الداعية الأديب عبدالحكيـــم عابديــــن

المستشار عبد الله العقيل

 (1332 – 1396هــ / 1914 – 1976م)

مولده ونشأته

وُلد الأستاذ عبد الحكيم عابدين سنة 1914م في قرية «فيدمين» مركز طامية بمحافظة الفيوم، وكان من أوائل المنتظمين في صفوف الحركة الإسلامية ويعتبر هو والشيخ الباقوري من شعراء الإخوان المسلمين الأوائل.

وقد تخرج في كلية الآداب بالجامعة المصرية بالقاهرة، وكان وثيق الصلة بالطلاب والأساتذة محبوبًا من الجميع، عمل أمينًا لمكتبة جامعة القاهرة، وقد اختاره الإمام الشهيد حسن البنا ليكون زوجًا لشقيقته باعتباره أوَّل من تخرَّج في الجامعة، وبايع على أن يجعل مستقبله رهنًا بمطالب الدعوة الإسلامية.

يقول الأستاذ الكبير محمود عبد الحليم في كتابه القيم: (الإخوان المسلمون أحداث صنعت التاريخ) في حديثه عن الأستاذ عبد الحكيم عابدين: «.... إن ذكر الباقوري يقتضي ذكر عبد الحكيم عابدين؛ لأنهما فرسا رهان، ورضيعا لبان، نهلا من منبع واحد، وصدرا بعد ارتواء، تجمعهما سجية أدبية وسليقة عربية، وقلب شاعر يفيض بالعواطف الدفاقة والأحاسيس المرهفة، وكانت كلية الآداب تقوم على الثلاثي الإخواني من الطلاب: محمد عبد الحميد أحمد، وعبد المحسن الحسيني، وعبد الحكيم عابدين، حيث كان الثلاثة عُمُد الدعوة وركائزها، وكانوا في صف دراسي واحد وفي قسم اللغة العربية وفي مقدمة صفهم، وكان مدير الجامعة أحمد لطفي السيد، وعميد كلية الآداب طه حسين، وكلاهما يأنس للطالب عبد الحكيم عابدين بحكم نضجه الأدبي وسرعة بديهته ونزعته الشعرية الأصيلة، حتى إن طه حسين كان يطارحه الشعر، وكان أحمد لطفي السيد يسأل الطالب عبد الحكيم عابدين عن دعوة الإخوان المسلمين، وعابدين يشرح له، ثم تدخَّلَ طه حسين وقال لمدير الجامعة: "إن الإخوان المسلمين يريدون أن يستردوا الأندلس".

إن السنوات التي مرَّت على الأستاذ عبد الحكيم عابدين بعد تخرّجه في الجامعة، قد جلَّتْ مواهبه، وصقلت قريحته، وكشفت عن قدراته، مما جعله أهلاً لأن يُشركه الأستاذ المرشد العام حسن البنا معه في التصدي لأعقد المشاكل وأخطر الأمور، التي تضاعفت بتشعب الدعوة واتساع رقعتها واقتحامها ميادين جديدة، وقد كان الأستاذ عابدين شخصًا مقبولاً ومحببًا إلى نفوس الكثيرين من الناس وبخاصة الأطباء وأساتذة الجامعة وعلية القوم والوجهاء الذين لم يعرفوا دعوة الإخوان المسلمين إلا عن طريق عبد الحكيم عابدين، وسرّ الأستاذ المرشد والإخوان لهذه الجهود المباركة التي يبذلها الأستاذ عابدين، وهذا العبء الذي يشارك في حمله مع الأستاذ المرشد العام» انتهى.

ولقد لقيتُ من كرم الأستاذ عابدين أنا وزملائي طلبة البعوث الإسلامية الشيء الكثير، حيث كان يهتم بأمورنا ويقدِّم لنا ما نحتاج إليه من مساعدة أو عون في مجال الخدمات وغيرها.

ولن أنسى له التوصية التي أعطاني إياها لأحد الأطباء الكبار ذوي الاختصاص لعلاج ما كنت أشكوه في المعدة والأمعاء من مرض طال أمده، فكان اهتمام الطبيب بي كبيرًا لأنه يحترم الأستاذ عابدين ويقدره ويقول عنه: إن الأستاذ عابدين من الدعاة الذين تفخر بهم مصر.

يقول الأستاذان حسني جرار وأحمد الجدع في كتابهما: (أناشيد الدعوة الإسلامية): «.... وممن أُعجب بدعوة الإمام البنا وانضم إليها الشاعر عبد الحكيم عابدين، وعندما شاهد شاعرنا شباب الإخوان المسلمين وهم يتدربون في كتائبهم على العلم والعمل، أعجب بهم وأنشأ لهم سنة 1937م نشيدًا حماسيًا بعنوان (نشيد الكتائب)، وقد بيَّن الشاعر أن هؤلاء الشباب المجاهدين العاملين، هم جنود الحق الذين احتشدوا لنصرته، وأنهم في انتظار المعركة الفاصلة حتى يدكوا بعزائم الإيمان دولة الباطل والبهتان، وهؤلاء الشباب هم كما وصفهم ربهم: { أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ} (المائدة: 54)، وهم كما وصفهم رسولهم (صلى الله عليه وسلم) «كالبنيان يشد بعضه بعضًا» وهم كما وصفهم قادتهم «رهبان في الليل فرسان في النهار»، هؤلاء الشباب الذين اتصفوا بهذه الصفات لن يثنيهم عن هدفهم العظيم، أمر مهما عظم، وظالم مهما تجبَّر، وظلام مهما ادلهم، إن هؤلاء الشباب الذين ربَّاهم الإمام الشهيد على حب الإسلام ودعوته، وعلى نصرة الحق وشريعته، سوف ينتصرون، وسوف يبنون صرح الدولة الإسلامية، فإنه وعد الله ولن يخلف الله وعده» انتهى.

نشاطه ومواقفه

كان عبد الحكيم عابدين من القادة الذين يعتمد عليهم في المهمات الجسام، فحين قامت الثورة في اليمن في 15/1/1948م ونودي بالقاضي عبدالله بن الوزير إمامـًا لليمن، تلقى الأستاذ عابـدين دعوة رسمية من حـكومة الثورة اليمنية لزيارة اليمن، وقد سبقه لزيارتها الزعيم الجزائري الكبير الفضيل الورتلاني.

كما تولى الأستاذ عابدين منصب السكرتير العام للإخوان المسلمين، وقد اعتقل مع إخوانه حين حلت الجماعة في 8/12/1948م بأمر من الإنجليز سارع النقراشي لتنفيذه، فحلَّ الجماعة واعتقل قادتها باستثناء الأستاذ البنا ليدبّروا أمر اغتياله فيما بعد، وقد كان.

وحين ألغت حكومة الوفد سنة 1950م الأحكام العرفية وسقط قرار الحل خرج الإخوان من السجون وعادوا إلى نشاطهم، انطلق الأستاذ عابدين مع إخوانه في همة ونشاط يجوبون القطر المصري، يذكرون الناس بدعوة الإسلام ويستنهضون الهمم للقيام بنصرة دين الله ومساندة رجال الدعوة والتصدي للظلم والطغيان والاهتمام بتربية الشباب على منهج الإسلام الحق المستقى من الكتاب والسنَّة وما أجمع عليه سلف الأمة.

وهكذا قطعت الدعوة الإسلامية أشواطًا بعيدة في تنبيه الأمة من غفلتها وإعداد الشباب لمنازلة الإنجليز في قناة السويس بعد أن نازلوا اليهود في فلسطين، وكانت معارك ضارية وانتصارات عظيمة وشهداء لقوا ربهم دفاعًا عن دينهم وأمتهم، وكان لذلك أثره، فقد تململ الناس من الظلم والطغيان، وأصبحت الأوضاع على وشك الانفجار وانطلـق الناس يجاهرون بالعداء للمستعمر وأعوانه ويتحدَّون رموزه وزبانيته، فحدث الانقلاب العسكري في يوليو 1952م الذي قادته مجموعة من الضباط كان فيهم بعض الصالحين، فأمَّل الناس منهم الخير، ولكن البعض الآخر من الذين يرتبطون بالمخابرات الأمريكية كانت لهم الغلبة، فقلبوا ظهر المجن لمن آزرهم وسـاندهم، وحـوَّلوا البلاد إلى سجن كبير عمَّت فيه الفوضى والبطش والتنكيل بكل من يخالفهم الرأي أو يبدي لهم النصح وذاق الشعب المصري بكل فئـاته مرارة الخيبة من هذا الانقلاب، وكان نصيب الإخـوان المسلمين من البلاء عظيمًا فكانت محنـة في يناير 1954م حيث قُبض على مجموعات كبيرة منهم وفي مقدمتهم القادة ومنهم الأستاذ عبد الحكيم عابدين ثم أفرج عنهم في مارس سنة 1954م.

معرفتي به

معرفتي بالداعية الكبير الأديب الشاعر عبد الحكيم عابدين، كانت في الأربعينيات الميلادية من القرن العشرين، من خلال ما كانت تنشره مجلة الإخوان المسلمين من خطب وقصائد وأناشيد ومحاضرات وجولات وندوات، ولست أنسى قصيدته العصماء في ذكرى المولد النبوي الشريف التي ألقيت في أكثر مدن القطر المصري ونشرتها مجلة الإخوان المسلمين.

وكان الإخوان في بلدتي الزبير، يكررون إلقاءها في الدرس الأسبوعي يوم الجمعة بمدرسة «الدويحس الدينية» وكان مطلعها:

تدلى النجمُ في أوج السماء      ومال الطودُ في صدق احتفاء

يـــــزفُّ بــــــكل إكبــــــار وحـــــبٍّ     إلـــــــى ذكــرى نبي الأنبياء

كما كانت الأناشيد الإسلامية التي نظمها الأستاذ عابدين، يرددها الشباب المسلم في أنحاء الوطن العربي وفي مقدمتها «نشيد الكتائب» الذي اختارته جماعة الإخوان المسلمين في مصر والعالم العربي والإسلامي ليكون النشيد المقرر لكتائب الدعوة الإسلامية وفيه يقول:

هو الحـق يحشــد أجناده     ويعـــتدُّ للــموقف الفـــــاصلِ

فصفُّـــوا الكتـــــــائب آسادَهُ    ودكُّـوا بــــــه دولة الباطلِ

****

نبيَّ الهدى قد جَفَوْنا الكَرى         وعِفْنا الشَّهِيَّ من المَطْعَمِ

نهضْنا إلى الله نجلو السُّرى          بـــروعـــة قـــــرآنـــــه المُــحْـــكَمِ

ونُشْهـــِدُ مَــنْ دَبَّ فوق الثَّرى        وتحــت السمـــــا عزَّة المسلمِ

دعـــــــاة إلى الحق لسـنا نرى          له فـــديةً دون بــــــذلِ الـدمِ

وحين سافرتُ إلى مصر سنة 1949م للدراسة الجامعية، كان الأستاذ عابدين من أوائل من التقيتهم من قادة الإخوان المسلمين في مصر.

لقاؤه الندوي

ولقد صحبت أستاذنا الشيخ الندوي سنة 1951م حين زار مصر، بزيارة الأستاذ عبد الحكيم عابدين أكثر من مرة في منزله وفي دور الإخوان، وكان الشيخ الندوي معجبًا غاية الإعجاب بالأستاذ عابدين وبذكائه ونباهته وقوة حجته وبلاغة تعبيره وجزالة ألفاظه وعمق معانيه وسلاسة أحاديثه وعذوبة كلامه وحضور بديهته، وحين ألقى كلمته وسط الإخوان وكان عنوانها (أريد أن أتحدث إلى الإخوان) كان الأستاذ عابدين هو الذي عقَّب على كلمة الندوي بقوله: «لقد وجدتُ في كلمة الأستاذ الندوي صورة صادقة لفكرة الأستاذ الإمام الشهيد حسن البنا المرشد العام للإخوان المسلمين، ونفحة من نفحات تفكيره - رحمه الله تعالى - وإنني وإخواني لمغتبطون جدًا بهذا التوجيه الأخوي ومقدرون له ونرجو منه الإذن بنشرها وسط الإخوان».

دفاعه عن فلسطين

حقًا.. لقد كان الأستاذ عبد الحكيم عابدين، صاحب سجية أدبية، وسليقة عربية، وقلب شاعر يفيض بالعواطف الدفاقة والأحاسيس المرهفة، وكان له دور بارز منذ كان طالبًا في دعم المجاهدين بفلسطين، فقد قام مع مجموعة من إخوانه الشباب بالخطب في مساجد القاهرة والأقاليم، لحثِّ الناس على التبرع لإخوانهم أهل فلسطين، الذين يعانون من ظلم المستعمرين الإنجليز واليهود الغاصبين، وكانت خطبه في مساجد مصر وبخاصة خطبته في مسجد البدوي بطنطا، ذات أثر كبير في نفوس الجماهير، وهي التي أشار إليها أديب العربية الكبير مصطفى صادق الرافعي في مقاله الرائع بمجلة (الرسالة) بعنوان: (قصة الأيدي المتوضئة) بقوله: «... ولما قضيت الصلاة ماج الناس، إذ انبعث فيهم جماعة من الشباب يصيحون بهم ويستوقفونهم ليخطبوهم - ثم قام أحدهم فخطب، فذكر فلسطين وما نزل بها، وتغير أحوال أهلها ونكبتهم وجهادهم واختلال أمرهم، ثم استنجد واستعان، ودعا الموسر والمخف إلى البذل والتبرع وإقراض الله تعالى، وتقدم أصحابه بصناديق مختومة، فطافوا بها على الناس يجمعون فيها القليل والأقل من دراهم هي في هذه الحال دراهم أصحابها وضمائرهم.... وأخرج القروي كيسه فعزل منه دراهم وقال: هذه لطعام أتبلغ به ولأَوبتي إلى البلد، ثم أفرغ الباقي في صناديق الجماعة، واقتديت أنا به فلم أخرج من المسجد حتى وضعت في صناديقهم كل ما معي، ولقد حسبت أنه لو بقي لي درهم واحد لمضى يسبني ما دام معي إلى أن يخرج عني.

قال أحد الشيوخ في المسجد للشاب: ممن أنت يا بني؟ قال: أنا من جماعة الإخوان المسلمين..» انتهى.

هذا النبوغ المبكر والحيوية الدافقة التي تميّز بها الشاب الطالب عبد الحكيم عابدين، كانت هي السمت العام، الذي ينتظم شباب الإخوان المسلمين في كل مكان، فقد كانوا الشامة في جبين مصر، والطليعة في أرض الكنانة التي انتصبت تدافع عن دين الله، وتنشر دعوته وتبلِّغ رسالة الإسلام إلى الناس جميعًا، وتعود بالأمة إلى منهج الإسلام الأصيل المستقى من الكتاب والسُّنَّة وما أجمع عليه سلف الأمة، وبهذه الطلائع المؤمنة خطتْ الدعوة الإسلامية المعاصرة خطواتها المباركة، وجاهدت في سبيل الله ومن أجل المستضعفين في الأرض وخاصة المسلمين في فلسطين فكانت كتائب الجهاد وقوافل الشهداء تتوالى كتيبة إثر كتيبة وقافلة إثر قافلة.

هجرته من مصر

وفي هذه الفترة خرج الأستاذ عابدين، من مصر لحج بيت الله الحرام، ثم التحق بالأستاذ حسن الهضيبي المرشد العام الذي كان يزور سورية ورافقه في رحلته إلى سورية ولبنان والأردن ولم يعد بعدها إلى مصر، حيث قامت الحكومة العسكرية باعتقال جميع الإخوان المسلمين بمصر بالألوف، وزجَّت بهم بالسجون وأقامت لهم المحاكم الهزلية وأصدرت الأحكام بالإعدام والمؤبد على خيرة القادة ورجال الدعوة مما يعلمه القاصي والداني.

وفي تلك الأثناء كان الأستاذ عابدين ومن بقي من إخوانه في الخارج مثل د. سعيد رمضان والأستاذ كامل الشريف وسعد الدين الوليلي وغيرهم من الإخوان المصريين يبذلون جهودهم مع إخوانهم في سورية ولبنان والأردن والعراق والسودان والمغرب لنصرة إخوانهم بمصر واستمرار نشاط الدعوة في الأقطار العربية والإسلامية والأوروبية، ولقد بقي الأستاذ عابدين يتنقل من بلد إلى بلد وبخاصة سورية ولبنان والسعودية والأردن والعراق وغيرها، ويبذل قصارى جهده لنصرة دين الله وإعزاز كلمة الإسلام وجمع الدعاة المسلمين على كلمة سواء.

وقد اختاره سماحة الحاج محمد أمين الحسيني مفتي فلسطين ليكون مستشارًا للهيئة العربية العليا في بيروت تحت رئاسة سماحته، كما اختارته رابطة العالم الإسلامي بمكة المكرمة ليكون مستشارًا لها، ولقد التقيته مرات كثيرة استفدتُ فيها من علمه وخبرته وفقهه وأسلوبه الدعوي.

وفاته

وقد بقي خارج مصر إلى سنة 1975م، حيث عاد إليها ومارس العمل الدعوي مع إخوانه بقيادة المرشد الثالث الأستاذ عمر التلمساني ولم يطل به المقام، حيث انتقل إلى جوار ربه سنة 1976م بعد عمر حافل بالنشاط الإسلامي داخل مصر وخارجها منذ شبابه حتى آخر مراحل شيخوخته.

رحم الله أستاذنا الكبير المجاهد الداعية عبد الحكيم عابدين شاعر الدعوة الإسلامية وخطيبها المفوَّه وسفيرها المتجول الذي ترك آثارًا كبيرة في كل مكان تشهد له بالخير والوفاء والالتزام لدعوة الحق والقوة والحرية، والذي أحبه كل من عرفه أو التقاه لدماثة خلقه وتواضعه وبشاشة وجهه ورقَّة حديثه وأخوَّته الصادقة وتفانيه في خدمة إخوانه المسلمين في كل مكان.

لقد كان الأستاذ عابدين خريج مدرسة الإمام الشهيد حسن البنا التي تبني الرجال وتخرِّج الأبطال، وكان جهاده صورة مشرقة من جهود الدعاة الذين تربوا في هذه المدرسة المباركة.

نسأل الله تعالى أن يتغمَّده بواسع رحمته وأن يغفر لنا وله ويجمعنا وإياه مع النبيين والصديقين والشهداء والصالحين، وحسن أولئك رفيقًا.

وسوم: العدد 857