قراءة في مجموعة "دون أن أرتوي"

بن العربي غرابي

شعرية البقاء والتجاوز

قراءة في مجموعة "دون أن أرتوي"

قصائد مختارة للشاعرة خلود المعلا

بن العربي غرابي

ميسور ، المغرب

عن دار الصدى صدرت مختارات للشاعرة الإماراتية خلود المعلا بعنوان مثير " دون أن أرتوي " ليتضمن شذرات من أهم ما كتبته الشاعرة في أربعة دواوين سابقة ( ربما هنا – هاء الغائب – وحدك – هنا ضيعت الزمن ). وإذا كان الشعر افتتانا بالكلمة  وغواية بسحرها المخاتل والمراوغ، فإن الشعر يكتسب ألقا إضافيا ووساما فنيا وجماليا إضافيا عندما تخطه أنامل أنثوية ب "نوتات" الرقة الزائدة والعاطفة المتضخمة.

الشعر متنفس الشاعر وملاذه، وفي ساحته الفاتنة والمخيفة يطرح تساؤلاته وانشغالاته التي تختلف بالضرورة عن انشغالاتنا وتساؤلاتنا، لأن الشاعر أقدر من غيره على سبر الواقع النفسي الباطن له ولجماعته وأمته والإنسانية بأسرها. وفي تاريخنا العربي عموما ظل الشعر صناعة ذكورية رغم الاعتراف المتكرر بأن المرأة أخصب عاطفة وأثرى من حيث الأحاسيسُ والمشاعر والانفعالات، وهذا في الحقيقة يثير الكثير من الأسئلة : كيف نفسر هامشية واختناق الإبداع الشعري النسوي في تاريخ أبداعنا الشعري المديد بالقرون؟ هل لخلل بنيوي في التركيبة الذهنية للنساء؟ فهذا لا نسلم به إطلاقا لأنه يتنافي مع أبسط المعلومات في علم النفس والذكاء الاصطناعي والبيولوجيا....هل المسؤول عن ذلك الظروف السوسيولوجية التي دفعت بالرجل إلى الواجهة وزجت بالنساء في دوامة الصمت والموت؟. قد يرد علينا في ادعائنا شخص يقول إن أشعار النساء العربيات من الكثرة بحيث أصبحت مبثوثة في كتب التراث والكثير من الأبحاث الحديثة، ولكننا نعتقد أن إبداع المرأة العربية لم يكن يملك معشار التأثير الذي امتلكه الشعر الذكوري. والعجيب أن عرش الشعر النسائي العربي تتربع عليه الشاعرة المخضرمة الخنساء في رثاء أخويها صخر ومعاوية، وذلك لأن المرأة أغزر دموعا وأعمق تنهدا برأينا، بينما خنق التاريخ أصواتا شعرية في غرض الحب كان من الممكن أن تصبح قامات سامقة لو تعهدها النقد وأخذ بأيديها. إن اطلاعا متواضعا على إسهامات المرأة في تاريخنا يقودنا إلى أنها ساهمت في الحروب ورافقت الجيوش أكثر مما كتبت الشعر وأبدعت فيه رغم أن كيان المرأة يصلح للشعر ويتناقض كليا مع المعارك والدماء. أما شهرزاد، تلك الساردة الأسطورية فلعلها الشخصية التي تلخص وظيفة المرأة العربية التي اكتفت بوضع دوني تمارس السرد ليلا لتليين عريكة الرجل وإغماد السيوف ووضع أدوات العمل التي كانت طيلة النهار ممشوقة ومشرعة في قبضة عضلاته المفتولة، ورغم أن دور شهرزاد لايستهان به في ليل السرد فإن مهمتها تنتهي تماما ببزوغ أول خيط من خيوط النهار لتتعطل طاقاتها كليا.

ولو تحدثنا عن المرأة العربية في عصورنا الحديثة لقلنا إنها منعت من الكتابة كفعل واع تمارسه الذات عن قناعة وطواعية وتصميم ذاتي دون إكراهات عصابية، ولم يتخلق ذلك الوعي إلا عندما زحفت رياح الحداثة العالمية بقضها وقضيضها وغثها وسمينها، فأطلت الأصوات المخنوقة من ملاجئها راغبة في التعبير والمشاركة الفكرية، وهذا لا يعني أننا نستهين إطلاقا بالإرادة النسوية التي تجاوزت بوعي أشكال العقبات التي حالت طيلة قرون دون تفتحها وانبجاسها.

هبت رياح النهضة في الربوع المشرقية بداية، فكان لزاما أن تستفيق المرأة وتنتفض باحثة عن وضع أفضل، ثم انتقل التأثير إلى شمال إفريقيا وأخيرا الخليج العربي لتنطلق المشاركة النسوية على قدم وساق في كل المناحي الفكرية كاشفة عن قدرات هائلة حُرمناها بتقزيمها وإبطالها، وكثيرا ما يصلنا من نجد والربوع العربية الحجازية صوت نسوي شعري يبهرنا ويمتعنا، ومن القامات الإبداعية الشاعرة الإماراتية العربية خلود المعلا التي سنحاول في ورقتنا النقدية هاته الكشف عن بعض رهاناتها الإبداعية في مختاراتها الشعرية " دون أن أرتوي ".

1 – الانفتاح والرغبة في التواصل: في التفاتة نقدية على قدر من الذكاء والحصافة، كثيرا ما تورد الشاعرة كلمة " نافذة أو نوافذ " ( صفحة 14 – 15 – 25 – 39 – 43 – 46 – 77 – 84 – 115 – 135 – 139 )، والإطلال من النافذة رغبة جامحة في التواصل مع الآخر قد تكون مرفقة بنرجسية تسكن الذات تمنعها من النزول إلى حيث يوجد الآخرون، وقد تكون نتيجةَ قزمية الذات وعجزها عن مشاركة الآخرين الفعلية والأفقية لعملية التواصل وجها لوجه. النافذة ثقب في جدار عال غالبا عن قامات الناس في الأرض تتلصص فيه الذات النظراتِ من علٍ بدوافع متعددة كالخوف والكبرياء والرفضوالشفقة والتشفي، فهل نملك الجرأة على التنبؤ لنقولإن بقدر ما تملك الشاعرة رغبة ملتهبة في التواصل مع الخارج، لا تجد الظروف مهيأة لإنجاحه وإتمامه وعقده؟ توهمنا الشاعرة بالتحايل الفني المشروع أن اعتمادها على النافذة لا ينتقص تماما من وجودها، بل يخلق لها التحرر والتوحد بالكون، تقول في قصيدة " حرة تماما ":

حرة تماما / أنظر من نافذتي الضيقة / فأرى الكون كاملا / تنجلي أسراره الكبرى / هكذا / حرة تماما / ألون تفاصيلي الصغيرة بلون الثلج / أتصالح مع اللحظة التي تدخلني لذةَ الأشياء. ص 14.

بل تعتقد أن إطلالها من نافذتها حرس إنسانيها لأنه عصمها من الكما، والكمال موت في عرف الشعراء الدائمي البحث عن التغير:

من نافذتي الضيقة أطل / أنعم في التمدد / وسمائي مبللة بالحياة / أمارس ولعي بقطف ثمار وجودي / عاريةً من إصاباتي القديمة / عارية من الصمت المفرط حولي / حرة تماما / كي لا أكتمل. ص 15 

في قصيدة " مسيرتي الجديدة "تتعهد بأت تظل نوافذها مشرعة، لأن ذلك يكسِبها القدرة الصوفية على التواصل الدائري والباطني مع الذات أولا:

لن أغلق نوافذي بعد الآن / سأرفع أسدال كعبتي / أمضي قدما / غير آبهة بالنفوس القاحلة / هكذا أكشفني / أتبين ما تبقى من الجسد والذاكرة / أقرأني بصوت عال / أمرن حنجرتي على الصراخ / ليصحو النائمون / سأكون أفضل مما مضى / وما سيمضي. ص 39

لكن نوافذ الشاعرة في قصيدة " لا يسمعني أحد " لا تؤدي وظيفة التواصل التي تنتظرها:

نوافذي تنفتح على أرض تكتظ بالتائهين / كلما هبت نسمة كونية / هربتُ من ظلي / وطرت نحو أولئك المحزونين / لا  يسمعني أحد من هؤلاء. ص 47

والحقيقة أن الشاعرة استطاعت بعمق كافٍ ورؤية فنية أن ترتقي بالنافذة من دلالتها المعجمية الاجتماعية المتفق عليها إلى دلالة ذاتية وخاصة بها، أي تحولت النافذة إلى رمز للتواصل له وعليه الكثير مما يمكن أن يقال، تقول في قصيدة " في غفلة من الوقت ":

النوافذ لا تفتح أبوابها للسجناء / والأسوار تزحف للسماء / كلما سال القلب في بئره.ص115

والرغبة في التواصل تعكس الانفتاح على الآخر والاحتماء من نرجسية الذات وأوهامها الإقصائية، وشاعرتنا تدرك أن الانكفاء على الذات والتقوقع في شرنقتها يجعلها ككتاب منسي مهجور، ولا قيمة للكتاب إلا في مقروئيته، تقول في قصيدة " لو أنه " :

لو أنه يفتح فنجاني / ويحدث نجمي / لو يقرأ طالع قلبي / ويدخل مداراتي / سيعرفني / في روح أماس حيرى / أقاليم عامرة بالبوح / دفاتر ما قرئت / ما كتبت / ما فتحت / حكايات من ألف دهر / لو يقرأ آياتي / يكشف أسرارا قدسية / نورا يرتد من لوني / جسدا مفتونا بالفجر / دفئا آخر / وحده لو يجمع أوراقي / تصير الشمس قصيدتنا / وبكائي أغنية / وغمامي أنهارا كبرى / سيحط نجمه فيَّ / سيعرفني / ويفهم كتاب صلاتي / أزليا يبقى / مأخوذا بالسر الأكبر / لو يعرفني. ص95

2 – التجاوز والإصرار على الحياة: لا تستسلم الشاعرة للأقدار تعصف بها كما تشاء، ولا تنهار أمام ضرباتها وغاراتها، بل تتشبه بطائر الفينيق الذي يحترق ولا يموت فينبعث من رماده منتصبا ومنتفضا وصانعا لحياة جديدة. والحقيقة أننا –كقراء – لا نتساهل أبدا مع المبدع والشاعر خصوصا عندما يستلذ العيش في الكهوف بلغة الشابي العظيم، ونتعاطف مع الشاعر الكبير الذي بقدر ما تحاول الحياة إخضاعه وتكتيف يديه يرفعهما في وجهها محتجا ورافضا ومتمردا. الشاعرة تمتلك إرادة من فولاذ بها تستطيع الصمود والمقاومة والتشبث بحبل الحياة، وبذلك تُقبل على الحياة وتنفتح عليها غير منشغلة بمن رفع الراية البيضاء وانبطح مستسلما وقنع بالجحور والكهوف، تقول في قصيدة "مسيرتي الجديدة":

سأرفع أسدال كعبتي / أمضي قدما / غير آبهة بالنفوس القاحلة / هكذا أكشفني / ....سأختصر العتمة منذ الآن / أتدخل في تحديد مسارات الريح / لتتسع حقولي تحت سماء تستحق المطر / أبلغ قمة الجبال النقية / اضيء شمسا في سماء العالم.ص 39

ترفض الشاعرة العدم والتقليد وانتظار الحظ والصدفة وتدعو على العكس من كل ذلك إلى مواجهة الحياة والوقوف بصلابة في وجهها، وذلك يتطلب مجهودا ضخما يتمثل في تحرير الذات من الأصفاد الداخلية وطبقات الجليد التي تكبلها، تقول في قصيدة "دون مبالاة":

لن أتمدد على فراش اللاشيء/ لن أبقى عالقة بما يرتبه الآخرون/ لن أبالي بأطباق يقدمها الحظ/ لن أصدق طالعي أبدا/ سأعتلي اليوم قمة الموجة/ نحو الضفة الحية/ أعبر عواصف ورعودا/ ودون مبالاة/ أكشف وأنكشف/ مرتكبة فعل الولادة من جديد.ص29

وفيما تسعى الأجواء الخارجية إلى إخضاع الشاعرة وإفراغها من كينونتها وإرادتها ترفع التحدي شعارا، تقول في قصيدة ":

لن يهزمني فعل السنين أبدا/ أنا من يقرر النهاية/ وحين أختم سيرتي/ سأخرج من هذا العالم بجناحين شفيفين/ محدثة رذاذا مضيئا/ ربيعا آخر/ في مكان آخر.ص67.

وتشق الشاعرة لنفسها اختيارا جديدا وتصنع سلاحا ناجعا تتصدى به لاكفهرار الواقع من حولها، إنه سلاح التصالح مع الألم قصد تدجينه واكتساب مودته، تقول في قصيدة "وهم النجاة":

أحاول أن أفهم الألم/ لأفك رموزه داخلي/ أستريح/ أحاول أن أمرن حواسي على الانطفاء/ لأتمكن من قراءة الصحف اليومية/ وأن أتعلم مبادئ البلادة/ لأمارس تمارينها برشاقة بعد كل فنجان قهوة صباحي/ احاول أن أختبئ داخلي بانفتاح/ لأنجو من الولوج في متاهة هذا العالم/ أحاول أن أترك رأسي يرتاح بين كفي/ مستندا على صمت العدم الرتيب/ لتهدأ صفاراتي الدماغية/ واغفو على حلم/ بلا أمل في الصحو. ص63

3 – الخوف ورِعدة الوساوس: إننا لا نشحذ عزائمنا إلا لنتجاوز هزائمنا ولا نعتصم بالآمال إلا لنتدارك الآلام، وهذا واجبنا كسلالة منذورة لتعي واقعها ومهووسة دائما بتغيير الواقع نحو الأسمى والأفضل والأسعد. تعترف الشاعرة بعلاقتها المتوترة مع الآخرين، وهذا بالطبع ينعكس سلبا على الذات لإتصاب بلوثة الاغتراب، لذلك تغوص في أعماقها لتكتشف نفسها من جديد كقارّة عزلاء منسية بلغة درويش العظيم، تقول في قصيدة "صارت نهرا":

من أعرفهم يجهلونني/ لا أحد يدخل تفاصيلي/ أتوه كثيرا/ أضيع الملامح/ فمن يدلني علي/ لألقاني/ وأستعيد صباي. ص93

والحقيقة أن الخوف ملازم للإنسان كالظل ولم ينج منه منذ أن كان عالة على الطبيعة إلى أن صار اليوم سيدها والمتحكم في أسرارها، والخوف ليس شعورا باتولوجيا ما دامت أسبابه موجودة، تقول في قصيدة "حين أقرر النهاية":

السنون تتأملني/ بلطف تتحسس فعلها فيَّ/ تصر على إصابتي بالذبول. ص67.

ونتفق تماما مع الشاعرة في اعتبار الزمن البعبع الذي يخيف الإنسان وينغص عليه حياته لأنه يمتلك فاعلية التدمير والفناء ، فبقدر ما نبتسم للزمن أحيانا عندما يلقي إلينا بعظم نتعرقه، فإنه يكيد إلينا باستمرار ليوقعنا في دوامة الضياع والنهاية. تقول الشاعرة في قصيدة "وجع مستديم":

كلما سقطت دمعة في الذاكرة/ توجع القلب/ توجسا/ مما سيسقط غدا.ص19

4 – الدرس الأخلاقي: نرفض تماما أن يتحول الشعر على منبر لتلقين الدروس الأخلاقية والوعظية، لأننا نخون أمانة الشعر المتمثلة في إثارة الأسئلة وإثارة الجمال من ركامات القبح والفساد وليس توجيه رسائل القيم المعلبة إلى القارئ، لأن القارئ لا يلجأ إلى الشعر عندما يشعر بفراغ روحي أو تشويش في المعتقد والإيديولوجيا.وجدنا الشاعرة في مواطن كثيرة تشير إلى أهميةالمحبة ودورها في تحقيق شرط السعادة. تقول في قصيدة " نكهة خاصة بنا" بنكهة نثرية:

هناك أشياء في الوجود غير قابلة للشفاء/ لا شيء إلا لأننا/ نخبئ عقاقير المحبة عن بعضنا/ وندعي الانكشاف. ص57

وبنفس المنظور تقول عن الصدق في قصيدة "أرق":

تيقنت أن الصدق وريد المحبة/ وأن بمن هم مثلي/ يتحقق الكمال. ص69

ورغم أن الشاعرة تغلف محبتها بغطاء صوفي فإنها تفشل في جعل المحبة موضوعا شعريا وسؤالا فنيا.تقول في قصيدة "مدفوعة بمحبتي":

للنفس حوائجها/ قرآن الليل جناحي/ لاصله عامرة وسرمدية/ أبواب جنتي هو حارسها/ والبحر بين يديه نهر/ في الليل ياخذني الشعر إليه/ فأنشغل/ ويشفني الوجد/ .....حاملة عشقي للبلاد/ فينبثق النور.ص90

وأخيرا نقول إجمالا إن الشاعرة تملك الكثير من القدرة على اللعب الشعري لصنع كون شعري ينمو في تربة المغايرة والاختلاف والفرادة، ولا نسجل على الشاعرة سوى اتخاذ الشعر قناة للتوصيل الأخلاقي والدعاية له، ولكننا نختم ورقتنا بقول المتنبي العظيم:

لئن يكن الفعل الذي ساء واحدا **** فأفعاله اللائي سررن ألوف.

* دون أن أرتوي، قصائد مختارة، خلود المعلا، دار الصدى ديسمبر 2011، كتاب دبي الثقافية 56.