ليس تاريخ الإسلام .. ولا التاريخ الإسلامي ... بل هو تاريخ مسلمين بشر .. أو تاريخ بشر مسلمين

زهير سالم*

والتاريخ كتاب العبر. ولا معنى لتجميل التاريخ ولا لتقبيحه، وإنما يُدرس التاريخ لأمور عملية أولها اقتناص العبر، والاستفادة من التجارب الإيجابي منها والسلبي على السواء. وثانيها إثبات الذات، والوثوق بالأهلية. وثالثها .. ورابعها وساديها..

في الفهم الأكثر تطورا للتاريخ، كما نص عليها ابن خلدون رحمه الله ، هو معرفة القوانين الناظمة لسير العمران، في قيام الدول نشوؤها وأفولها.. والتاريخ بهذا المعنى يفيد الاعتبار بالماضي واستشراف المستقبل.

وفي معرفتنا للتاريخ أهم ما يجدر بل ما يجب نزع عباءة القداسة عنه. فدارس التاريخ يريد أن يفهم ولا يريد أن يجمّل أو يقبح.

ونعتقد نحن المسلمين أن تاريخنا القريب – 1440- امتد على خطوط كثيرة متوازية حينا ومتقاطعة أخرى، فكان لنا تاريخنا السياسي، وتاريخنا العلمي، وتاريخنا الأدبي، وتاريخنا الديني- وتاريخنا الفكري، ومن هذه التواريخ ما يروقنا على اختلاف خلفياتنا ومنه ما لا يروق ..

على مستوى البنية السياسية حدد القرآن الكريم في آيات متفرقة منه القواعد العامة لبناء لآليات تعميم العدل وسيادة الرشد وترك للمسلمين في كل عصر أن يبنوا لأنفسهم من الآليات ما يناسبهم. وكان من أبرز هذه القواعد: العدل - المساواة - الشورى - الحرية المؤطرة - الأمن من الخوف- الصلاح الذي هو ضد الفساد - التنمية التي هي ضد العطالة والبطالة والفقر - الكفاية والتضامن والتكافل والتناصر - ويمكن أن يفصل كل ذلك بالمزيد من القواعد والشواهد ..

الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم استوفى البناء على هذه القواعد، حسب معطيات المرحلة التي عاشها. واستمر في ذلك أبو بكر وعمر وعثمان وعلي رضي الله عنهم أجمعين.

نؤمن جميعا نحن المسلمين أن رسول الله صلى الله عليه وسلم والراشدون من بعده، ساسوا الأمة التي رعوا على خير وجه متاح في البيئة التي كانوا فيها...

الزعم بأنهم بنوا "دولة " مستكملين بناءها بخير الصيغ التي يمكن أن تكون عليه الدولة وفي كل العصور، إغراق في الدعوى والادعاء والمثالية ...

وسأضرب لذلك عدة أمثلة لكي لا يسيء إلى ما أقرر مسيء

الشورى : أمر القرآن الكريم بالشورى، وامتدح أهلها، وكان الرسول الكريم أحرص عليها، وشديد الالتزام بها، ولكن بالطرق العفوية المتاحة في عصره. مشاورة وجوه الناس. رجالات المجتمع الذين حوله ، ورموز المهاجرين والأنصار وبكل هؤلاء يمضي القرار. ومثل فعله فعل الراشدون ..

وحين وضع الفقهاء مصطلح " أهل الحل والعقد " لم يقترحوا معه أي صيغة عملية تمثله، حتى بويع بالخلافة في تاريخ الإسلام لصبي، وقالوا وقلدوه السيف، والسيف أطول منه..!!

الزعم أن المسلمين كانوا السباقين إلى طرح قاعدة الشورى أو بلورتها دعوى عريضة، ولا يقول بها من شدا شيئا من علم السياسة أو التاريخ الدبلوماسي أو معرفة تاريخ الأفكار ..

لا نزعم في هذا السياق أن ممارسة " الشورى " في أثينا اليونانية " أو روما البيزنطية " كان في حالة مثالية، ولكنها كانت من حيث تبلورها في قواعد ونظام وقبل ألف سنة تقريبا من التجربة الإسلامية الوليدة، أسبق مما كان عليه الأمر في تاريخ الإسلام.

وأعود إلى قاعدة الأمن من الخوف، وأقرأ في السيرة النبوية، القراءة السياسية وليس القراءة الرغبوية ، التي تعوّد عليها كثير من الناس فأشاع بين ظهراني شباب المسلمين الغرور ...!! وهل انتشار هذه الحركات الأشد تطرفا إلا مخرجا من مخرجات الجهل والغرور..

وأعلم من السيرة النبوية، أن أحد المشركين، تمكن من صدر رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو نائم في ظل شجرة ، في إحدى الغزوات ، واستل المشرك فوق عنق رسول الله السيف يسأله: من يمنعك مني ؟؟

ثم أعلم أن امرأة يهودية من خيبر استضافت الرسول صلى الله عليه وسلم وأصحابه، وأنها حشت له السم في ذراع الشاة وأنها نالت بعض النيل من رسول الله..

وأعلم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد نزل عليه قوله تعالى (وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ) قد أمر حارسا من المسلمين كان يحرسه بالانصراف..

ثم نعلم أن ثلاثة من الراشدين قُتلوا غيلة ..

عمر في محرابه بين ظهراني المسلمين، وعثمان محاصرا في بيته على أيدي بعض الرعاع ، وعلي في طريقه إلى صلاة الفجر ..

وكل ذلك لم ينبه المسلمين الأوائل، إلى ضرورة تأسيس وحدة تحفظ " أمن "الرئيس أو الإمام " حتى جاء معاوية " الملك " فأمر ببناء المقصورة، بجانب المحراب، لكي لا يغيب عن صلاة المسلمين، ولا يعرض نفسه لخطر نال من ثلاثة خلفاء من قبله. نعلم أن النظر إلى الأمر خارج سياقه قد يبدو غريبا، ولكن لا بد لنا، ونحن نتذكر قصيدة حافظ إبراهيم عن صاحب كسرى

وراع صاحبَ كسرى أن رأى عمرا ... بين الرعية عطلا وهو راعيها

أن الأمر نفسه قد يكون مدخلا للكمال ومدخلا للنقص. طريقا إلى المدح وطريقا إلى غيره...!!

لعل الأمور التي كانت أكثر تنظيما في تاريخ دولة المسلمين، هي العقود والعهود مع المخالفين، وما سمي فيما بعد، عهد الذمة، وسمي الطرف الآخر فيه: المعاهَدين، بفتح الهاء وليس بكسرها، وحتى هذه العهود على الرغم من كثير من البنود المضيئة التي في نصوصها، تظل في كثير من الأحيان تخضع للمد والجزر، وأشد ما يكون ذلك في قصور التفريق عند عامة من الفقهاء - وليس جميعهم - بين الحقوق الدينية والمدنية، وكم شنّع إمامٌ مثل الجويني على الإمام الماوردي – وكلاهما من القرن الخامس مع تقدم الأول- لأن الماوردي سبق إلى مثل هذا التمييز، حين أقر في كتابه الأحكام السلطانية أن يتوالى " الكتابي " المعاهّد " وزرارة التنفيذ.

على العموم لقد كان شكل "الدولة الحديثة" وليد تطور إنساني حضاري شاركت فيه كل الحضارات والشرائع ..

ولقد كان للشريعة الإسلامية وللحضارة الإسلامية سهمها المعلى في هذه الشراكة، وإن نظرية "العقد" الاجتماعي التي عبر عنها جان جاك روسو ومعاصروه ، بصور شتى، هي نظرية ذات أصول إسلامية خالصة ، تسامت بأنموذج الدولة عن مفهومي الثيوقراطية والسلالية الطبقية التي كانت مسيطرة على عقول اليونان والرومان، والتي لم تخل منها قواعد المسلمين " الأئمة من قريش " والتي لم تستطع أن تنال منها حتى اليوم التفسيرات الخلدونية ولا قيام الدول السلوقية والعثمانية ..

نستطيع نحن المسلمين، أن نفخر ونعتز بكل ما قدمته شريعتنا من قواعد ومعطيات لبناء مؤسسة الحكم الرشيد، موظفين معطيات كل عصر للتأسيس للحكم الرشيد خير توظيف. ففي عصر الخيام نتحدث عن الأعمدة والأوتاد ، وفي عصر الأسمنت والحديد نبني ونعلي الحوامل والرواحل والجسور .. ( إِنَّ خَيْرَ مَنِ اسْتَأْجَرْتَ الْقَوِيُّ الأَمِينُ )

لا يمكن أبدا أن يزعم بعضنا بزخرف القول غرورا، أن سلفنا الصالحين، على حبنا إياهم، استوفوا التوجيهات الربانية القرآنية في بناء شكل "دولة الرشد والعدل" التي كانت أولى بالمسلمين وكانوا أولى بها ..

قتل ثلاثة من خلفائنا الراشدين غيلة ..

ورووا أن عمر بن عبد العزيز الذي أقام العدل في عامين قُتل مسموما ..

وتم الانقلاب على الوليد بن يزيد بن عبد الملك وشوهت صورته في التاريخ..

وقتل المأمون على الملك أخاه الأمين ..

وقتل المستنصر على الملك أباه المتوكل ..

وخلع الخليفة المستعين من خلافته، وأقيم حافيا في الشمس في حر بغداد يرفع رجلا على بلاط القصر ويضع أخرى ..

وسُملت أعين بعض الخلفاء

وتولى ابن المعتز الشاعر العباس الخلافة يوما واحدا ثم قتل عليها ..

واستسلم المستعصم لهولاكو في بضعة أيام، وسلم بغداد الجميلة للتتار..

ونزل الفرنجة الشام وسواحله وخلفاء بني العباس غائبون !!

وعمت الفتن، وكثر الهرج ، وشاع الظلم ..

في كتب مؤرخي المسلمين من أمثال ابن الأثير وابن كثير صفحات من تاريخ الوهن الاجتماعي يندى لهول ما فيها الجبين ..

ولا يمكن لكل هذا أن يحسب على الإسلام الدين والعقيدة والشريعة ، هو محسوب على البشر الذين صنعوه وارتضوه. كانت دول المسلمين تاريخية بشرية اكتسبت كثيرا من صفات القائمين عليها الخيّر بخيره، وغيره بغيره ..

والمطلوب من أجيال المسلمين وشبابهم أن يكون أكثر وعيا، وأوسع إدراكا لقواعد الحكم الرشيد .. ومن كان قادرا على أن يبدع مؤسسة أكثر عصرية وانضباطا لتنظيم حياة الناس المدنية فليفعل..

جميل أن نفتخر بتاريخنا، القريب والبعيد ، على أن نحذر موارد العطب التي كانت فيه ..

وما يعيشه المسلمون اليوم من غثائية وضياع وشتات هو في بعض أمره مخرج من مخرجات تلك القرون ..

لا نغتر ولكن نستبصر ونسترشد ونعمل ... وإن الله لمع المحسنين.

*مدير مركز الشرق العربي للدراسات الحضارية والاستراتيجية

وسوم: العدد 936