الفقيه العلاّمة محمد أبو زهرة

المستشار عبد الله العقيل

(1316 - 1394ه / 1898 - 1974م) 

مولده ونشأته

هو العلاّمة الجهبذ والفقيه المجتهد الشيخ محمد بن أحمد بن مصطفى أبو زهرة، ولد في مدينة المحلة الكبرى بمصر 1316ه/ 1898م، وتربى في الجامع الأحمدي بطنطا، وحفظ القرآن الكريم ومبادئ العلوم، ثم التحق بمدرسة القضاء الشرعي، وحصل على (عالمية القضاء الشرعي مع درجة أستاذ) بتفوق عام 1343ه/ 1924م، كما حصل على معادلة دار العلوم.

وتولى تدريس العلوم الشرعية والعربية في دار العلوم وكلية أصول الدين بجامعة الأزهر، وكلية الحقوق بجامعة القاهرة، ثم شغل منصب أستاذ محاضر للدراسات العليا بالجامعة عام 1354ه / 1935م وعضو للمجلس الأعلى للبحوث العلمية، ورئيس قسم الشريعة ووكيل كلية الحقوق ومعهد الدراسات الإسلامية، ولقد كان شغوفًا بالعلم والدرس والتأليف، ولم ينقطع عن المحاضرات والندوات حتى عدّ بمزاياه من أكبر رجالات المؤتمرات والندوات في مصر والعالم الإسلامي.

قلتُ عنه عقب وفاته في كلمة نشرتها مجلة المجتمع الغراء بتاريخ 1/4/1394ه - 23/4/1974م بعددها رقم (197):

لقد اختار الله إلى جواره قبل أيام فضيلة أستاذنا العلاّمة الشيخ محمد أبي زهرة، الرجل الشجاع، والعالم العامل، والحرّ الأبيّ، والفقيه المجتهد، والذكي الألمعيّ، الذي قضى عمره في نشر العلم الإسلامي، وكان صاحب مدرسة تخرّج على يديه آلاف العلماء من المشرق والمغرب، فهو من أوائل من درَّس بكلية الحقوق بجامعة القاهرة منذ إنشائها، وهو أول من أنشأ قسم الشريعة الإسلامية فيها، وكان من مؤسسي معهد الدراسات الإسلامية بالقاهرة، الذي كان لي شرف الانتساب إليه، وكان يُلقي المحاضرات في المعهد بالمجان، ويشاركه عدد من الأساتذة أمثال: الدكتور محمد العربي، والأستاذ محمد قطب، ود. محمد يوسف موسى، وآخرون.

وقد جاب كثيرًا من بلدان العالم العربي والإسلامي مدعوًا لإلقاء محاضرات، أو المشاركة في ندوات ومؤتمرات ومجامع فقهية، وقد انتفع المسلمون من علمه وفقهه.

ولقد سعدنا به في الكويت ثلاث مرات، آخرها عام 1390ه/ 1970م بدعوة من جامعة الكويت، والمرتان الأوليان بدعوة من جمعية الإصلاح الاجتماعي، ومن وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية، وقد شرفتُ بأن أكون ملازمًا له في كلتا الزيارتين، وأن أقدِّمه في محاضراته التي تركت أطيب الأثر وأعمقه في نفوس المسلمين بالكويت، بفضل ما آتاه الله من غزارة العلم وخصوبة المعرفة، وعمق الفقه، وقوة الحجة، وحسن الأداء، وجمال العرض، والصراحة في كلمة الحق، غير هيّاب ولا وجل، وهذا شأنه في كل دروسه ومحاضراته ومقالاته ومؤلفاته وفتاواه واجتهاداته.

مؤلفاته

إن المكتبة الإسلامية مدينة للعلاّمة الكبير الشيخ محمد أبي زهرة بهذه المؤلفات الإسلامية التي خطّها قلمه، ودبّجتها يداه، فكانت ثروة ضخمة، وتراثًا علميًا كبيرًا، قاربت الثمانين كتابًا، معظمها من المراجع الكبيرة، فضلاً عن المقالات التي كان ينشرها، والفتاوى التي يحررها، وهي لم تُجمع في كتاب بعد، ولو جمعت لكانت كتبًا كثيرة في مجلدات، وفيما يلي ندرج بعض المؤلفات المطبوعة لفقيد العلم وفقيه العصر، وهي:

- محاضرات في تاريخ المذاهب الإسلامية

- ومحاضرات في النصرانية

- وخاتم النبيين

- وأبو حنيفة

- ومالك

- والشافعي

- وابن حنبل

- وابن حزم

- وابن تيمية

- وزيد بن علي

- وجعفر الصادق

- وأحكام التركات والمواريث

- والأحوال الشخصية

- وأصول الفقه

- وبحوث في الربا

- وتنظيم الإسلام للمجتمع

- والجريمة والعقوبة في الفقه الإسلامي

- وشرح قانون الوصية

- والعلاقات الدولية في الإسلام

- والمجتمع الإنساني في ظل الإسلام

- ومحاضرات في أصول الفقه الجعفري

- ومحاضرات في عقد الزواج وآثاره

- ومحاضرات في الوقف

- ومحاضرات في مقارنة الأديان

- ومحاضرات في الميراث عند الجعفرية

- والولاية على النفس

- وتاريخ الجدل في الإسلام

- والتكافل الاجتماعي في الإسلام

- والملكية ونظرية العقد في الشريعة الإسلامية

- والخطابة في المجتمع الإسلامي

- والمعجزة الكبرى القرآن الكريم

- وموسوعة الفقه الإسلامي

- والديانات القديمة

- والمذاهب الإسلامية

- والوحدة الإسلامية... إلخ.

صفاته

عُرف الشيخ محمد أبو زهرة بجرأته في الحق وشجاعته في الذود عن حياض الإسلام ودعاته، واشتهر بالعزّة وكرامة النفس، والصلابة والصدع بكلمة الحق، والذاكرة القوية، والبديهة الحاضرة، والقدرة العجيبة على التوليد والابتكار، ومقارعة الخصوم بالحجج البالغة والبراهين الساطعة والجهاد والمصابرة، والعمل الدائب لخير الإسلام والمسلمين.

لقد شغل الشيخ أبو زهرة عصره بفقهه، وغزارة علمه، وكثرة إنتاجه مع استقامة في التفكير والنظر، وصلابة في الرأي المعزّز بالدليل والبرهان، والقدرة الفائقة على الحوار والمناظرة، والذاكرة الحافظة الواعية لكل الحجج والأدلة التي تجعل الخصم يستسلم، وكان جريئًا شجاعًا يصدع بالحق متصديًا لأصحاب الانحراف الفكري، والمذاهب المستوردة، وتلامذة المستشرقين، والمضبوعين بأفكار الغربيين من الملاحدة والعلمانيين وغيرهم.

لقد أصدر جمال عبد الناصر - حاكم مصر - آنذاك - أوامره بحرمان أبي زهرة من التدريس في الجامعة أو إلقاء الدروس والمحاضرات في المنتديات العامة ودور العبادة، ومن التحدّث في التليفزيون والإذاعة، والكتابة في الصحف، بل حرّض الصحف الرخيصة لتنال منه وتتهمه بالتزمت والرجعية، وحدة الطبع، وشدة الغضب والاستعلاء.

معاناته مع عبد الناصر

يقول أبو زهرة:

«... إن فرحتي ما كانت لتحد، يوم عُزل فاروق على يد زعيم الثورة اللواء محمد نجيب الوطني بحق، وظننتُ أن العدل قد تحقق، وأننا سوف نسترد أرضنا، وأن شمس الحرية سوف تعود ترفرف على ديارنا، إلى أن حدثت المفاجأة المذهلة وتغيَّر الوضع تمامًا، وانتصرت الأهواء والنزعات الشخصية، وانقلبت الثورة إلى انقلاب عسكري بقيادة طاغية جديد هو جمال عبد الناصر الذي أذاق البلاد أقسى ألوان الذل والهوان».

وفي أجوبته على بعض الأسئلة التي ترده من خلال مجلة «لواء الإسلام» نشر في عدد ديسمبر 1380ه/ - 1960م يقول: «السؤال: ما الذي يجب بالنسبة لحاكم يدفع المخرِّبين ويؤيدهم بالمال والقوة ليخرِّبوا جزءًا من الديار الإسلامية فيعمها الفساد، ووراء الفساد الطغيان.. أتجب طاعته؟

وجوابنا: إن الله لا يحب الفساد، وشرّ الولاة والٍ يعمل على نشر الفساد وتخريب العامر، وإزالة القائم من الشجر والثمار، قالوا في المفسد الذي يعبث في العمران، جزاؤه جهنم، وقد وردت الآثار الصحاح عن النبي (صلى الله عليه وسلم) بالنهي عن قطع الأشجار والتخريب في أثناء الحروب، ولو كان ذلك في أرض العدو، فكيف يجوز ذلك في أرض الإسلام، وفي حال الأمن والسلام؟

إن الذين يفعلون ذلك عقابهم هو عقاب قطاع الطريق ومن يدفعهم يكون له مثل عقابهم» انتهى.

تأييده للوحدة الإسلامية

ويقول الشيخ أبو زهرة عن الروح الانهزامية لبعض أبناء المسلمين من الذين تأثّروا بأفكار الغربيين ومقولاتهم ومزاعمهم وصاروا كالببغاوات يرددون ما يقوله المستشرقون، وأذناب المستعمرين، ويحاربون فكرة الجامعة الإسلامية التي توحِّد الشعوب الإسلامية تحت راية الإسلام:

لقد فكّر المفكرون في إنشاء الجامعة الإسلامية في أواخر القرن الماضي، فأخذ الكتّاب الأوروبيون تبعًا لسياسة مرسومة وغاية لهم معلومة، يُبيِّنون أن الدول لا تقوم على مبادئ دينية، وإنما تقوم على وحدة اللغة، أو الجنس، أو المقام في أرض واحدة، وذلك ليعوقوا حركتنا، ثم بثّوا ذلك في عقول الناشئة، وسيطروا على منافذ قلوبهم، بعد أن سيطروا على ملوكنا وذوي السلطان فينا، وأخذوا يشيعون القالة بهذا في نفوسهم بطرق تشبه الاستواء، حتى أصبح الكثير من المسلمين لا تستأنس عقولهم بدعوة جامعة، فانذعرت كلمة المسلمين، وصار منّا من يقتنع ويقنع بأن هذه أسس تكوين الدول، وبأن من يطالب بالجامعة الإسلامية لوحدة الشعوب الإسلامية، فقد خالف سنّة الوجود وطبيعة تكوين الدول، مع أن هذا واقع والمُثُل قائمة في دول أوروبا نفسها، فهذه دولة بروتستانت وهذه كاثوليك.. وهكذا» انتهى.

معاركه من أجل الشريعة

كان الشيخ محمد أبو زهرة صاحب مواقف صلبة من السلطة الباغية التي تريد إبعاد الشريعة الإسلامية أو تطويرها لتلائم هوى الحكام، وقد خاض في سبيل ذلك المعارك العنيفة، وكان المنتصر فيها جميعًا.

فقد عارض تحديد النسل، وهو مشروع حكومي، وتصدى لقانون الأحوال الشخصية الوضعي، وقاوم إقحام الاشتراكية في الإسلام، وأبطل الفتاوى التي أصدرها البعض بإباحتهم لنوع من أنواع الربا، كما تصدى لدعاة الإلحاد والإِباحية من الكتّاب والمؤلفين والصحفيين، وكم حاولت السلطة إسكاته باللين حينًا، وبالشدة أحيانًا، ولكن دون جدوى، لأنه لا يساوم على دينه، ولا يبيعه بعَرَض من الدنيا زائل.

حدثني أخ كريم لا زال في الكويت أنه شهد الندوة الشهرية التي كان يقيمها الأستاذ أحمد حمزة صاحب مجلة (لواء الإسلام) ويشارك فيها طائفة من العلماء بمصر، وكان ذلك عام 1386ه/ 1966م، وأثناء محاكمة الشهيد سيد قطب وصحبه الكرام، قال الأخ: جرى الحديث عن الأستاذ سيد قطب بين الحاضرين في إدارة المجلة قُبيل بدء الندوة فأثنى عليه البعض وغمزه البعض الآخر، ولاذ بالصمت آخرون، أما الشيخ محمد أبو زهرة فقد كان أحد الذين أثنوا على الأستاذ سيد قطب الثناء الحسن، وقال عنه بالنص: «لقد استقبلت ابني البار سيد قطب عندما عاد من أمريكا، وسألته: كيف حالك الآن يا سيد؟ فأجاب: أستاذي لقد ذهبت إلى أمريكا مسلمًا وعدت مؤمنًا».

والذين أتيح لهم أن يعيشوا قريبًا من الشيخ محمد أبي زهرة، يعرفون حقَّ المعرفة أي نوع من الرجال هو.

وحين شَرَّفنا بالكويت بزيارات ثلاث حاول إخواننا بجمعية الإصلاح الاجتماعي أن ينزل الشيخ على رجائهم بقبول المكافأة التي تخصّصها الجمعية لمن تستقدمهم من المحاضرين، ولكنه أصرّ وأبى، وكذلك شأنه مع مجلة «المجتمع» الكويتية التي تصدرها الجمعية وقال لهم: أنتم تقومون بعمل خيري إسلامي وهذه مشاركة مني معكم في هذا الخير وأنتم أصحاب الفضل بهذا.

يقول الدكتور محمد رجب البيومي في كتابه القيّم: (النهضة الإسلامية في سير أعلامها المعاصرين): «كان الشيخ محمد أبو زهرة مَفزع أهل العلم في كل مشكلة تعن، وكان له من رسوخ القدم، ونفاذ البصيرة، وبلاغة اللسان، وقوة الحُجَّة ما يجعل أشدَّ الناس معارضة له، ممن يكبرون فقهه ويجلّون اتجاهه، وكانت صرامته في مواجهة الظالمين واضحة سافرة، وقد حُورب في شأنها فما استكان، حوربتْ آراؤه ومقالاته، فما كانت دور الإذاعة وجرائد الصحافة ومجلاتها مما يخضع لسيطرة الدولة لتأذن أن يكون له موضع بين المتحدثين في مشكلات العصر.

وكان عجبًا من العجب أن تسمع البرامج الدينية كل يوم في إذاعات متعددة، فلا تجد للشيخ حديثًا، وأن تقرأ الجرائد اليومية في المواسم الدينية، فتجد الصغار من تلاميذه، يملؤون الصفحات ولا تجد الأستاذ الكبير يهتف برأي، إلا إذا جاء ذكره عرضًا في مجال الاستشهاد!!

ولولا أن للرجل مجلة خاصة قام على رئاسة تحريرها مزاملاً صاحب امتيازها الأستاذ أحمد حمزة لعزَّ عليه أن يجهر بما يعتقد.

ولئن فاتته المنابر الجهيرة في الصحف والإذاعة والتليفزيون، لقد عوَّضه الله هيام الرأي العام الإسلامي بمؤلفاته الكثيرة التي تعدّدت طبعاتها، وتنوّعت موضوعاتها، واتسع نطاق توزيعها في العالم الإسلامي، حتى نقلت علم الرجل إلى أناس لم يروه حين شُغفوا بآثاره».

مواقف شجاعة

وأذكر أن حاكمًا متغطرسًا ساءه أن يُحارب أبو زهرة بأمره في مصر، ثم يدوّي صداه في العالم الإسلامي، فانتهز فرصة جَهَرَ فيها الشيخ الحر برأي مخالف لهوى الحاكم فدعاه كي يقول له: إنك إقطاعي، تجبي إليك كثرة مؤلفاتك ما لا يأخذه وزير مكافح!! فقال له الشيخ أبو زهرة في جراءة صارمة: «هي مؤلفات كُتِبَتْ لله، ولم تُفرض على أحد، ولم تتولَّ الدولة توزيعها قهرًا على المكتبات، ودور الثقافة الحكومية لتُسجن في الرفوف دون قارئ، وليكسب أصحابها من مال الدولة ما لا يحلّه الله» - وكان الحاكم في مغرب شمسه - فآثر السكوت مغيظًا، ولكنه سمع كلمة الحق فأخذ يتلدّد غيظًا وأنهى الزيارة، فنهض الشيخ مرفوع الرأس زاهي الكبرياء.

وثانية تعرفها له في مجال العزة والشجاعة، فقد دُعي إلى مؤتمر إسلامي مع جماعة من كبار العلماء في العالم الإسلامي، وقد كان رئيس الدولة الداعية ذا صدى مسموع في الناس، وبطش متعسف في بلده، فافتتح المؤتمر بكلمة يعلن فيها ما يسميه (اشتراكية الإسلام) ويدعو العلماء المجتمعين إلى تأييد ما يذهب إليه على أنه الحق الوحيد الذي لا ثاني له، وقد نظر العلماء متحيِّرين ضائقين، ولكن الأستاذ أبا زهرة يطلب الكلمة في ثقة، ويعتلي المنبر ليقول في شجاعة: «إننا نحن علماء الإسلام الذين يعرفون حكم الله في قضايا الدولة ومشكلات الناس، وقد جئنا هنا لنصدع بما نعرف، فعلى رؤساء الدول أن يقفوا عند حدودهم، فيدعوا العلم إلى رجاله ليصدعوا بكلمة الحق، وقد تَفضَّلْتَ بدعوة العلماء لتسمع أقوالهم، لا لتُعلن رأيًا لا يجدونه صوابًا مهما هتف به رئيس! فلنتق الله في شرع الله».

وقد فزع رئيس الدولة فطلب عالمًا يخالف الشيخ في منحاه، فلم يجد أحدًا يتفق معه، وكان في المدعوين عزّة وإباء، فاحتفوا بأبي زهرة مؤيدين، وفُضَّ المؤتمر بعد الجلسة الأولى، لأن صاحب الدولة قد وجد الإعصار، فخرج مغضبًا يزفر» انتهى.

ويقول الأستاذ عجاج نويهض عن المؤتمر الإسلامي الذي عُقد في الجزائر عام 1393ه / 1973م، ونشرتْ عنه مجلة (الأديب) اللبنانية: «ارتقى المنبر الشيخ محمد أبو زهرة، فاشرأبت إليه الأعناق، وبدأ نقاشه، صوته يرنُّ أجمل رنين، ميازيب أفكاره تتدفق شيئًا فشيئًا، وما مضى عليَّ غير دقائق وأنا مصغ إليه، حتى صار يبدو لي كأن هذا الرجل المرتضع من أثداء الشريعة هابط من السماء في ظُلّة.

إن فؤاد الشيخ محمد أبو زهرة موصول بينبوع روحاني، وهذا من فضل الله، يتكلم في أدق المعاني بعبارات كلها انسجام، رائعة، وديعة، طاهرة، بريئة، ما شبَّهتُه إلا بعنقود عنب في شهر أغسطس، صنعته الشمس، وسقته الندى والطّل، وجعلته أحلى من الترياق، رأيتُ المنطق هنا قرين الإيمان، والعقل والنقل يمشيان إلى الأذهان معًا، يجري هادئًا، فإذا أغمضتَ عينيكَ لتجعل حاسّة السّماع هي الناقل الوحيد لكلامه إلى ذهنك، خِلْتَ نفسك تسير في بحر ساح يتحرك رهوًا، ينتقل أبو زهرة بالموعظة في أجمل دروبها، مُرصِّعًا كلامه بالآية الكريمة والحديث الشريف، وواقعة التاريخ ذات العبرة، يُقَرِّب بينك وبين العصر الذي يتكلم عنه تقريبًا مدهشًا، فتخال نفسك أن الدنيا كلها في بركات إسلامية نامية، ويغرس في قلبك الإيمان المتلألئ كنور الصباح». انتهى.

قالوا عنه

قال عنه الشيخ محمد الغزالي:

«في وجه الغمط والتجاهل نقول نحن عن الشيخ محمد أبو زهرة: إن المؤلف عن الأئمة إمام وثيق في فقهه، دقيق في علمه، وإن الرجل الذي رمق بازدراء الساسة المستبدين، وأدار وجهه عنهم مستغنيًا متأبيًا ينبغي أن يكون أسوة حسنة لعلماء هذا العصر، إن بقي منهم أحد، إنني واحد من كثير تتلمذوا على الشيخ أبي زهرة وصاحبوه في جهاده الطويل.

إنني أشعر بجزع وأنا أرى علماء راسخين يحيون مستوحشين ويتركون الدنيا وما هي إلا أيام، حتى يُهال عليهم وعلى ذكراهم التراب، ولقد تبعتُ جنائز بعض العلماء فهالتني قلة المشيعين على حين كانت قطعان من الدهماء تتبع جنائز بعض المجّان والمغنين!».

ويقول المحامي الحمزة دعبس:

«.. كثيرًا ما كان الإمام أبو زهرة يهمس في الميكرفون ويقول لطلبته: اسمعوا يا أولاد.. أنا سوف أقول لكم «كلمة سر» إياكم أن تقولوها لأحد.. ويطلق من خلال الميكرفون صاروخًا موجهًا إلى نظام الحكم الناصري في سنوات 1955، و1956، و1957م التي كانت تمثل قمة عنفوان السلطة الناصرية المتغطرسة والتي كانت تقبض على الإخوان المسلمين، وكل من يخالف رأيها وتضعهم في المعتقلات، وتمارس معهم أشد ألوان التعذيب الوحشي والبربري» انتهى.

رحم الله أستاذنا العلاّمة أبا زهرة، وألحقه بمن سبقه من العلماء والدعاة العاملين، أمثال: حسن البنَّا، وعبد القادر عودة، ومحمد فرغلي، وسيد قطب، والبشير الإبراهيمي، وأمجد الزهاوي، ومصطفى السباعي، وحسن الهضيبي، ومالك بن نبي، وغيرهم ممن حملوا أمانة العلم والدعوة، وجاهدوا في الله حق جهاده، حتى اختارهم الله إلى جواره، ورحمنا الله معهم وحشرنا وإياهم في زمرة الصالحين من عباده والحمد لله ربّ العالمين.

وسوم: العدد 900