كفر اللبد وعبق الشومر 2

كفر اللبد وعبق الشومر

الحلقة الثانية

زياد جيوسي

[email protected]

عضو لجنة العلاقات الدولية في
اتحاد كتاب الانترنت العرب

حين وقفت على تل مقام الشيخ صالح، كنت أنظر نحو الغرب والساحل، وأتنسم النسمات الغربية الآتية من بحرنا المستلب، وأهمس لنفسي: متى ستلفظهم الشواطئ وتستقبل النوارس التي هُجرت؟ وبعد وقفة ربما لم ينتبه صحبي للألم الذي كان يعتصرني، مررنا من بين الأزقة التي تروي الحكايات، لنلتقي بسيارة البلدية التي سيتجشم سائقها عناء نقلنا إلى تلة شومر، وما أن دخلنا السيارة حتى كان صوت العرب من القاهرة يتصل بي كالمعتاد ليجري معي حديثاً، فتحدثت؛ وعرّفت المذيع إلى صحبي عبر الهاتف، وسجل معهم بعض الأحاديث أيضاً حول ذكرى الهزيمة التي سميناها (نكبة)، وفقداننا الوطن، فأوقفت السيارة، واستغل السائق الطيب انشغالي بالحديث لينـزل ويحضر لنا العصير والماء، وهذه بعض من سمات الطيبة والكرم عند أهل كفر اللبد.

زياد جيوسي وخالد الهمشري في الكنيسة الرومانية

 في تلة الشومر بعدسة سامح صقر

صعدت بنا السيارة في طريق صعب جداً، ولولا أن السيارة ذات دفع رباعي ومصممة لمثل هذه الجبال، لكان يستحيل صعودها، لكني لم أشعر بصعوبة الطريق كثيراً، فقد كنت أتأمل التلال والطبيعة الخلابة وسحرها، والتقط الصور من خلال النافذة، وأستمع لشروحات صديقي خالد الهمشري عن المنطقة والعصور التي مرت بها، فهو بحكم دراسته للآثار وعمله كمدير لمتاحف الشمال يمتلك معلومات جيدة ومفيدة، بينما الأحبة الذين رافقوني الجولة متطوعين من أبناء البلدة وهم سامح صقر ونشأت محفوظ ومروان محمد حسن، يعرفون عن واقعها وحاضرها الكثير، واستمعت منهم لأحاديث لطيفة عن زيارات لهم للمنطقة، وكانوا يتخوفون أن تأتينا دوريات الاحتلال، فقد استولى الاحتلال على تلة بتلك المنطقة جعل منها محطة اتصالات، وفي مقابلها استولى على مساحات واسعة من الأرض وأنشأ مستوطنة (عناب)، في محاولة أخرى لتزوير التاريخ والاستيلاء على اسم (عنبتا)، وهي التي تحمل الاسم الآرامي الذي يعني قرية العنب، كما استولى على أراض أخرى وأنشأ مستوطنة أطلق عليها اسم (عيناف).

الهمشري يشرح وأنا أسجل الملاحظات ونشأت يستمع عن سرقة الفسيفساء من قبل الاحتلال وعدسة سامح صقر

توقفت السيارة التي تقلنا إلى أقرب نقطة سنصعد منها إلى القلعة الرومانية، والتي كانت في الأصل المبنى الإداري للحاكم الروماني للمنطقة، ثم تحولت إلى كنيسة رومانية بكل تفاصيلها، ولذا تسمى التلة أيضاً (خلة الكنيسة)، حيث المدرجات في قاعة الكنيسة، ومحرابها في الشرق، وساحاتها كانت مرصعة بأجمل أنواع الفسيفساء الملون، والتي قام بسرقتها الاحتلال بأكملها مدعيا أنها آثار إسرائيلية، ويقوم بعرضها الآن في متحف (تل أبيب) المقام على أرض تل الربيع الفلسطينية بجوار يافا، وحين بدأت بالصعود وصحبي كان السؤال في ذهني حول سبب التسمية (رأس الشومر)، ولكن سرعان ما زال التساؤل، فعبق نبتة الشومر أو الشمر كما تسمى في مناطق أخرى كان يفوح بالأرجاء، ففي هذه المنطقة تنبت هذه النبتة بكثافة بدون زراعة، وبالتالي تكون بأجمل نكهة طبيعية لها وبدون أسمدة، فهي هبة من الله لأبناء المنطقة، وقد اختار المعهد الألماني لتاريخ الطب، التابع لجامعة فورتسبورج الواقعة في ولاية بافاريا نبات الشومر ليكون النبتة الطبية للعام 2009.

القلعة الرومانية في خربة سماره وعدستي لا تتوقف عن التصوير
وعدسة سامح صقر

تجولنا في المنطقة، وكانت النسمات الغربية تهب علينا فتريحنا من تعب الصعود، وتجولنا في المكان، وشاهدنا آبار المياه القديمة، كما شاهدنا بقايا الفسيفساء، وشاهدنا المقابر الأثرية التي تحمل اسم (أبو لوقا)، ويلاحظ أن الاسم مسيحي وهذا ينفي أي وجود للإسرائيليين في المنطقة. إضافة إلى أن كل الشواهد والآثار لا صلة لها بهم أبداً، وأكملنا التجوال في (خربة سمارة) حيث الآثار الرومانية ما زالت بقاياها قائمة، فتجولناها جميعها، وشاهدت بقايا الأبراج والأسوار والبوابات بطرفي الحصن، فمنها من هو للمشاة ومنها ما هو للعربات، والمنطقة يوجد بها فوهات كثيرة لآبار المياه، وكان الشاب الطيب مروان محمد حسن يعرفها بالكامل، فينبهني كي لا أسقط بها، وأطعمني عدة مرات من عروق نبتة الشومر، فترك في روحي أثرا طيبا لطيبته.

بدأنا بالتحرك لمغادرة المكان، وقد شدد المزارعين المتواجدين في المنطقة أن يستضيفونا لنشرب الشاي من على نيران الحطب، لكننا اعتذرنا لضيق الوقت، وصعدنا التلة سيراً على الأقدام، وكان الهواء منعشاً رغم أن الوقت قارب منتصف النهار، وقد سررت أن وجدت أن أحد المواطنين قد رمم بيتاً قديماً وتراثياً على رأس تلة وأحاطه بالأشجار والورود، وأحاله إلى نقطة تجمعه مع لقاءات أسرته وضيوفه بين الوقت والآخر، وانحدرنا للوادي حيث كانت السيارات تنتظرنا للذهاب لدعوة الغداء التي أقامها مجلس البلدية، فصعدت بالسيارة مع الأخ عبد الخالق جبارة مدير بلدية طولكرم برفقة صديقي خالد الهمشري، وصعد صحبي بسيارة البلدية، لنتناول (المسخن) الوجبة التقليدية الرائعة في قاعة مبنى المجلس البلدي، وأحاديث على هامش الغداء مع العزيز زياد الجعبيتي ورئيس المجلس والحضور، وبعد الغداء غادرت برفقة أبو إبراهيم إلى عنبتا حيث ارتحنا قليلاً في بيت الأخ أبي فراس وزوجته السيدة سوسن نجيب المنتمية لبلدتها ووطنها إلى درجة الذوبان، لنعود في الخامسة إلى كفر اللبد واللقاء الأدبي والفني، وقد غمرني فيه أهلي في كفر اللبد بمحبتهم. 

شكرا لسامح الذي وثق زيارتي بعدسته وأنا أجول

 أمام القلعة الرومانية في خربة سماره

في قاعة البلدية الرحبة والمجهزة كان اللقاء الأدبي لي مع أهل كفر اللبد، وكان العلم الفلسطيني يغطي الواجهة بالكامل، وفي مستطيله الأبيض كانت عبارة الترحيب بي بحجم كبير، ما كاد يسقط دمعات فرح من عيني، وبعد ترحاب كبير من أهل البلدة والحضور رحب بنا الأخ كفاح صبحة عريف الحفل، لنقف بعدها باحترام للسلام الوطني ونقرأ الفاتحة على أرواح الشهداء، ونستمع لتلاوة من القرآن الكريم، ومن ثم رحب بنا رئيس البلدية الأخ زياد جعبيتي، وقدمتني للجمهور، وتحدثت عن سيرتي الذاتية الأخت حنان جبارة أمينة متحف طولكرم، ثم قدم السيد خالد الهمشري مدير متاحف الشمال نبذه عن آثار طولكرم، ليلي ذلك حديث مرفق بعرض الصور على الشاشة عن تجربة صباحكم أجمل والأماكن التراثية والتاريخية التي زرتها في الوطن، ومنها عنبتا وجنين والجيب واسكاكا والعديد من البلدات، مركزا على أهمية المحافظة على التراث والتاريخ والذاكرة، وتحدثت عن الذاكرة التي يحتفظ بها كبار السن وضرورة تسجيلها، وأشرت إلى منطقة المقام وضرورة المحافظة عليها وتنظيفها، ومما أفرح قلبي أن القرارات من رئيس المجلس بخصوص ما ذكرته اتخذت فوراً، وآمل فعلا أن يكون تم الاهتمام والتنفيذ، وكان من الجميل أن مشاركات ونقاشات من المغتربين تمت عبر الشبكة العنكبوتية، فكان المغتربون وأهل البلدة والضيوف جميعاً مشاركين في هذا اللقاء الذي ابرز كم أن أهل كفر اللبد يعشقون بلدتهم الوادعة الجميلة.

وبعد اللقاء الأدبي فوجئت بحفل فني ترحيب بوجودي من فرقة الدبكة التي أبدعت وأثارت حماسي للمشاركة والحضور في الدبكة الجميلة، وقد لمست كم هذه الفرقة مميزة ومبذول عليها جهد كبير، وآمل أن تلتفت لها وزارة الثقافة ووزارة السياحة في اللقاءات والأمسيات، وفي مهرجانات الثقافة والسياحة في داخل الوطن وخارجه.

قبل أن أودع كفر اللبد تحدثت مع عدد من شباب البلدة، واستمعت لأمالهم وأحلامهم، ولمست كم هم يعشقون بلدتهم ويهتمون بها، وقد كان من مجال فرحي حديث مع الأخ أمين برهوش أمين سر مؤسسة الشيخ حسن للثقافة والعلوم، وقد تمت تسميتها نسبة للأسير الفلسطيني الشيخ حسن اللبدي الذي أسر وحكم عليه بالإعدام في العام 1942 في عهد الانتداب البريطاني حين قاوم الجنود البريطانيين الذين دنسوا الأقصى، وقتل ضابطاً بريطانياً، وخفض حكمه للمؤبد بعد الضجة التي ثارت، وبقي في المعتقلات الإسرائيلية بعد انتهاء الانتداب البريطاني، بدون أن يعرف عنه أحد شيئاً، وبعد الحرب في العام 1967 تمكنوا بعد معاناة طويلة من العثور عليه، وبعد معاناة أكبر استمرت حتى العام 1983 تمكنوا من الحصول على قرار للإفراج عنه بحكم تردي أوضاعه الصحية، وأعادوه لهم بأوضاع صحية ونفسية سيئة بعد أن تجاوز الثمانين عاماً قضى أكثر من نصفها في الأسر، دون أن يتاح له الاطلاع على أية أحداث في العالم أو قراءة صحيفة، فخرج للحرية وقد توقف الزمان لديه منذ فترة طويلة، حتى انتقلت روحه إلى الرفيق الأعلى.

وهذه الجمعية تهتم بقضايا الأسرى عامة وأسرى كفر اللبد خاصة، من خلال الإعلام والمؤسسات التي تعنى بحقوق الإنسان، وتهدف لجمع تراث الأسرى وكتبهم، وتعمل على بناء مكتبة متخصصة، والاهتمام بأهالي الأسرى وأسرهم، وقد اشتقت اسمها من الشهيد الأسير الشيخ حسن اللبدي، تكريماً له وتكريماً لكل الأسرى ووفاءً لهم.

غادرت كفر اللبد ومشاعر مختلفة تسود روحي، ما بين الفرح الذي غمرني به أهل كفر اللبد، وما بين مشاعر الم أنني مضطر للمغادرة تاركاً بعض من روحي فيها، فعدت لطولكرم لبيت أخي، وفي اليوم التالي أصر أصدقائي أبو فراس وزوجته سوسن نجيب على أن أتناول الغداء عندهم، وكالعادة أبدعت السيدة سوسن بطبخة (العكوب) التي أحبها وأطعمة أخرى، فشكرتهم وعدت إلى طولكرم بعد أن غمروني بمشاعرهم وطيبتهم وكرمهم، لأغادر صباح السبت إلى رام الله مع شقيقي الأكبر وسيم بسيارته، فينسكب المطر مدراراً علينا طوال الطريق.

صباح راميّ جميل مع همسات طيفي الروحية من البعيد، أذكر وطني وذكرى احتلاله فيما اصطلح عليه بعام النكبة في مثل هذا اليوم وأهمس: لا بد من الحرية يوماً وموعدنا معها الصبح، أليس الصبح بقريب؟ أحتسي قهوتي مع هديل الحمام الذي يحط على نافذتي وأحواض زرعتها بالورود والنعناع، أستعيد رحلتي إلى بلدة كفر اللبد بتفاصيلها أمكنة وبشر، فأهمس: ما أجملك يا وطني من شمالك إلى جنوبك ومن شرقك إلى غربك، ما أجمل كفر اللبد وما أطيب أهلها، وحقيقة أشعر أن كفر اللبد استلبت روحي، فأهمس لحمامة بيضاء تحط على نافذتي: إن طرتِ لكفر اللبد فأبلغيها محبتي، وحلمي أن أزورها مرة أخرى، وقدمي شكري وعبري عن امتناني لكل من فيها، أحبة وأصدقاء: زياد جبعيتي رئيس المجلس البلدي وصحبه والعاملين في المجلس جميعاً والذين كانوا مثالاً للانتماء لبلدتهم، وللشباب الذين رافقوني التجوال وتعبوا معي خالد الهمشري وسامح صقر ونشأت محفوظ ومروان محمد حسن، ولشباب كفر اللبد من متطوعي الهلال الأحمر والذين كانوا أول من وجه لي الدعوة لزيارة كفر اللبد بعد أن التقيتهم ورافقوني التجوال أثناء زيارتي الأولى لعنبتا، سامح ومحمد برهوش، وعرجي على عنبتا واشكري السيدة سوسن نجيب على جهودها وأسرتها على روعتهم وكرمهم وحسن ضيافتهم. تشدني الذاكرة إلى جولتي كثيراً فأستمع لشدو فيروز تشدوا: (بقولوا زغير بلدي، بالغضب مسور بلدي، الكرامة غضب، والمحبة غضب، والغضب الأحلى بلدي، وبيقولوا قلال، ونكون قلال، بلدنا خير وجمال، وبيقولوا يوقولوا، شو هم يقولوا، شوية صخر وتلال؟ يا صخرة الفجر و قصر الندى، يا بلدي يا طفل متوج عالمعركة، غالي يا بلدي، يا زغير وبالحق كبير يا بلدي).

صباحكم أجمل حتى نلتقي في رحلتي القادمة وذاكرة وطن.