وهم يقرءونه بما لم يفتح به على من يرتزقون به ، ويشترون به ثمنا قليلا . ونسأل الله تعالى الهداية لنا ولهم.      

وسوم: العدد 876