بهاء وجمال في اللبن الشرقية 2

بهاء وجمال في اللبن الشرقية

الحلقة الثانية

زياد جيوسي

[email protected]

عضو لجنة العلاقات الدولية في
اتحاد كتاب الانترنت العرب

بهاء وجمال في اللبن الشرقية وعدسة زياد جيوسي

 حين وقفت في أعلى التلة أنظر إلى الواد، نحو ما تبقى من (خربة ذيب) من أراضي اللبن الشرقية، كان المشهد في عمومه رائعاً بجماله، حيث الطبيعة الخلابة وأشجار الزيتون، ومشهد الواد الذي كانت تنتشر فيه ينابيع المياه، فشعرت بالبهاء والجمال، وتنشقت الهواء النقي بقوة، فهنا الهواء بكر غير ملوث إلا بوجود الاحتلال، وهذه الخربة ساد حولها الكثير من الأساطير المتعلقة بالذهب وما زالت تأثيراتها على عقول الناس قائمة، وإن كنت قد رأيت الذهب بأرضها وموقعها وزيتونها الرومي القديم، فهذا هو الذهب الحقيقي، فحين وقفنا في أعلى التلة حيث المسافة التي تمكنت السيارة من السير فيها محدودة، رأيت الجمال وسحر الطبيعة والأرض، وفي أعلى التلة توقفنا عند (الكبارة) وتلفظ الكاف بمزج الجيم مع الشين حسب اللهجة المحلية، وهي عبارة عن حفرة ضخمة محاطة بالحجارة، وتوضع بها الحجارة الجيرية وتشعل النيران لعدة أيام حتى تحترق وتتحول لمادة الجير (الشيد)، ولها استخدامات عدة وخصوصاً في طلاء المنازل قبل أن تسيطر الدهانات بأنواعها على الأسواق، إضافة على مقاومة الآفات الزراعية في جذوع الأشجار، وقد أنشأها كل من محمد أحمد الحامد والد الأستاذ حامد الذي رافقني الرحلة مع صحبه، وكذلك أحمد موسى ضراغمة، ومن هناك انحدرنا سيراً على الأقدام باتجاه الخربة، ومن بين أشجار الزيتون على الرغم من وعورة المنطقة، إلا أن التجوال بين الصخور والأشجار وبقايا البيوت التي تهدمت كان له متعة خاصة لا يعرفها إلا من اعتاد التجوال في الجبال والارتباط بالأرض.

ما تبقى من بنيان خربة ذيب في اللبن الشرقية وعدسة زياد جيوسي

 من طبيعة الحجارة في المنطقة، يتضح أن المنطقة كانت مأهولة في عهد الرومان، ومن طبيعة الكهوف يتضح أن المنطقة كانت مأهولة منذ ما قبل الرومان، فمثال لذلك مغارة الشيخ هندي وداخلها عبارة عن أقسام محفورة بالصخر، ويظهر أنها استخدمت بعد ذلك كمدفن حيث وجدت في داخلها عظام بشرية، وهناك العديد من الكهوف في المنطقة تدلل على تاريخ ضارب في القدم، وصخور منحوتة وحجارة بناء ضخمة، تعب عليها الأجداد عبر عصور حتى وصلت إلى آل ذيب، فتركوا خلفهم أسطورة الذهب المتداولة منذ فترة زمنية طويلة، وقد لاحظت في أكثر من موقع حفريات قام بها لصوص الآثار، وقد لاحظت حفرية لم يمر عليها أكثر من ليلة، فالتراب كان نديّاً، ووجدت بجوار التراب زجاجة ماء بلاستيكية ما زالت نظيفة من الخارج، والماء متعرق بداخلها، فالمؤسف أن لصوص الآثار ما زالوا يصولون ويجولون، يخربون ويدمرون ويسرقون، وجل ما يسرقونه من تراثنا يبيعونه لتجار الآثار من المحتلين الصهاينة للتجارة من جانب، ولمحاولة خلق تاريخ وهمي يدعم أسطورة كاذبة أن وطننا هي الأرض الموعودة.

لصوص الآثار مروا من هنا وبقايا فخار حطموه وعدسة زياد جيوسي

 وحسب الروايات التي استمعت لها فإن آل ذيب استقروا فيها، وكانوا أثرياء من خلال تجارتهم بالمنتجات الزراعية، ويجمعون الذهب الذي يحصلون عليه من هذه التجارة الرابحة في جرار فخارية، وقال لي الحاج أبو باسل وهو من رجالات البلدة الكبار في السن، وقد استضافنا على أكواب من الشاي بكرم وطيبة، إن جده محمد الحسن وكان مختاراً في المنطقة مع ابن شقيقه وبعض من رجالات الأسرة، قاموا بدفن أربعة من جرار الذهب في مكان ما من هذه الخربة، مستنداً كما غيره لرواية عن الحاجة زهرة رحمها الله، وكانت طفلة حيث أكدت أنها كانت مع النساء اللواتي حملن جرار الذهب إلى أعلى الخربة، ثم استلم الرجال الذهب منهن وأعادوهن إلى البلدة، وقاموا بإخفاء ثرواتهم، ثم سافروا إلى بلدة (طفس) في سهول حوران السورية، حيث قتلوا هناك ودفن سرهم معهم، وما زال الواهمون بأحلام الذهب منذ تلك الفترة ينقبون ويبحثون.

ومن هنا مر لصوص الآثار والحفريات داخل الكهف وعدسة زياد جيوسي

 غادرنا المنطقة متجهين إلى أعلى التلة حيث تركنا السيارة، وفي كل خطوة سرتها كنت أتأمل مساحات من الصخور التي تروي حكايات التاريخ والأجداد، وحقيقة وعلى الرغم من ارتفاع درجة الحرارة وزحف سنوات العمر، إلا أنني كنت أشعر بنفسي شاباً في مقتبل العمر وأنا اقفز بين الصخور متأملاً جمال المنطقة، ومستمعاً لهمسات أرواح الأجداد تروي لي الحكايات، يضيف لها أصدقاء الرحلة وأصحاب الدعوة الكثير من المعلومات، فكانت الرفقة ممتعة بصحبة الإخوة جمال ضراغمة رئيس المجلس وصديقي عبد الحليم ضراغمة والأستاذ حامد الهندي، لنمر بتلة الراس وهي تلة مرتفعة ومرت بها مراحل تاريخية متعددة كباقي المنطقة ما يعرضها لتنقيب لصوص الآثار، ثم نواصل المسير باتجاه البلدة، حيث حكايات أخرى ترويها اللبن الشرقية، هذه الحمامة البيضاء الهادئة والتي تحمل خلف صمتها الآف الحكايات.

 

مغارة الشيخ هندي في خربة ذيب في اللبن الشرقية وعدسة زياد جيوسي

 مثل كل بلداتنا فالأماكن والمباني التراثية تعرضت للإهمال وللتلف والدمار والخراب، وهجرها أهلها إلى مباني جديدة بأغلبها بيوت إسمنتية، والبعض منها من الحجارة البيضاء التي تشتهر فيها فلسطين، وبكل أسف أن الحجارة القديمة لم تستغل لبناء المباني الجديدة كي تحمل في ثنايا حداثتها روح التاريخ والتراث، علماً أن الاحتلال يحاول دائماً الحصول على هذه الحجارة، ويبنيها من جديد ويدعي أنها بعض من التراث العبري، بينما نحن أولى أن نحافظ على هذا التراث، كما يحاول الحصول على الزيتونات الرومانية من خلال الخلع والمصادرة، ليعيد زراعتها مدعياً أن أجدادهم الموهومون هم من زرعوها.

 بدأت الجولة في ربوع البلدة القديمة برفقة صحبي، وبدأت الزيارة للمسجد العمري القديم، وبكل أسف كان بحالة غير مريحة، فالمسجد الجديد برونقه وحداثته استولى على الاهتمام، وهذا المسجد يعود بأصوله إلى كنيسة رومانية، وهذا يدلل على عمق تاريخ بلدة اللبن، والمفترض أن يتم المحافظة على هذا الأثر التراثي والتاريخي، وأن لا يتم إهماله حتى يؤول للخراب، ومن ثم مررنا بديوان لأحد العائلات، وانتبهت أن البناء يحتوي بين الاسمنت المبني به على أعمدة رومانية، وتحت المبنى وحسب ما تحدث به صحبي يوجد نفق مغلق يمتد حتى خلف المسجد الجديد، وحسب الوصف فهو عبارة عن حجرات محفورة على جانبي النفق، ما يدلل أنه سوق ومكان للسكن في مراحل قديمة من التاريخ، وأن اللبن التراثية بنيت فوق البلدة الأقدم التي غمرتها الأتربة والهجرات والحروب، ويتوارث الناس مقولات وأساطير عن هذا النفق أن الناس كانوا يختبئون به حين تهب (ريح صرصر) كما يسمونها، وأنا تمنيت لو أن النفق غير مغلق لأدخله بنفسي وأوثقه بالصور، فحسب مشاهداتي وقراءاتي، فهذا النفق هو البلدة الأصلية الضاربة جذورها في التاريخ.

الأعمدة الرومانية ضاعت بالبنيان الحديث وعدسة زياد جيوسي

 الحديث يطول عن نواحي بلدة اللبن وبهائها والجمال، فأقف لنافذتي في هذا الصباح الجميل، أروي ورودي وحوض النعناع وأستذكر جماليات الرحلة في ربوع هذه الحمامة البيضاء التي تفرد جناحيها على التلال، حيث كل ما فيها يروي حكايات وروايات، وكلها تؤكد على تاريخ حضاري متميز وجميل، بناه الأجداد بعرقهم وأياديهم العارية، وحق لأرواحهم أن نحافظ على هذا التراث وفاءً لهم ولتاريخنا، ولأجيال قادمة لم تعش ما عشناه بعد، لتروي لهم حكاية شعب كنعان عبر التاريخ، فأتنشق الهواء الطلق البكر قبل أن تلوثه عوادم السيارات، وأستقبل اليوم الأول فلكياً من الصيف، وأحتسي فنجان قهوتي مع روح طيفي التي تلازمني بحبها، وأستمع لفيروز وسحر صوتها تشدو: (سلال الزراعين تلال الوعر علالي الشيح ضيعتنا، غناني الحطابين صخور السمر حراش الريح ضيعتنا، يا مطارح شربين بيادر حصادين شبابيك الحلوين ضيعتنا، يا قمر يا عالي يا معلق بالشجر، يا حلو يا غالي يا لافي من السفر، خبرني خبر عن ليلة السهر عن قصة القمر عسطوح ضيعتنا)

 وحتى ألتقي بكم في استكمال حكاية اللبن الحمامة البيضاء والحلقة الثالثة أهمس لكم: ليكن صباحكم أجمل..