مع المجاهد الشهيد الدكتور عصام العريان

د. عبد الله الطنطاوي

 

 
  fgdfgdg936.png

ما أمسكت بالقلم لأكتب كلمة عن الأخ الدكتور عصام إ لا ارتجف القلم بيدي، وامتنع عن الكتابة، لأمر أعرفه ويبدو أنّ قلمي يعرفه، وهو أنه سيكتب عن شخصية فذة توارت على أيدي سفاح مصر، وزباينته اﻟﻤﺠرمين، في وق ت دنيا العروبة والإسلام أحوج ما تكون إليه.. إلى الدكتور عصام العريان وإخوانه الشهداء وهم كثر، وعلى رأسهم الرئيس الشهيد الدكتور محمد مرسي -.. إلى الدكتور عصام رجل العلم والتخطيط والعمل المبرمج وصاحب القلب الشجاع الذي لا يعرف شي ئا اسمه الخوف.. وهو الزعيم الطلابي، ورجل الدعوة والتربية، وهو السياسي اللامع الذي ظهرت حنكته في البرلمان المصري، وهو أصغر أعضاء البرلمان س نا، وكان نج ما ساط عا بين أعضاء ذلك البرلمان، ولذلك قتله السفاح وزبانيته، كما قتل قبله وبعده العديد العديد من رجالات الدعوة.. قاتلهم الله أنى يؤفكون.

ثم توكلت على الله وبدأت أكتب عن الأخ عصام، عن اللحظات التي لقيته فيها فيما مضى من الزمان تار كا للإخوة الكاتبين المتابعين للدكتور والقريبين منه كتابة ما عرفوه عنه.. رحمه الله تعالى رحمة واسعة، وهو كثير كثير. التقيته أول مرة في القاهرة عام 1977 م، وكان شا با ذا عينين حالمتين تحلمان بالكثير من العطاء في قابل، وكان معه شاب نسيت اسمه، ولكنني أذكر أن الأخ عصام عرَّفه لي بأنه حفيد الأستاذ الكبير محمد رشيد رضا -، كما ع رف الشابُّ عصا ما بأنه زعيم طلابي متميز لا أكثر.

سألني الأخ عصام عن العمل الطلابي في سوريا، وقال: أريد الجواب بإسهاب فشرحت له الكثير عن العمل الطلابي الذي أعرفه جي دا ف سرَّ منه، وقال:

- ومع ذلك أرجو بذل عناية أكبر، فهم الذخيرة الح ية.

فقلت مبتسما: فعلا، هم الذخيرة التي تفتح القلوب والجيوب وأيديهم على الزناد.

فلم يعلّق عصام إلا بابتسامة عذبة.

والتقيت الأستاذ عصاما مرة أخرى في بغداد، وكان معه الأخ الحبيب سيف الإسلام البنا (عليه وعلى آل البنا رحمة الله ورضوانه). جاءا لحضور المؤتمر الإسلامي الشعبي في بغداد، ومما أتذكره في تلك الزيارة الموفقة التي كانت عام 1987 م أننا نحن الثلاثة: (سيف وعصام وأنا) كنا نسير في أحد الممرات العريضة في قصر المؤتمرات، فلمحت السيد (عزت الدوري) - نائب الرئيس العراقي صدام حسين - وهو يتحدث مع بضعة أشخاص في ذلك الممر. وقفت وقلت لهم:

- أمامنا الأستاذ عزت الدوري - نائب الرئيس - وهو يعرفني وأعرفه جيدا، ولا بد أن نقف للسلام عليه.

قال الدكتور عصام:

- نقف ونسلم كما تحب.

قلت: وكما يقضي الواجب.

وفيما نحن هكذا رأيت الأستاذ الدوري مقب لا نحونا وهو يشير بيده نحونا قلت لهما:

- ها هو ذا قد أقبل نحونا..

وهجم الأستاذ الدوري على سيف الإسلام وعانقه بقوة وهو يحييه، والفرح والابتهاج يطفحان على محياه ويقول:

- يا هلا بابن مجدد القرن العشرين.. يا هلا بابن الإمام الشهيد حسن البنا (رضي الله عنه وأرضاه)..

وتابع الدوري:

- كنت أتساءل في نفسي: ما هذا النور الذي يملأ قصر المؤتمرات، ما هذه الأنوار التي تملأ بغداد والعراق.. الآن عرفت.. عرفت السبب.. السبب أن ابن الإمام العظيم حسن البنا في العراق، في بغداد..

ثم هتف الأستاذ الدوري: الله أكبر.. الله أكبر.. الله أكبر. وهتف سيف: ولله الحمد.

كنت أراقب هذا المشهد عن كثب في اندهاش، وكذلك كان عصام الذي شكر الأستاذ الدوري على هذا الاستقبال وهذه الحفاوة، وشكرته أنا أيضا.

كان هذا على هامش المؤتمر الإسلامي الشعبي الذي عقد في بغداد عام 1987 م.

وكأني بالسيد النائب عزت الدوري قد ح دث السيد الرئيس صدام حسين بشأن الأستاذ سيف، فأوعز السيد الرئيس إلى القائمين على المؤتمر أن يدعو إليه الأستاذ سيف البنا، ولكن الأستاذ سيف الإسلام اعتذر عن اللقاء، فاتصل السادة القائمون على المؤتمر، وبلغونا عن اعتذار سيف، وقالوا إن اعتذاره عن لقاء الرئيس محرج ج دا فطمأ ناهم، وأسرعت إلى الأستاذين: سيف وعصام، وضمَّ عصام صوته إلى صوتي وكلّمنا القائمين على المؤتمر بموافقة الأستاذ سيف، وح ددوا ساعة الانطلاق من الفندق، وظهرت براعة الدكتور عصام في إقناع الأخ سيف.

ورجع إلينا الأستاذ سيف والارتياح با د عليه، وحدثنا عن استقبال الرئيس له، وقال:

- استقبلني الرئيس بحفاوة بالغة مثل حفاوة نائبه بل أكثر.

قلت لسيف: ولذلك تأخرت؟

قال سيف: كنت أنظر إلى الساعة، وأنا أتحدث فابتسم الرئيس، وقال لي: الوقت مفتوح أيها المبجل.

سألته عما تحدث الرئيس في الاستقبال.

قال الدكتور عصام: ولكن بالتفصيل.

قلت: وأنا سوف أكتب بعض ما تقول.

قال الأستاذ سيف: لن أستطيع أن أقول كل ما قال الرئيس ولا نصفه ولا عشره.

قال الدكتور عصام: سم الله تعالى وابدأ.

سمى الأستاذ سيف، ثم قال والعرق يغسله:

- قال الرئيس صدام: كنت أسمع الكثير عن والدك الملهم وعن دوره في الإصلاح والحركة والجهاد وآرائه في العروبة والإسلام وحكمته في دعوته إلى الوحدة العربية والاتحاد الإسلامي، وعما أحدثه في مصر بل في العالم الإسلامي والوطن العربي ودعوته إلى تحرير البلاد العربية والإسلامية من الاستعمار، وخوضه الحرب في فلسطين ضد الاستعمار البريطاني والصهيوني، فأعجب لما أسمع عنه وأقرأ له، وعندما حدثني الأخ عزت عن وجودك هنا بادرت إلى دعوتك إلى هذا اللقاء الطيب كتعويض عن عدم اللقاء بالسيد الوالد -، باللقاء بك.

وكان الرئيس يرحب بي بين الفينة والفينة، وطلب مني أن أتحدث إليه بما أريد، فأوصيته بكم فأثنى عليكم وعلى الشعب السوري العربي الحر، وأشاد بوعيكم وتضحياتكم، وقال:

إذا كان إخواننا السوريون يريدون مني أي شيء فأنا أستمع إليك وكل طلباتهم وطلباتك مجابة بعون الله تعالى، وكذلك إذا كان للإخوان عامة أي طلب مني فأنا جاهز وأنتم تستحقون كل خير. شكرته وذكرت له بعض الأمور وأحسست أني تأخرت فكررت شكري له واستأذنته، وكان وداعه مثل استقباله وزيادة.

وعلق الدكتور عصام تعليقات إيجابية ج دا عن هذا اللقاء، ومما قال: استقبال الرئيس ونائبه والقائمين على المؤتمر يبشر بخير كثير، وواجب الإخوان عامة والسوريين، خاصة أن يستثمروا وجودهم في بلد مهم مثل العراق.

وفي بيتي في بغداد، شرفني الأخوان عصام وسيف بزيارة، وكان في اللقاء الأستاذ محمد الجراح (-) (من المعارضة السورية عن الوحدويين السوريين)، وولدي الشهيد محمود، واشتبك ولدي محمود مع الأستاذ الجراح، وكان فيما قاله محمود للأستاذ الجراح:

- الغريب يا عمو أنك متدين محافظ على صلاتك وصيامك ووالدي يصفك بصفات عربية وإسلامية رائعة ثم تكون ناصريا؟

قاطعت ولدي وطلبت منه أن يأتينا بالضيافة، وبعد انصراف الأستاذ الجراح (رحمه الله رحمة واسعة)، قال لي الدكتور عصام:

- خذ بالك من محمود واحذر أن تقمعه.. يجب أن نربي أولادنا على الجرأة في قول الحق، ولكن الأسلوب، أسلوب محمود ينبغي أن يكون ألطف مع رجل كبير.

وطلب مني أن أحدثهم عن محمود فحدثتهما باختصار شديد، فقال الدكتور:

- إن عاش محمودا - وأرجو من الله أن يعيش عمرا مديدا - فسيكون منه خير كثير إن شاء الله تعالى.

غادر الأخوان بغداد وهما يحملان في صدورهما وعقولهما آمالاً كبيرة، إذا سلّم الله العراق من تصرفات غير محسوبة بدقة. وقال الدكتور عصام: العدو شرس وهو يرصد تحركات الرئيس صدام وتطوراته الفكرية والنفسية والسياسية فانصحوه كما نصحه أخي وأستاذي سيف فهو، أعني الرئيس صدام، يحمل في نفسه وقلبه وعقله كثي را من الخير يجب أن نكون إلى جانبه لنصحه ولنستفيد منه.

وقال الأستاذ سيف: صدام عربي حر وهو مؤمن حقيقي وليس ممثلا كما يتظاهر كثير من الزعماء لخداع الشعوب المسلمة.. ما رأيك يا أبا أسامة؟

أجبت: ما أراه إلا عربيا حرا مسلما، ولكنني أخشى عليه من شدة الثقة بنفسه إلى درجة الغرور.

وقال الدكتور عصام: هذا ظاهر في كثير من تصرفاته كما أراه في الإعلام.

والتقيت الدكتور عصام مع الأستاذ والأخ الحبيب سيف الإسلام مرة ثالثة في اسطنبول عام 1993 م وقلت لهما: لدي رسالة مهمة من أستاذي الكبير اللواء محمود شيت خطاب إلى الوالدة اﻟﻤﺠاهدة السيدة زينب الغزالي متعها الله بالصحة والعافية.

قال الأستاذ سيف: سوف تكون في مطار اسطنبول الساعة العاشرة ليلا، فكن معنا في استقبالها أو أعطني الرسالة حتى أعطيها إياها.

قلت: هي رسالة شفهية، وسأكون معكم في استقبالها إن شاء الله.

قال الدكتور عصام: هل يمكننا أن نسمعها؟

قلت: بل يجب أن تسمعوها لتروا رأيكم فيها.

قال سيف: ما دخل رأينا فيها.. هي رسالة يجب أن تؤديها.

وقال الدكتور عصام: يبدو أن فيها إشكالاً فهاتها.

فقلت:

- قلت للواء خطاب أنا مسافر إلى اسطنبول، وأرجو أن تدعو لي بالتوفيق أولاً وثانيا إذا كنت تريد شيئا من اسطنبول فأنا جاهز.

قال لي خطاب: أوصل هذه الرسالة إلى الحاجة زينب الغزالي، وإذا لم ترها، فأرسلها مع أخ مصري مؤتمن.

قلت: حاضر، هاتها يا سيدي.

قال: هي كلمات.. أن تأمر الشيخ يوسف القرضاوي أن يغادر قطر إلى بلاد الله الواسعة، وليترك آل ثاني.

سألته: ولكن أين يذهب الشيخ القرضاوي؟

قال: إلى أرض الله الواسعة.. إلى عمان إلى بغداد إلى السعودية إلى أوروبا.

سلّمنا على الحاجة زينب، ونظرت فيَّ جيدا، فقلت لها: نعم أنا عبد الله الطنطاوي الذي زارك سنة 1977 م، وكنت بصحبة الأخ عصام وأشرت إليه.

قالت: تذكرتك.. أنت صديق أخي عبد المنعم.

قال الأخ عصام: الأستاذ الأخ طنطاوي يحمل إليك رسالة شفهية من اللواء محمود شيت خطاب.

قالت الحاجة في لهفة: كيف صحة الحاج محمود؟ أين رسالته؟

بلغتها سلام الحاج محمود خطاب وطمنتها عن صحته، ثم بلغتها الرسالة.

سألت الحاجة زينب: وأين يذهب الشيخ يوسف؟

قلت: أجاب الحاج محمود على تساؤلي قائلا: إلى أرض الله الواسعة.. إلى عمان إلى بغداد إلى السعودية إلى أوروبا.. الشيخ يوسف مرحّب به حيث كان ويكون..

دكتور عصام أيها الأخ اﻟﻤﺠاهد الشهيد..

سلام عليكم في الخالدين..

مع شهداء الإخوان الأبرار الأحرار..

وحسن أولئك رفيقا..

وسوم: العدد 936