الشيخ عبد الرَّحمن الحواس (الغضنفر) رحمه الله

نِعِمَّا رِجالٌ عَرَفتُهُم 30

1344-1422

ماأسمى علوَّ الهِمَّة ،وماأكرمَ صاحِبَها،وأجملَ طالبها لأتذكَّرَ ماقالهُ شاعر الفخر والحماسة أبو تمَّام  مُخاطباً نفسَهُ،الطَّامحةَ للأهداف السَّامية ،التَّوَّاقةَ للمعالي: 

أجل فالغايات العظيمة والمرامي الجليلة لايُدركُها إلا أصحابُ الهممِ العالية والقامات الرَّفيعة، الذين لايجدون بأساً في أيِّ شيءٍ يتذوقونه في سبيلها ،وإن كان عَرَقاً وجُهداً وكَدَّاً ومشقَّةً،وأعلى الهمم ،وأكرم العزائم ، وأسمى الغايات همَّةُ من تسمو مطالبه ،وترتقي غاياته  إلى مايُحبُّ اللهُ ورسولُه ،  وتستحضرني هنا قصة الصَّحابيِّ الجليل ربيعة بن كعب الأسلمي رضي الله عنه وكان شديد الحب للنبي  صلى الله عليه وسلم حتى أنه كان يلازمه في نهاره وفي حضره وسفره،ويبيت عند باب غرفته في الليل رغبةً في خدمته، قَالَ رَبِيعَة: 

 كُنْتُ أَبِيتُ مَعَ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم  فَأَتَيْتُهُ بِوَضُوئِهِ وَحَاجَتِهِ 

 فَقَالَ لِي: «سَلْ» فَقُلْتُ: أَسْأَلُكَ مُرَافَقَتَكَ فِي الْجَنَّةِ. قَالَ: «أَوَ غَيْر 

ذَلِكَ» قُلْتُ: هُوَ ذَاكَ. قَالَ: «فَأَعِنِّي عَلَى نَفْسِكَ بِكَثْرَةِ السُّجُودِ". 

 وأيَّ غايةٍ عظيمةٍ سألها ربيعة ولم يطلب سواها ؟!!الله الله الله!!!  وكذلك كان الحال مع الصَّحابيِّ الجليل عكاشةُ بنُ محصن حينما أخبر النبيُّ صلى الله عليه وسلَّم أن سبعينَ ألفاً من أمَّته سيدخلون الجنَّةَ بلا حساب وهمُ الذين لايسترقون ولايكتوون  ولايتطيَّرون وعلى ربهم يتوكلون فبادر وقال للحبيب المصطفى أُدعُ الله أن يجعلني منهم فقال صلى الله عليه وسلَّم: أنت منهم. ليتبعه آخر فيقول وأنا يارسول الله فأجابه المصطفى عليه الصلاة والسلام:(سبقك بها عُكاشة)فالمعالي توهب لأهل الجِدِّ والسَّبَق، وتُعطى لأصحاب العزائم والهِمَم ،أهل المثابرة الذين يتقدَّمون ولايتردّدون، وبُسابقون ولايفترون، ويُسارعون ويجدُّون ،ليمتطواسروجها.

وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ (69(العنكبوت 

رحلتي في هذه السِّيرة مع رجلٍ من ذوي الهمم العالية ،والمراقي الرفيعة أجل هي كذلك مع هذا الرجل الفاضل ،والمُربي القدير ،والشيخ الجليل ،والخطيبِ المفوَّه الذي امتلك ناصية البيان واعتلى منبر الخطابة بصفائه وفصاحته،وصدقه وبلاغته بصوته الجهوري لمدةٍ ناهزت خمسين عاماً،وأمَّ النَّاس كذلك، زد على ذلك أنَّهُ كان شاعراً مُجيداً يعشق العربية والشعر ،ويستهويه الأدب والعروض،وقصص التراث الخالدة وأبطال الإسلام العظام ،كان ذا هيبةٍ ووقار وأظن تسميته بالغضنفر لتلك الصِّفة مع شجاعته وحزمه في الحق ، عاش حياته كلَّها على مستنيراً بهدي الحبيب المصطفى عليه الصلاة والسلام ،داعياً لاتباع سنته والاقتداء بهديه، معظِّماً لشعائر الله في جميع أموره ، همُّه المعالي وعظائم الأمور يسعى إليها ،ويحثُّ عليها ، كريماً متواضعاً ،خدوماً لأصحابه ،ذكره الطيب على كل لسان، تعرفه الأحساء وأهلها النجباء،وقلَّ من يأتي ذكره عنده فلايعرفه ، وقد ذُكر أمامي عرضاً قبل أكثر من خمس ثلاثين سنة من قبل مدير عام الإدارة بالحرس الوطني الرجل الأديب الأريب الأستاذ محمد إبراهيم السويلم  حفظه الله أثناء عملي مع الحرس الوطني السعودي زاده الله قوَّةً ومَنَعَةً وكنت في متابعة لمعاملة لي في الخبر حيث قال لي: هل تعرَّفت على الشاعر الشيخ عبد الرحمن الحواس الغضنفر ؟وكان يعرف مدى ولعي بالشعر وحبي له ووجودي في الأحساء  حيث وجود الشيخ فأجبته حينها بالنَّفي ولكن ماعلق في ذهني الغضنفر أكثر من الاسم ذاته إلى أن دعاني بعدها بسنوات جاري العزيز الشيخ حسن عبد الله العفالق رحمه الله إلى بيته القديم في حي الشروفية في المبرز في الأحساء وأظن ذلك في عام 1410ه وكان بيننا صحبةٌ وود وتقديرٌ متبادل فذهبت للدعوة ودخلت المجلس وإذ بشيخٍ عليه المهابة والرزانة وبجواره الدكتور وليد الناظر طبيب الأطفال المجيد المشهور وآخرين فألقيت عليهم السلام  والتحية ليعرفني الشيخ حسن العفالق أبوالوليد بهم ويذكر ابتداءً الشيخ عبد الرحمن الحواس (الغضنفر)رحمهما الله ثم ينتقل للدكتور وليد الناظر معرفاً وكان ابنه الوليد معنا في المجلس ليقول مداعباً ( وليد طهر وليد )وقصده د.وليد طهر ابنه الوليد وكانت دُعابةً لطيفةً. 

تلقى الشيخ علومه منذ نعومة أظفاره على يد الشيخ محمد المتين ليدرسه القرآن لمدة سنتين ثم لينتقل للمدرسة الأميرية الأولى في بيتٍ في النعائل ولما بنيت مدرسة الهفوف الأولى قرب عمارة السبيعي في سوق الهفوف انتقل إليها وتلك هي التي أضحت متحفاً فيما بعد، كان كريم إحدى العينين وكان يجالد نفسه في دراسته ويجدُّ ويجتهد فيها وكان يساعد والديه صباحاً ويدرس ليلاً على سراج أبو سنارة وأتم دراسته فيها بتفوق إلى أن فتح معهد المعلمين فالتحق به وكانت دراسته فيه أيضاً ليلية وتخرج من المعهد بتفوق بعد ثلاث سنوات ،وكان المعهد يشجعهم على إتقان جميع الآداب والفنون خطابةً وشعراً، مسرحاً وتمثيلاً وكأنَّ شيخنا كان يهواهم جميعاً ليتقن أدواراً عظيمة لشخصياتٍ فذَّةٍ في التاريخ الإسلامي العظيم حيث جسد شخصية خالد ابن الوليد رضي الله عنه حينما عزله عمر بن الخطاب أثناء معركة اليرموك  وله في ذلك قصةٌ طريفة مع ولده د.محمدحيث لقيه رجلٌ وهو في السبعين لم يلتقيا من زمنٍ بعيد فلمارآه قال له :خالد!!!! فتعجب ابنه!!! بعدها أزال الشيخ اللبس في ذلك حبث قال له هذا الرجل شاهدني وأنا أمثِّل شخصية خالد ابن الوليد وكان يتقن دوره ويحفظه عن ظهر قلب بل وأدوار من مثلوامعه وقد حباه الله بذاكرةٍ حفظية قوية  وقدرة عالية على الحفظ وكان يردد محفوظاته وينشدها في سفره ورحلاته ،كان من أساتذته الذين درسوه الشيخ الفاضل يوسف بن راشد آل مبارك والشيخ عبد الله عبد الرحمن آل مبارك والشيخ عبد المحسن المنقور والشيخ حمد بن جاسر والشيخ عبد العزيز التركي رحمهم الله أجمعين وهكذا أصبح مدرِّساً بعد الدراسة في معهد المعلمين لثلاث سنوات وبقي في سلك التعليم سبعاً وعشرين عاماً، لينتقل بعدها لمكتب الدعوة والإرشاد حيث تسنم إدارته لعشر سنوات ليتقاعد بعدها . 

كان شاعراً مجيداً وذا إلقاءٍ رائع،وكانت لغة القرآن خير الزاد والمداد له، وقدتأثر بشعراء الجاهلية وصدر الإسلام وفحول الشعر، عُرف بشاعر المناسبات، وقد ألقى شعره على جميع الملوك الذين عاصرهم بدءاً بالملك المؤسس عبد العزيز آل سعود رحمه الله عندماكان في العشرينيات من عمره ثم الملك سعود ثم الملك فيصل فالملك فهد فالملك عبد الله رحمهم الله أجمعين . 

كان يعشق العربية لغة الضاد ،ويحب الشعر والعروض ويحفظ الكثير منه وعيونه،ويُحببه لأولاده  وطلابه ومعارفه،حتى أنه يضع جوائز لذلك ، وكذلك حاله مع المقطوعات النثرية وقصص التراث حيث كان يحفظها عن ظهر قلب ويسردها على أصحابه مراراً ،ومن تلك القصص التي كان يسردها ويرددها  ويحفظها عن ظهر  قلب قصة تميم بن جميل الخارجي 

 

قال أحمد بن أبي داوود القاضي: ما رَأيتُ رَجلاً قَط نَزلَ به الموتُ، وعايَنَهُ، فما أدهشه، ولا أذهله، ولا أشغله عما كان أراده، وأحبَّ أنْ يَفعَلَهُ، حتى بلغه، وخَلَّصَهُ الله تعالى مِن القتل، إلا تميم بن جميل الخارجي، 

 فإنه كان خرج على أمر المُعتصم (تَمَرَّد)، فأُخِذ، وأُتي به إلى المعتصم بالله. فرأيته بين يديه، وقد بُسِط له النَّطعُ والسيف (النطع هو بِساطٌ من الجِلد يوضع تحت مَن يُقتل بالسيف)، فجعل تميم ينظر إليهما، وجعل المعتصم يصعد النظر فيه، ويصوبه. وكان تميم رجلاً جميلاً، وسيماً، جسيماً، فأراد المعتصم أن يستنطقه، لينظر أين جنانه ولسانه، من منظره ومخبره. فقال له المعتصم: يا تميم، تكلم، إن كان لك حجة أو عذر فابده. فقال: أما إذا أذن أمير المؤمنين بالكلام ... 

فأقول: الحمد لله الذي أحسن كل شيء خلقه، وقد خلق الإنسان من طين، ثم جعل نسله من سلالة من ماء مهين، يا أمير المؤمنين، جبر الله بك صدع الدين، ولم شعث المسلمين، وأخمد بك شهاب الباطل، وأوضح نهج الحق، إن الذنوب تخرس الألسنة، وتعمي الأفئدة، وأيم الله، لقد عظمت الجريرة، وانقطعت الحجة، وكبر الجُرم، وساء الظن، ولم يبق إلا عفوك، أو انتقامك، وأرجو أنْ يكون أقربهما مني وأسرعهما إلي، أَولاهُما بإمامتك، وأشبههما بخلافتك، وأنت إلى العفو أقرب، وهو بك أشبه وأليق، ثم تمثل بهذه الأبيات: 

أرى الموتَ بين السيفِ والنطع كامناً -- يُلاحِظُني مِن حيثما أتلفّت 

وأَكبَرُ ظنّي أنّك اليوم قاتلي -- وأيُّ امرئٍ مما قضى اللّه يَفلَت 

ومَن ذا الذي يُدلي بعذرٍ وحجّةٍ -- وسَيفُ المنايا بينَ عينَيهِ مُصلَتِ 

يَعزّ على الأوس بن تغلب موقفٌ -- يهزّ عليّ السيف فيه وأسكتْ 

وما جَزَعي مِن أن أموتَ وإنّني -- لأَعلَمُ أنَّ الموتَ شيء موقّت 

ولكن خَلفي صِبيَةٌ قَد تَرَكتُهُم -- وأكبادُهم مِن حَسرةٍ تَتَفَتّتِ 

كأنّي أراهُم حينَ أُنعى إليهِم -- وقد خمشوا حُرّ الوجوه وصوّتوا 

فإن عشت عاشوا سالمين بِغِبطَةٍ -- أذودُ الأذى عنهُم وإنْ مِتُّ مُوِّتوا 

فكم قائلٍ لا يُبعِدُ الله دارَهُ -- وآخرُ جَذلانُ يُسَرُّ ويَشمَتُ 

قال: فتبسم المعتصم.. ثم قال: أقول كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إن من البيان لسحراً. ثم قال: يا تميم كاد والله أن يسبق السيف العذل، إذهب، فقد غفرت لك الهفوة، وتركتك للصبية، ووهبتك لله ولصبيتك. ثم أمر بفك قيوده، وخلع عليه، وعقد له على ولاية على شاطئ الفرات، وأعطاه خمسين ألف دينار. 

ومثلها قصصٌ أخرى وأشعارٌ فيها من الحكمة والبيان والموعظة والروعة. 

كان يعشق العربية ومحبَّاً لها بشكل عجيب، وكذلك حاله مع  النحو والصرف والإعراب وصاحب أحجياتٍ فيه ، يسأل أولاده ليعلمهم ،وحدث أن جاءه مؤذنٌ للمسحد الذي يؤم ويخطب فيه فابتدره بسؤال إعرابٍ  ليُعرب جُملةً تنبيهاً وإشعاراً     كي لايلحن في الأذان. 

كان كريماً متواضعاً مبادراً لخدمة أصحابه،مضيافاً طُبع على الكرم والأريحية والمروءة ،اجتماعياً مُحبَّاً لأصحابه مولعاً بالرَّحلات، خدوماً لإخوانه حيث كان يتكفل بكل شيء في الرَّحلات لأريحيته إعداداً وتجهيزاً وترتيباً وكانت له رحلة مع المدرسين الخميس من كل أسبوع فيها من الشِّعر و الأدب والقصص والطرفة مع السَّمر  .  

كان له مواقف تربوية لازال أبناؤه الكرام يتذكرونها تعليماًو تطبيقاً ، تعريضاً وتلميحاًأما التحفيز فكان يدفعهم ليلوغ القمم علماً وأدباً ،ثقافةً ولغةً فكانوا نعما هم في بلوغ مناه محققين أعلى الدرجات العلمية والشرعية  منهم الأستاذ الدكتور إبراهيم عبد الرحمن الحواس فالدكتور أحمد فالأستاذ عبد الله ماجستير قانون  فالدكتور طارق فالشيخ محمد ماجستير توجيه وإرشاد  والأستاذة نورة والأستاذة مريم فالدكتورة هيفاء فالأستاذة بثينة عبد الرحمن الحواس وكلهم ماشاء الله تبارك الله فارسٌ في ميدانه و تخصصه حفظهم الله جميعاً آمين ورحم من رباهم لتحضرني هنا آيةٌ هي بحق شمسٌ منيرةٌ في فضاءات الحياة لمن يتدبرها ويتفهَّمُ أسرارها  أعوذ بالله من الشيطان الرَّجيم(وكان أبوهما صالحا) الكهف (82) .. 

كان الشيخ  يقود حملةً للحج لعشرين عاماً متوالية بدءاً من عام1395ه وكانت حملته راقية متميزة بخدماتها ، كان  في حياته كلها معظماً لشعائر الله،معظماً للصلاة عماد الدين وكان يأخذ زينته عند كل مسجدٍ وصلاة ،محافظاً على السنن  ينام ويصحو مبكراً لايترك قيام الليل،كثير القراءة لكتاب الله  ،حسن الصَّوت فيه ، إلى أن توفاه الله  رحمه الله وتقبله في عليين 

رثاه ابنه الشيخ الدكتور محمد عبد الرحمن الحواس بقصيدة اخترت منها: 

دعواتٌ من القلب والروح من ابنٍ صالحٍ بار  لأبٍ جدَّ واجتهد، وكدَّ وأعطى، وبذل ووفَّى وأدى الأمانةَ على أحسن وجه ،رحمه الله وطيب ثراه أحسن مثواه وجمعنا وإياه في مستقر رحمته في علِّيِّين والحمد لله رب العالمين 

وسوم: العدد 941