جنازات معلّقة ومخيمات بلا أفق… غزة تواجه وحدها
غزة ـ «القدس العربي»:في التاسعة إلا عشر دقائق من صباح السبت، استدار براء مجدي عطا الأغا ليطمئن أن والده سيغلق باب المنزل كما يفعل كل يوم قبل خروجهما. لم يكن يعلم أن لحظات معدودة تفصله عن رصاصة نارية من طائرة إسرائيلية مسيّرة، ستمزق جسده عند مدخل منزلهم في قاع القرين شرق خان يونس، تمامًا عند محيط الجامعة الإسلامية، حيث أراد أن يستنشق بعض الهواء بعد ليالٍ من القصف المتواصل.
وبعد أقل من ساعة، كان والده، مجدي عطا، يسير على قدميه برفقة ابن العائلة الآخر حمزة منير الأغا، عائدين من مستشفى الأوروبي، لا سيارة، لا مركبة إسعاف، فقط السير على الطريق الترابي باتجاه البيت، وسط سماء خان يونس التي لم تعد تعرف الهدوء. وعند مفترق مرتجى، أمام منزل ياسين صبري الأغا، جاءت الطائرة مجددًا، وقصفتهم بدم بارد. لم يتبقّ من جسد مجدي سوى أشلاء، توزّعت في الطرقات، كما لو أن الموت نفسه صار يتعمّد التمثيل بجثث الفلسطينيين.
قبل أحد عشر عامًا، كانت زوجته مروى جميل شاكر الأغا مع نجليه عطا ونضال، قد ارتقوا جميعًا تحت أنقاض منزلهم الذي دُمّر فوق رؤوسهم في قصف إسرائيلي فجر 29 تموز/يوليو 2014، حين شُنّت واحدة من أكثر المجازر عنفًا على العائلة، إذ استُهدف آنذاك منزلان إضافيان، واستشهد في المجمل 12 فردًا من آل الأغا في تلك الليلة الدامية.
الجمعة الماضية، اجتمع شمل العائلة مجددًا، لكن في القبر. فقد دُفن مجدي ونجله براء في قبر زوجته وطفليه، في المقبرة الغربية بالحي النمساوي غرب خان يونس. أصبح القبر بمثابة شجرة العائلة، حيث تُسجَّل الأسماء على شواهد الرخام لا في دفاتر الحياة. وبلغ عدد شهداء العائلة منذ 7 أكتوبر 2023 حتى اللحظة نحو 167 شهيدًا، بينهم 38 طفلًا و31 امرأة و19 أسيرًا تم اختطافهم خلال اجتياح خان يونس، ويُخفون قسريًا في سجون الاحتلال.
تتراكم المجازر، ويتكثّف القصف، ويغدو اسم الأغا رمزًا لمعنى فقدان عائلة كاملة. أسماء الشهداء في هذا الفصل الأخير وحده تكفي لتدوين مرثية وطن: «مجدي عطا فضل الأغا (60 عامًا). براء مجدي عطا الأغا (19 عامًا). حمزة منير حمدي الأغا (24 عامًا). ففي غزة، لا يُولد الناس فقط، بل يُدفنون وهم أحياء في ذاكرة المذابح.
الجنوب
تحت نار الغارات
في أقل من شهرين، نفذت طائرات الاحتلال أكثر من 2000 غارة جوية على مناطق مختلفة جنوب القطاع، أبرزها رفح وخان يونس ودير البلح. كانت الأهداف في معظمها منازل سكنية، وأحياء مكتظة بالنازحين، ومرافق خدمية.
في خان يونس تصاعدت وتيرة القصف المدفعي والجوي بشكل متواتر، استُهدفت عبسان الكبيرة شرقي المدينة، فيما اندلعت حرائق ضخمة في الحي السعودي غربي مدينة رفح بعد غارات ليلية.
في شمالي قطاع غزة أجواء غير اعتيادية، قلق وخوف وتحليق بارتفاعات منخفضة للطائرات بشتى أنواعها على أوقات متفاوتة ومتناوبة، وإطلاق نار من رشاشات الآليات المتمركز في شمال مدينة بيت لاهيا وأبراج الندى.
وصباح أمس الباكر شهدت مدينة غزة عدة مجازر، استشهد خمسة شهداء نتيجة استهداف الطيران المروحي لخيمة للنازحين في شارع الثلاثيني وسط المدينة، وفي شرقيها نقل شهداء ومصابين بعد قصف خيمة تأوي نازحين في حي الصبرة قرب مسجد عبد الله عزام.
أما في دير البلح، فشهدت المجمعات السكنية ومخيمات النزوح ضربات مباشرة، أدت إلى استشهاد العشرات، بينهم أطفال ونساء. ورُصد استخدام ذخائر شديدة الانفجار.
هذا التصعيد، حسب مصادر فلسطينية، يندرج في سياق سياسة «الأرض المحروقة» التي ينتهجها جيش الاحتلال، بهدف خلق منطقة أمنية عازلة، ودفع السكان نحو مزيد من النزوح.
وقال قيادي ميداني في أحد فصائل المقاومة المشاركة في الغرفة المشتركة، فضل عدم ذكر اسمه: «اللي بصير هسا عدوان شامل، بدهم يخلّوا الجنوب فاضي، يفرّغونا من الأرض، وكلها حجج، بس احنا صامدين، ومش راح نترك الميدان».
هذه الغارات ليست مجرد أرقام في نشرات الأخبار، بل خيوط من نار تمزّق ما تبقى من الحياة في غزة.
استهداف
الإنسان والمكان
لا تفرّق الصواريخ بين بيت وعيادة أو بين مخيم ومخبز. في يومٍ واحد فقط، قصفت الطائرات الإسرائيلية مستشفى الصداقة التركي في تل الهوى، ما أدى إلى تدمير أجزاء واسعة منه، ووقوع إصابات خطيرة في صفوف المرضى والطواقم الطبية.
كما سُوّيت منازل كثيرة بالأرض وهي تأوي آلاف العائلات. لم يعد أحد يشعر بالأمان، لا في المستشفيات، ولا في المدارس، ولا حتى في الخيام.
يقول الطبيب محمد أبو جزر من المستشفى الأوروبي لـ«القدس العربي»: «نحن ننقل الجرحى على عربات يدوية، لا وقود ولا إسعافات كافية، ولا حتى شاش طبي. أحيانًا الموت أسرع من أي محاولة إنقاذ».
ويضيف المسعف فادي قشطة لـ«القدس العربي»: «نبحث على المصابين والضحايا بين الركام، الناس بتصرخ، وكل واحد منهم يريد أن يسعفه، لكن الإمكانيات صفر، والاحتلال يقصف حتى وقت الإنقاذ».
الاستهدافات هذه ليست أخطاء عشوائية كما تزعم إسرائيل، بل سياسة ممنهجة لتفكيك ما تبقى من شبكة الحياة في غزة.
تحت القصف.. من خيمة لأخرى
آلاف العائلات من رفح اضطرت لمغادرة خيامها في مواصي خانيونس باتجاه مناطق أخرى بسبب القصف المستمر، لكن القصف يلاحقهم حيثما ذهبوا، كأن لا مكان آمنا في هذا الشريط المحاصر.
سناء أبو طه، نازحة من رفح، تقول: «صرنا نبدّل الخيمة كل يومين، أولادي، يصحوا مرعوبين من تنطر الطيران، لا يوجد أكل كفاية، ولا دواء، والسماء طول الوقت بتمطر نار».
أما إبراهيم أبو لبدة، فيقول: «معي 6 أطفال، وكل يوم أبحث عن المياه والأكل، ابنتي الصغيرة لا أستطيع أن أدبر لها حليبا وهذا أبسط شيء لتغذيتها، حتى الخبز بنلاقيه بالعافية».
في مشهد بات مألوفًا، تُحمل النساء أطفالهن الهزيلين ويبحثن عن ظل، فيما يركض الصغار بين الخيام بأقدام حافية ووجوه متربة.
هيفاء سكر، نازحة من الشجاعية، قالت لـ«القدس العربي»: «صرنا نعيش على بقايا عدس وأرز ومعلبات فاسدة. نساء غزة اعتدن على القصف والقتل، يدفن أولادهن بأيدهن».
صمود ما زال حاضرا
رغم القصف المكثف والدمار الواسع، تواصلت عمليات إطلاق الصواريخ من غزة باتجاه مدن الاحتلال. وأعلنت كتائب القسام وسرايا القدس مسؤوليتهما عن تنفيذ رمايات صاروخية وصفت بأنها «تأديبية» ردًا على المجازر بحق المدنيين.
كما نُفذت عمليات ميدانية ضد قوات الاحتلال شرق الشجاعية ورفح، منها تفجير عبوات ناسفة ومفخخات.
يقول المحلل العسكري الفلسطيني محمود بشير: «صحيح أن المقاومة أبطأت وتيرة عملياتها الكبيرة، لكن هذا لا يعني تراجعًا. هي الآن تعتمد تكتيكات استنزاف، وتُبقي جبهة النار مفتوحة، لتؤكد أنها ما زالت حاضرة ومؤثرة».
ويضيف: «في الوقت اللي بتحاول فيه إسرائيل تروّج أنها قضت على قدرات المقاومة، الحقيقة بتقول إن توازن الردع تغيّر، لكنه ما انهار».
المقاومة، رغم الظروف المأساوية، ما زالت تُبقي المعركة مفتوحة، وترفض أن تُسلّم غزة بالكامل للمحرقة.
سياسة بلا أفق
منذ 19 كانون الثاني/يناير 2025، وُقّع اتفاق هش لوقف إطلاق النار، تضمّن ترتيبات لتبادل أسرى وانسحابا تدريجيا. لكن إسرائيل، بعد أسابيع، عادت للتصعيد بدون مبرر.
مصادر دبلوماسية تحدثت عن فشل الجهود المصرية والقطرية مؤخرًا، في ظل تعنت الحكومة الإسرائيلية ورفضها إدراج أي بند يخص الأسرى أو إعادة إعمار القطاع.
يقول الباحث السياسي حسام الدجني: «إسرائيل لا تبحث عن حلول، وإنما عن استمرار الهيمنة. انهيار الهدنة كان متوقعًا، لأن الاحتلال لم يلتزم يومًا بأي اتفاق».
وأضاف،لـ»القدس العربي»: «الوضع الآن يسير نحو انفجار إنساني، وكل المؤشرات تقول إن القادم أسوأ ما لم يتحرك المجتمع الدولي».
في هذا السياق، تتردد في الأوساط السياسية أحاديث متزايدة عن خطة أمريكية «قديمة-جديدة» لإدارة غزة، تُنسب لفريق الرئيس الأمريكي دونالد ترامب، وتتمثل في تشكيل حكومة تكنوقراط بلا ارتباط سياسي، تعمل تحت إشراف أمريكي-إقليمي. الخطة، وإن لم تُعلن رسميًا، يجري تسويقها باعتبارها حلًا لما بعد الحرب، ويُقال إنها ستفرض تنازلات على حماس.
وعن هذه الخطة، يقول الدجني: «هذه الخطة هي محاولة التفافية لتقويض أي مشروع وطني فلسطيني. يريدون أن يضعوا إدارة فنية ظاهرها مدني، لكن جوهرها سياسي أمني، يخدم إسرائيل ويجمل الاحتلال».
ويضيف: «نحن لسنا بحاجة لحكومة تكنوقراط من الخارج، نحن بحاجة لتحرير سياسي حقيقي، ليست وصاية جديدة بثوب دولي».
في المقابل، ما زالت حماس تعتبر أن أي اتفاق لا يشمل وقف العدوان وعودة النازحين وتبادلًا جديًا للأسرى، هو خديعة جديدة لا أكثر.
صمت العالم ودم غزة
في نهاية يوم السبت، وبعد أن تفرق جمع المشيعين، بقيت رائحة الدم في أزقة غزة خان يونس، وبقيت عائلات تفقد فلذات أكبادها.
لكن غزة لم تعد تعدّ شهداءها. بات العدد يفوق الحصر، والوجع أكبر من قدرة الذاكرة. وبينما تطارد الطائرات أرواح المدنيين، وتُهدم البيوت فوق ساكنيها، تقف الإنسانية صامتة أمام المشهد. فما تزال غزة تنزف، والدم لم يجف بعد.
وسوم: العدد 1126