هل أسامح ؟

هل أسامح ؟

ربيع عرابي

جوابا على سؤال الدكتور فيصل القاسم :

هل تعتقد أن العلويين في سوريا جنوا على أنفسهم؟

لامس قرص الشمس صفحة البحر، وراح يلملم في جعبته الأشعة الشاردة في جنبات السماء، معلنا نيته في الرحيل، مُسْلِمَاً البلد إلى ليل طويل ... عدة أيام عصيبة مرت بلياليها، حُرِمَت فيها العينُ طعمَ النوم، وحار القلم وهو يرمق صفحات قلبي البيضاء، هل يخط عليها بعضا من آلامه وأحزانه، أم يبقيها حبيسة الصدور، بعيدة عن العيون والآذان.

جلست أمام النافذة ...

وفتحت كتاب الذكريات ...

في صفحته الأولى مرت أسماء كثيرة، كابن كثير والذهبي وابن العديم، وغيرهم من المؤرخين الذين راحوا يعددون جرائم النصيرية وفتنهم، وأفعالهم عبر التاريخ، وما أشاعوه من قتل ورعب وسرقة ونهب وفواحش في جبلة وبانياس وطرابلس وغيرها من مدن الشام، ناهيك عن إيواءهم للصليبيين في قراهم وحصونهم، والتحالف مع التتار في غزوهم لبلاد الشام، وكان ذروة هذه الجرائم حين ساندوا تيمورلنك الذي كان على مِلَّتِهم وعقيدتهم، وساعدوه في اجتياح حلب ودمشق والتنكيل بأهلها ونهبها وتدمير معالمها.

وتخيلت (درة الصدف)، الشبيحة العلوية التي جاءت مع أربعين من قريناتها، يندبن ويبكين، ويطلبن من تيمورلنك الإنتقام لأهل البيت، الذين جيء بنسائهن سبايا إلى الشام (كما زعمت)، فمشى الشبيحات العلويات مع جيوش التتار، يحرضن الجند على القتل والإغتصاب والفجور في شوارع دمشق وأزقتها، حتى اشتُرِيَ دم من بقي من أهلها حياً بحفنة من الأحذية العتيقة، بعد أن ذُبح أبناؤها، ودُمِّرَت مساجدها، ونُهبت دورها.

ولم تكن (درة الصدف) هذه قصة مفتراة على العلويين، ألفها أعدائهم من الإرهابيين التكفيريين، بل هو ما ذكره مؤرخ النصيرية محمد أمين غالب الطويل في كتابه الشهير تاريخ العلويين.

وفهمت حينها مبررات ابن تيمية ودوافعه، في فتاويه الصارمة القاطعة، في شأن هذه الطائفة، واعتبارها طائفةً مارقةً مجرمة، لم يسلم من أذاها وشرورها البشر ولا الشجر ولا الحجر.

هززت رأسي بعنف وأنا أحاول إطفاء النيران المتأججة في الصدر، ورحت أعاتب نفسي بلسان نفسي : مالي وللتاريخ والماضي البعيد، قومٌ قد أفضوا إلى ما عملوا، فلنا ما اكتسبنا ولهم ما اكتسبوا، فلم النكش في غابر الزمان، وتنكيد العيش في كان وكان.

فإما أن نختار الماضي بمؤرخيه وفقهائه وقضاته وفتاويه، فنعيش مع الأموات، وإما أن نحرص على اللحمة الوطنية، والتلاحم العضوي، والعيش المشترك بين مكونات الأمة، فنبني معا حاضراً جديداً ومستقبلاً نظيفاً، بعيداً عن ابن كثير وابن تيمية والتائفية البغيضة.

أجل سأنسى ... وأعفو وأصفح وأسامح ...

وقلبت مسرعاً صفحة من كتاب الذكريات ...

 

بدا ليون بلوم وزير الخارجية الفرنسي اليهودي، معتمراً قبعته، يقرأ الرسالة التي تلقاها للتو من قرنائه العلويين، مذيلة بتواقيع أعيان الطائفة بما فيهم جد المغضوب الخالد1، يعلنون فيها براءتهم من العرب والمسلمين والسوريين، وعطفهم على اليهود المظلومين في فلسطين، مطالبين بانفصالهم في دولة طائفية علوية مستقلة، وذلك بعد أن دخلت جيوش فرنسا الغازية مناطق النصيريين عام 1919 م، أي قبل عام من دخولها إلى دمشق، نتيجة للتنسيق والتعاون مع الطائفة، والذي استمر قرابة قرن من الزمان، منذ أيام نابليون بونابرت، وترسخ وتأكد في الإجتماعات الدورية التي كانت تعقد في قنصليتي فرنسا في اللاذقية وبيروت.

وأنشأت فرنسا الغازية عقب ذلك قوات المشرق الخاصة عام 1921 م، وكان قوامها من العلويين والشركس والأرمن، وأوكلت لها مهمة قمع الإحتجاجات والثورات في كل البلاد، وعند انسحابها الشكلي من سوريا عام الجلاء، اشترطت أن تشكل هذه القوات نواة الجيش السوري الجديد.

هززت رأسي مرة أخرى بعنف، فيبدو أني لازلت أنكأ الجروح وأنبش القبور، فتفوح منها رائحة العفن والخيانة، لم لا ندع الخلق للخالق، ونحاول بناء تاريخ جديد، بعيداً عن التطرف والذكريات المريرة، متحررين من التائفية البغيضة، متمسكين باللحمة الوطنية، مؤكدين على التلاحم العضوي، ومصرين على العيش المشترك.

بالتأكيد سأنسى ... وأعفو وأصفح وأسامح ...

وقلبت مسرعاً صفحة من كتاب الذكريات ...

 

هاهي الجموع تخرج مهنئةً المغضوب الخالد، بعد نجاحه في تصفية رفاقه، واستيلائه على الحكم بالغدر والخيانة والخسة والنذالة، ونجاحه في صفقة بيع الجولان، وتصفية الجيش السوري القديم، ليؤسس على أنقاضه جيشاً من المشردين الحفاة، الذين استحقوا بجدارة لقب (جيش أبو شحاطة) دون منازع، واضعاً طائفته على رأس هذه المجاميع الجديدة، ومسلطاً عليها وعلى الناس، بضعة عشر جهازاً أمنياً، جوياً وأرضياً، وسياسياً وعسكرياً، وداخلياً وخارجياً، لاهم لها جميعا ولا شغل، إلا إحصاء أنفاس الناس ورصد أحلامهم، والتجسس على خلجات نفوسهم.

سنوات قليلة أحكم فيها المغضوب الخالد الطوق، على الجيش والأمن والإقتصاد ومؤسسات الدولة والمجتمع، فأعلن بعدها حرباً سافرةً على الإسلام والمسلمين، وعلى قيم المجتمع وثقافته، وعلى علمائه ومفكريه، حرباً شعواء لا خلق فيها ولا ضمير، ولا قيم ولا مباديء، ولا تنتمي إلى عالم البشر ولا حتى إلى عالم السباع، حرباً كان قادتها من الطائفة، وجندها من الطائفة، وشعاراتها بلهجة الطائفة، ونتائجها تصب في جيوب الطائفة.

جداول وأسماء وأرقام، ملأت صفحات من كتاب الذكريات ... شهداء تدمر خيرة شباب البلد من أطباء ومهندسين وعلماء وأفاضل، حصدهم رصاص الطائفة، وهم سجناء الزنازين، عزلاً من السلاح.

مابين ثلاثين إلى خمسين ألفاً من الرجال والنساء والأطفال، فجعت بهم حماة على أيدي زبانية الطائفة، نساء قطعت سواعدهن وهن أحياء لأخذ ما عليها من ذهب وحلي، وأخريات أخرجن عاريات ليهتفن بحياة المغضوب الخالد، ووقفت الكيلانية2 تبكي شهداءها وتاريخها وعراقتها، وهي تستمع إلى أخي المغضوب الخالد3، يقسم أن يحول مجدها وكرامتها إلى مراقص وحانات للخمر في خدمة الطائفة، وفجور الطائفة.

كانت عيون أمي كسيرة، تسائلني دامعة، كيف أنسى دماء أهلها في حماة ...

كانت نظرات أبي قاسية، فكيف أنسى سنوات سجنه في أقبية الطائفة ...

كانا عاتبين أن لم أحضر جنازتيهما لأرافقهما إلى مثواهما الأخير، لم يفهما أن ضابطاً علوياً قزماً سفيهاً، يعمل في عصابة مافيوية أمنية، لا تساوي قيمته وقدرَه ومكانته وخلقه وسلوكه هو وجهازه الأمني، حفاضا مستعملا لطفل شهيد، رأى في وجودي داخل الوطن، خطراً ماحقاً على اللحمة الوطنية، والتلاحم العضوي، وتعكيراً للعيش المشترك، فقرر أن يبقيني في الغربة، بعيداً عن سقف الوطن وأحضانه.

فهل يمكن أن تُنسى أو تُتناسى، ظلمة السجون، ووحشة المعتقلات، ومرارة الغربة، وقسوة الترحال ...

وهل تُدفن الآلام، وتُهمل الجراحات، وتُسكت المواجع ...

وهل أنسى ... وهل أعفو وأصفح وأسامح ...

وقلبت مسرعاً صفحة من كتاب الذكريات ...

 

أمة عربية واحدة ذات رسالة خالدة

فصل في تعريف اللحمة الوطنية والتلاحم العضوي والعيش المشترك

ثمة تعريف عصري لهذه المفردات، تفتقت عنه قريحة الطائفة ومفكروها، وطوروها من لدن زكي الأرسوزي إلى يومنا هذا، مفاده أن على الغالبية العظمى من أبناء الشعب، أن تتخلى عن معتقداتها وأعرافها وتقاليدها، وحتى تاريخها وموروثاتها الثقافية، إرضاءً للطائفة.

فالتعايش والتلاحم واللحمة، هو في التوافق مع الطائفة في كل شيء، حتى في اللهجة والمفردات المستعملة، فما عليك إلا أن تنتسب إلى دورة لغوية، لتقاقي كما تقاقي الطائفة، وتتقن استخدام المصطلحات الطائفية في مواضعها، وكلما انحدرت في هذه الهاوية، وانتكس ذوقك وسليقتك، أصبحت أكثر تلاحما مع الوطن.

ولكي يتم ذلك :

فلا بد للمصلي أن يدع الصلاة ... فالطائفة لا تصلي.

ولا بد للصائم أن يفطر رمضان ... فالطائفة لا تصوم.

ولا بد للعفيفة والعفيف، أن يكشفا عوراتهما، ويجاهرا بالفحش والفاحشة، حتى لا يجرحا مشاعر منحلي الطائفة، أو طائفة المنحلين.

وعلى الذواقة أن يتركوا مطابخهم، الحلبية والشامية والحموية والحمصية، ويتآلفوا مع عادات الطائفة.

وحتى أصحاب النغم والمزاج، عليهم أن يعتادوا سماع أغاني الديك في الصباح، بدلا من فيروز، مراعاة لمشاعر الطائفة ومزاجها.

وكل من يشذ عن ذلك فهو عدو اللحمة الوطنية، مُفَكِّكٌ للتلاحم العضوي، رافضٌ للعيش المشترك، كارهٌ للإفرازات الثورية، وأمثال هؤلاء مكانهم : القبر أو السجن أو الغربة إن حالفهم الحظ.

فمن ينسى ... ومن يعفو ويصفح ويسامح ...

وقلبت مسرعاً صفحة من كتاب الذكريات ...

 

هاهي الشمطاء الحيزبون، تركض لاهثةً من بلد إلى بلد، بعد أن تورط سيدها بإغتيال الحريري، تحاول استجداء المغتربين الفارين من جنة المغضوب الخالد، راجية أن يمدوا يد العون للوطن المستهدف، ناسية أو متناسية في خطابها، كل مفردات الطائفة القميئة، فلا بعث ولا اشتراكية ولا لحمة ولا تلاحم، بل حديث يدور حول الإنفتاح والتطوير والتحديث، والديمقراطية وحق التعبير والإنتخاب.

تذكرت يوم أن غُرِّرَ بالكثيرين، فنسوا، وعفوا وصفحوا وسامحوا، وعادوا للوطن ليبذلوا ما وسعهم من جهد في بناء ما خربته الطائفة، لكن الوطن كان حذراً متربصاً، يراقب خطواتهم وحركاتهم وسكناتهم عن قرب، ويسجل خواطرهم وهمساتهم، ليقيس مدى استمتاعهم باللحمة الوطنية، وتقبلهم للتلاحم العضوي، واعتيادهم على الإفرازات الثورية، فلما تبين للوطن فشل العديد منهم في ذلك كله، ما كان منه إلا أن استدعاهم إلى حظائره الأمنية، حيث كان عليهم أن يستجيبوا لأحد أمرين :

فبما أنهم كانوا في الخارج في مهمة وطنية - دون أن يدروا - ليجنوا من ثروات الغربة، وينهلوا من خيراتها، فعليهم أن يصبوا ثمرة عمرهم، ونتاج كدهم، في حضن الطائفة، عفوا (الوطن).

أو عليهم أن يسردوا أمام المحققين، أسماء أصدقائهم ومعارفهم القدامى، قبل خروجهم من حضن الوطن، أولئك الأصدقاء والمعارف الذين تآمروا معهم في غابر الدهر والأيام قبل ثلاثين أو أربعين من السنين، ضد اللحمة والتلاحم والعيش، فالجرائم ضد اللحمة والتلاحم لا تموت بالتقادم، ولا يمحوها توالي الأيام.

كان المخبر علوياً، والمستدعي علوياً، والمستقبل علوياً، والمرافق علوياً، والمحقق علوياً، والشبيح المنفوخ علوياً، وعقيدهم أو عميدهم علوياً، وكان المجرمون رجال مثقفون وبسطاء، ونساء محجبات وسافرات، وأئمة مساجد وطلاب جامعات، يقوم باستجوابهم ومساءلتهم سفهاء وجهلة وسفلة من الطائفة، يتعاملون مع الناس كما يتعامل المحتل مع ابن البلد.

كم كان مهيناً حين وبخ المحقق كهلاً، أن باع بيتاً واشترى آخر في نفس الحي الذي يقطن فيه، دون إذن المحقق وموافقته، فكيف يجرؤ على تجاوز ضابط الطائفة في تغيير بيته، فليس مسموحاً لأبناء البلد أن يتصرفوا في ممتلكاتهم، إلا بإذن سادتهم من الطائفة، فالملك ملك الطائفة، والأمر والنهي للطائفة، ومصلحة الوطن لا يقدرها إلا ضباط الطائفة.

وكانت النتيجة المحسومة للمغرر بهم، من المغتربين العائدين إلى حضن الوطن، أن يساق بعضهم إلى أقبية المعتقلات، جراء تطاولهم على اللحمة الوطنية، وتلاعبهم بحضن الوطن وسقفه، أو يحملهم عصفور رباني خلسة على جناحه، بعيداً عن سطوة الطائفة وبطشها، ليستعيدوا كرامتهم وحريتهم وإنسانيتهم من جديد بعد أن يغادروا حدود الطائفة (الوطن).

فهل أنسى ... وهل أعفو وأصفح وأسامح ...

وقلبت مسرعاً صفحة من كتاب الذكريات ...

 

هاهم أطفال درعا، يرسمون على جدرانها بأناملهم الغضة نافذة صغيرة، تتسلل منها نسائم الحرية، فتصحو من غفوتها جميع ورود الشام وأزهارها، وتهب رياح التغيير فتتبدد أمامها حجب الظلام، وتنقشع رائحة العفن.

هل لأطفال في عمر الورود، أن ينجحوا فيما فشل فيه آباؤهم من قبل، وهل لأنامل صغيرة ضعيفة، أن تزيح الطائفة عن ظهر الوطن، فيرتاح من أذى الطائفة أبناء الوطن.

راحت صور وأسماء الشهداء تتلاحق صفحة بعد صفحة، افتتح سجلهم حمزة الخطيب، وتتالت قوافلهم في كل قرية وبلدة ومدينة، ارتقت أرواحهم ذبحاً وحرقاً وسماً، ففي كل ركن، وفي كل درب، تربصت بهم حراب الطائفة، وسكاكين الطائفة، وسواطير الطائفة، وخناجر الطائفة.

لن أذكر الأسماء فهي محفوظة عند رب السماء، ولن أحكي القصص فهي محفورة في قلب كل إنسان سوري من غير فصيلة الطائفة، ومن غير فصيلة مذيعة الشيطان، سُجِّلَت حكاياتها على عناقيد داريا، وجدران البيضاء، ومزارع الحولة، وخبز حلفايا، وغيرها كثير.

كان ياسين ضاحكا مبتسما، يبدو أنه زف إلى عروسه في السماء، بعد أن خانته فطوم على أرض الوطن، وميكا الصحفية اليابانية، أخذت معها تذكارا من أرض الشهداء، وطَلُّ لازالت أبية خلف القضبان تنتظر غضبة الأحرار، وروح عبد القادر صالح ترفرف فوق الجموع، وأطفال الغوطة يرشفون من لبن الجنة وعسلها، بدلا من سموم الطائفة وقنابلها، وبعيدا عن رجس الطائفة ونجسها.

وأطلت الشهيدة ذات الرأس المقطوع، تحمل رأسها بيمناها، ولعبتها بيسراها، تلعب مع صديقها الطفل الشهيد، وهما يشيران إلي من بعيد، وقد علت البسمة وجهيهما، فأصغيت إلى همساتهما وهما يتمتمان :

قال لي الطفل الشهيد ضاحكاً : لقد أخبرت الله بكل شيء.

وقالت لي الشهيدة مبتسمة : دمي ودم إخوتي الشهداء والأحياء برقبتك

وصاحا معا وهما يلعبان :

عمو : لا تحزن و لا تخش علينا فنحن هنا آمنين.

عمو : دمنا ودم إخوتنا أمانة في رقبتك، فلا تضيعه.

عمو : لا تستسلم لطيبة القلب كعادتك، فتكون سبباً في ذبح جيل جديد من أبناء الشام.

عمو : إخوتنا الأحياء، إحمهم من غدر الطائفة، وخناجر الطائفة، وسكاكين الطائفة.

عمو : إياك أن تنسى ... وإياك أن تعفو أو تصفح أو تسامح ...

وانطلقا بعيدا يمرحان في الجنان.

 

طويت كتاب الذكريات على عجل ...

والتمست كتاب الله، أداوي بآياته آلامي وأحزاني، وأبحث فيه عن بلسم لجراحاتي، ورحت أرتل قوله تعالى :

"إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلَا فِي الْأَرْضِ وَجَعَلَ أَهْلَهَا شِيَعًا يَسْتَضْعِفُ طَائِفَةً مِّنْهُمْ يُذَبِّحُ أَبْنَاءَهُمْ وَيَسْتَحْيِي نِسَاءَهُمْ ۚ إِنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ ﴿٤﴾" - القصص.

لم يكن فرعون لينجح في طغيانه وإجرامه ونظامه الطائفي، لولا أن ساندته في ذلك كله فئات ثلاث : الآل و القوم و الملأ، فالآل هم أهله وعائلته وأقرباؤه، والقوم هم قبيلته وطائفته التي سلطها على رقاب الناس، والملأ هم أهل النفوذ والسلطة من أي فئة كانوا، وهم الذين أعانوه وسايروه، برروا أفعاله وغطوا على جرائمه، كقارون الذي كان من قوم موسى فبغى عليهم.

وشمل العقاب الجميع : غرقا لفرعون ... وخسفا بقارون ... ودمارا حل بالطائفة الباغية كلها.

وحين طلب فرعون العفو والصفح والسماح، بعد أن لاحت النهاية الأليمة في الأفق، جاءه الجواب الصارم القاطع :

"وَجَاوَزْنَا بِبَنِي إِسْرَائِيلَ الْبَحْرَ فَأَتْبَعَهُمْ فِرْعَوْنُ وَجُنُودُهُ بَغْيًا وَعَدْوًا ۖ حَتَّىٰ إِذَا أَدْرَكَهُ الْغَرَقُ قَالَ آمَنتُ أَنَّهُ لَا إِلَـٰهَ إِلَّا الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُو إِسْرَائِيلَ وَأَنَا مِنَ الْمُسْلِمِينَ ﴿٩٠﴾ آلْآنَ وَقَدْ عَصَيْتَ قَبْلُ وَكُنتَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ ﴿٩١﴾" - يونس.

فالمسؤول عن الجريمة الطائفية هو فرعون وجنده، لكن العقاب عم الآل والقوم :

"وَدَمَّرْنَا مَا كَانَ يَصْنَعُ فِرْعَوْنُ وَقَوْمُهُ وَمَا كَانُوا يَعْرِشُونَ ﴿١٣٧﴾" - الأعراف.

نزلت الطمـأنينة على قلبي، بعد أن اتخذت قراري، وجلست أنتظر الفجر القريب، لأسجد لله طالبا منه العون والمدد.

فأنا لن أنسى ... ولن أعفو أو أصفح أو أسامح ...

فالطائفة كلها مسؤولة ومحاسبة، عن خيانة الأمة، وتشريد الآمنين، وقتل الأبناء، وذبح الأطفال والنساء، وتدمير الممتلكات، وانتهاك الحرمات، وسرقة الأموال، والتحالف مع الأعداء.

فلا ضمان ولا أمان لقاتل، ومن أراد ضماناً أو أماناً، فليركب البحر كما ركبه أبناؤنا، لتنهش الحيتان لحمه كما نهشت لحوم فلذات أكبادنا، وليذوق مرارة الجوع والبرد في الخيم، كما ذاقها نساؤنا وأطفالنا، وليستمتع بلحمة طهران الوطنية، وإفرازات موسكو الثورية، وحضن الوطن الباريسي الدافيء.

لن أضحك على نفسي بعد اليوم، ولن أخون دماء الشهداء، فالقاتل المجرم معروف، لازال يحمل السكين والخنجر والسيف والساطور بيده.

لست مصاصاً للدماء، ولم أكن داعيا للقتل والثأر والإنتقام، لكن على الجميع أن يفهم جيداً باللغة التي يتقنها، أن دماءنا لن تكون رخيصة بعد اليوم، وأن الطائفة مساءلة عما اقترفه أبناؤها بحق الأمة.

أما أنا فسأعيش نباتياً ... مكتفياً بزهور الشام وورودها، بدلا من اللحمة الوطنية الفاسدة.

وسأعيش طاهراً شريفاً ... تاركاً التلاحم العضوي لأهله من طائفة الفسقة.

وستظل رايتي كقلبي ... بيضاء أموية عمرية4 ... ترتل على منابر الشام : "إِنَّ اللَّـهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَىٰ وَيَنْهَىٰ عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنكَرِ وَالْبَغْيِ ۚ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ ﴿٩٠﴾" - النحل.

وسيبقى وطني سقفه رحمة السماء ... وحضنه ترتيل الشهداء.

وسيبقى وطني إمامه أبا بكر ... وقدوته عمر ... وحبيبه عثمان ... وسيفه علي.

وسيبقى وطني أمه عائشة ... وسيدة نسائه فاطمة.

ملاحظات :

1- المغضوب الخالد : حافظ الأسد.

2- الكيلانية : أحد أحياء حماة القديمة الأثرية.

3- أخو المغضوب الخالد : رفعت الأسد.

4- نسبة إلى عمر بن عبد العزيز.